الخميس، 29 يوليو 2010




السبت، 24 يوليو 2010

أزمة السينما المصرية فى مؤتمر مع ثروت عكاشة عام 1965




منذ مولد السينما المصرية ، ومنذ عرفنا الأفلام الروائية الطويلة ونحن نسمع ونتحدث عن مصطلح "الأزمة " ، حتى أصبحت السينما المصرية والأزمة كلمتين متلازمتين كالعسل الأسود والطحينة البيضاء ، أو كالجبنة والحلاوة ، وكأن استدعاء أحدهما يستدعى بالضرورة الطرف الآخر !




كنت أقوم بترتيب بعض الكتب ، فعثرت على كتاب ضخم أصدرته وزارة الثقافة المصرية فى عام 1967عن دار الكاتب العرب . يحمل الكتاب الذى تفترب صفحاته من 400صفحة عنوان هو ( 4مؤتمرات) ، ويتضمن النصوص الكاملة لحوارات وزير الثقافة مع المبدعين فى أربعة مجالات هى : السينما والمسرح والكتاب والفن التشكيلى من خلال مؤتمرات متتالية أراد من خلالها "عكاشة" التعرف على المشكلات لوضع سياسات واتخاذ قرارات لحلها . المؤتمر الأول مع السينمائيين كان لمدة يومين فى أكتوبر من العام1966، وحضره مبدعين ومنتجين ومسئولين استمع إاليهم وزير الثقافة السابق وناقش أفكارهم .. وهناك 115 صفحة ممتعة من الكتاب مخصصة لمحضر حوارات عكاشة مع السينمائيين كنت أتمنى أن أنقلها كاملة على هذه المدونة لدلالتها على العصر وعلى آراء أصحابها وعلى تطور فكرة أزمة السينما مع ظهور القطاع العام السينمائى .. ولكن مالا يدرك كله لا يترك كله .. وسأختار هنا بعض الآراء لشخصيات مختلفة أثارت ضجة فى وقتها لأنها قيلت بعفوية وتلقائية وصراحة .. المهم أن " ثروت عكاشة " قال حرفيا بعد نهاية المؤتمر : " الظاهرة الغريبة التى لاحظتها اليوم وأمس أن هناك سوء إدارة فعلا ، والفرص غير متافئة فعلاً ، ويجب أن نولى هذا الموضوع أهمية و ننصف كل الناس بمعدل . لا أقول هذا الكلام كشعار ، ولكن أستعجب لماذا لا يكون تنظيما فيه شئ من العدالة بحيث نرضى أكبر قدر منا سواء عمال أو فنيين ..ليس من الضرورى أن تستحوذ طائفة معينة على كل شئ ويجوع الباقين . إن هذا غير معقول فى مجتمعنا الذى يبنى على عدم استغلال الإنسان للإنسان . " وقال أيضا : " لن أعمل المعجزات ولكن سأعمل ما فى وسعى لتحقيق الأهداف السليمة الصحيحة النقية التى تكلمنا عنها أمس واليوم ." والآن أعرض بعض الآراء التى طرحت منسوبة الى أصحابها بدون تغيير بالحذف أو الإضافة :




الأستاذ فطين عبد الوهاب :




هو لما سيادتكم قلتوا عن الأزمة المالية يا فندم الموجود فيها المؤسسة حاليا أعتقد إن سببها الرئيسى إن السينما المصرية من يوم ما بدأت اعتمدت على 60% إيرادات من الخارج ، 40% من الداخل - ال60% من الخارج دول محددين للبلاد التى تتكلم العربية ..السوق ده دلوقتى لخلافات سياسية بينا وبين هذه البلاد أو معظمها مقفول تقريبا ، ولذلك قلّت الإيرادات فى الوقت الذى زادت فيه التكاليف ، فيه رأى بيقول نخفض التكاليف عشان نوازن بين المصاريف والإيراد . هذا الرأى سلبى ونتيجته حتون إننا نعمل أفلام رديئة - أقصد أردأمن الأفلام اللى احنا نصبو إاليها - فيه رأى ثانى بيقول إننا نخرج من هذا السوق لإن حل المشاكل السياسية دى قد يأخذ وقت طويل جدا ، فعشان نخرج للسوق العالمية ، يجب إننا نعمل أفلام على مستوى عالى جدا ، وفى الوقت نفسه النجوم بتوعنا يكونوا معروفين فى الخارج ، وده بييجى فى دور الإنتاج المشترك ، الإنتاج المشترك لو يجيبوا مثلا بطلته مصرية وبطله أمريكى ، فيلم مثلا بطلته إيطالية وبطله رشدى أباظة يتكلم طليانى ييجى ويمشى ، آجى أنا أعمل فيلم لرشدى مثلا ، وأعمل فيلم بخمسين ألف جنيه فقط ، فهل أقدر أسوّق فى الخارج؟ لازم نبحث عن سوق جديد ، وحتى البلاد الصديقة لها ظروف برضه تمنعها إنها تشترى الأفلام بتاعتنا .السبب لهذا إن إحنا فى المرحلة اللى يجب فيها على القطاع العام بالذات إنه يعمل أفلام اشتراكية وأفلام سياسية ، هذه الأفلام نعلم مقدما إنها مش حيشتروها ، يعنى مثلا فيلم ثورة اليمن مرضيوش يشتروه ، ذنب الشركة المنتجة إيه ؟ هية لازم تنتج بالطبع .. أقصد إنها ستخسر 70ألف جنيه فى خبطة واحدة ، وأنا أقترح إن الإتحاد الإشتراكى ينتج هذه الأفلام على مستوى عالى جدا ، وتتلاءم مع قيمة المواضيع اللى إحنا محتاجينها للتوعية ، الفيلم الثانى مكتوب كويس وموضوع كويس حتى لو كان فيلم استعراضى ، فيه أفلام فيها رقص وغناء ، هذه الأفلام تخدم الناحية الإشتراكية ، حيعمل الفيلم الشرقى يضحك يرقص ليرد على الدعاية اللى بيقولها الإستعمار إن احنا عايشين فى كآبة وفى حرمان وغيره وشكرا .



الأستاذ كمال الشناوى :



كلمتين باختصار بالنسبة لدور القطاع الخاص ، قبل أن ينشأ القطاع العام ، القطاع الخاص كان بيعمل حوالى 60فيلم فى السنة ، هل بيستوعب جميع العاملين من فنانين أو عاملين فى التصنيع السينمائى ، ما كانشى فيه يمكن مستويات كبيرة لكن القلة كانت جيدة ولحد ما قطعا أفلام تعرض فى مهرجانات ، تسوق تسويق خارجى ، وكانت بتجيب معاها عملة صعبة فى خزانة الدولة ، دلوقتى عشان نخلى القطاع العام يعمل ، ويعمل أفلام جيدة ، الأفلام طبعا حتكون جيدة ومش بالعدد الكبير اللى يمكن القطاع العام يقوم بيه ، يعنى نقدر نقول نحدد القطاع العام يعمل 20فيلم فى السنة ، طيب المفروض إن احنا فى بلد إشتراكية فيه جميع العاملين بالسينما الدولة توجد لهم العمل ، ففيه إقتراح لتنشيط القطاع الخاص ، القطاع الخاص ممكن يكون تحت إشراف الدولة من ناحية القصة والإخراج والتصدير ، وفى هذه الحالة نكون فى تعاون مع القطاع العام بمساعدة القطاع الخاص ، دى تتأتى بحاجات كتير جدا . النظر فى الإمكانيات اللى هية موجودة فى السينما زى الإسديوهات .. الأجور عالية فيجب نشوف ليه الأجور عالية ، ليه الفيلم الخام غالى ، ليه دور العرض لا تحاول إنها تعمل نسبة خاصة للقطاع العام عشان يقدر يسهم مع الدولة فى اتجاهاتها ، ولكن كمان للقطاع الخاص إمكانياته ، فى الأول كان بياخد الأستديو والبلاتوه ، ويمضى على كمبيالات ، وكان كل واحد يقدر يدفع إلتزاماته كان بياخد ومكناش بنشتكى شكاوى كثيرة لكن كانت العملية ماشية ، فلو فكرنافى مساعدة القطاع الخاص عشان يمشى دوره ، أعتقد إن ده حل عشان ميكونشى فيه بطالة وشكراً .



الأستاذ حسن الإمام :



إننى أحتج على ما ذكره السيد /السيد صلاح تهامى بأنه لا يوجد وعى اشتراكى بين السينمائيين ، لأن بعضهم أو معظمهم قد تمكن من الحصول على أكثر من عشرة آلاف جنيه ، ويؤسفنى كثيرا جدا أن أقرر أمام السيد الوزير الحقيقة المؤلمة بأن هناك بعض السينمائين الكبار لا يجدون عملا منذ أكثر من عام نتيجة لسوء تنظيم الإدارة ، ولم تمد الدولة لهم يدا بمساعدة مما اضطر هؤلاء أن يبيعوا أثاث منازلهم وحاجياتهم فى المجتمع الإشتراكى الذى يعيشون فيه ، فى حين أن السينمائى المصرى أول من نادى بتطهير أرضنا الخضراء من الإقطاع ، وأول من نادى بالجمعيات التعاونية ، وحث على ضرورة وجود التعاون فى فيلم الخرساء ...إلخ ، وأود أن أقول بأننا جميعا جمال عبد الناصر ، وكلنا ثروت عكاشة لأنه فنان ، وإننى أخاطب فنانا ، ولا أود أن ألقبه بالسيد النائب ، وإنما أقول له زميلى وأخى ثروت عكاشة لأننا نعيش فى مجتمع اشتراكى ، والحل الوحيد إننا ننتشر ، ولا داعى للتضخم الموجود فعلا بين المخرجين و السينمائيين ، وإذا كان لدينا 250مخرجا فكيف تشغلهم الدولة ؟ إن هذا مستحيل ، ولابد من أن ننتشر فى العالم العربى والأجنبى ، فمن بيننا من لديه ثقافة أجنبية كبيرة ، ومنا من درس أصول السينما ، يجب أن يكون هناك وعى بالميزانية والإنتاج والصناعة .. ولا شك أن الإستاف الموجود فى الورش والمعامل و الموظفين يشكلون عبئا على ميزانية الفيلم نفسه فى الوقت الذى لا توجد فيه وسائل مريحة للنوم والجلوس والمشرب بالإستديوهات ، فالوعى السينمائى للإنتاج الجديد غير موجود ، وكما قلت إن القديم كالجارية يقل ثمنها كلما كبرت .. وفى رأيى أن يعاد النظر بالنسبة لتقييم أجور الفنانين و المخرجين والممثلين .. إلخ ، وأتمنى أن يظل باب سيادتكم مفتوحا .



الأستاذ حسن يوسف :



.. أقترح إنشاء بنك للسينما ، وربما أتكلم أكبر من تفكيرى أو عقلى ولكن هذا هو رأيى . نفرض أنه وضعت ميزانية للسينما مليون جنيه ، نأخذ بع مليون تتحكم فيها الدولة لتعمل عيلمين أو ثلاثة على مستوى فيلم ثورة اليمن وغيره من الأفلام التى تخدم الأهداف السياسية مثل قضية فلسطين أو قضية اليمن ، والتى يهمها أن تروجها لخدمة القضايا الوطنية ، يتبقى لدينا ثلاثة أرباع المليون ، أرى إلغاء شركات القطاع العام فى الإنتاج ، والرجوع للمنتجين الذىن يعملون فى مكاتبهم ، وتشكل لجنة لبنك السينما من أشخاص نثق فيهم تقر الموضوعات والسيناريوهات ، ونعطى للمنتجين سلفيات ، ويوضع لهم حد أدنى وحد أقصى ، أى أن لجنة بنك السينما هى التى تحدد ميزانية كل فيلم ، وبعد أن ينتج الفيلم ويكسب منه المنتج ، يعطى للبنك السلفية ونسبة معينة من الأرباح ، ثم يعطى البنك هذا المبلغ لمنتج آخر حتى يرجعها ، وهكذا نجد ال20ألفا مثلا تعمل فى السنة ثلاث مرات .. ويكسب البنك فى كل مرة 15% من كل منتج . ربما يكون هذا الحل تافها ولكن هو رأيى وأشكركم .


الأستاذ رشدى أباظة :


بالنسبة للإنتاج دخلت فى مجال الإنتاج وعملت ثلاثة أو أربعة أفلام ، لم أدخل كتاجر لأننى أساسا ممثل ، وكان عندى إتنين من الموظفين فى المكتب ، كانوا يقومون بالعمل الكافى حتى ينتهى الفيلم ، وفى يوم من الأيام تعلمت من الأستاذ حلمى رفلة شيئا ، قال إن المنتج الناجح ليس من الضرورى أن يكون لديه مكتب ، ويمكن وهو فى القهوة أن يعمل .

وردا على قيل من إن المنتج يشرب القهوة ويخرج ، وما ذكره الأستاذ سماحة ، أود أن أقول إنه أيام القطاع الخاص كان هذا يحدث أيضا ، المهم أن لدينا مديرين إنتاج على الرف ، وأن مساعد إنتاج تجعله مسئولا عن أنتاج الفيلم ، لقد بدأت ب150جنيه ، وكنت أحاول فى كل فيلم أن أزيد ولو عشرة جنيهات حتى وصلت الى ما وصلت إليه ، كان أمامى فريد شوقى وشكرى سرحان ، كنت أجاهد وأحاول أن أكون أحسن منهم ، وإلا لكنت قنعت بشهاداتى ، وعملت فى أىّ شركة ، وكنت قد وصلت الآن الى رئاسة مجلس إدارة أى شركة أحصل على 250جنيه وعربة فيات 2300 .

إن أىّ شخص يدفع للسايس قرشين صاغ ، أما رشدى أباظة فلو دفع أقل من عشرة قروشلبصق عليه السايس ، إنى مضطر لأن يكون عندى عربتين ، عربة عادية وأخرى تبقى فى الخارج 28 يوما كل شهر ولا أركبها إلا ليرانى الناس بين وقت وآخر فيها . هذه كلها تشكل تكاليف . إنى مضطر لأعمل 60بدلة كل موسم لأن أغلب هذه البدل أمثل بكل منها فيلم ثم أتركها .

إن لدينا ظروفا معينة تجعلنا مضطرين لأن نعيش فى فخفخة بالنسبة للسفر الى الخارج الذى تكلم عنه السيد حسن الإمام ، ويدعى البعض أن الحكومة تمنع السفر ، إنى متأكد أن هذا غير سليم ولكن الملاحظ إنه عند سفر أىّ واحد ، نجد إن الصحافة المصرية تشتم فيه ..لماذا ؟ إننى عندما أسافر وأعمل هناك فإنما أمثل بلدى . إنى رشدى المصرى ، إنى سفير غير اعتيادى ، ووأذكر عندما سافرنا الى برلين لحضور المؤتمر كان جيمس ستيوارت معه باسبور على أنه سفير رسمى ، كنت أنا وبدرخان والليثى عندما نذهب الى ( الأفرو) نقسم ثمن التاكسى سويا ، بينما جيمس ستيوارت يجلس فى سيارة مكشوفة فى موكب كبير وراءه عشر عربات وحوله أربعين موتوسيكل . كان لديه إمكانيات .

إننى أتوقع إذا سافرت الى برلين ، وعندى عربة رولزرويس وسواق ومظاهر لأمكننى الرجوع بالجايزة الثالثة .

السينما كما قال توفيق الدقن همبكة ومظاهر وحداقة وليست روتين .. ونحن كمصريين أبو الحاجات دى .

الأربعاء، 21 يوليو 2010




السبت، 17 يوليو 2010

( هناك أفلام تتضمن رسائل سياسية لا تخطئها العين مثل فيلم (10000سنة قبل الميلاد الذى يقدم صياغة أسطورية لتاريخ الشعب اليهودى . هذا المقال المنشور فى جريدة روز اليوسف اليومية بتاريخ26/3/2008 يعبر عن معنى الرسالة وأهدافها)

النبوءة أصبحت حقيقة .. والحقيقة تحولت الى أسطورة !

محمود عبد الشكور

طوال مدة عرض فيلم (10000سنة قبل الميلاد ) للمخرج (رولاند إيمريخ) ، لا تستطيع أن تبعد عن ذهنك قراءة الإسقاطات الحوارية أو البصرية التى تعطى للحكاية بعدا آخر، وتكشف عن معانى أبعد من الإبهار فى الصورة أو فى استخدام المؤثرات الصوتية أو فى خدع الكمبيوتر . هناك إسقاط واضح على بداية تاريخ اليهود ، وقصة الصراع بين "موسى " و" فرعون" .. بين شعب من العبيد وحكام من الجبارين ، ولكن القصة تخضع هنا لتحويرات كثيرة لأن البناء بأكمله يحاول أن يمزج بين الواقع والأسطورة ، ولذلك كانت البداية من النبوءة التى ستتحول الى حقيقة ، ثم تصبح الحقيقة أسطورة لتعيش أطول ، ولُتلهم شعوبا أخرى !

" رولا ند إيميريخ"مخرج أفلام كثيرة معروفة ربما أشهرها فيلم ( يوم الإستقلال ) الذى لايخلو من إسقاطات ومعانى تتجاوز كونه أحد أفلام الخيال العلمى وسلسلة حكايات الغزو القادم من الفضاء . اشترك"إيميريح" مع " هارولد كلوزر " فى كتابة (10000سنق قبل الميلاد)، ومنحا لأنفسهما حرية واسعة فى الخيال وصولا إلى هدف وحيد هو : كيف تحول الشعب الذى يحكى عنه الفيلم (أطلقوا عليه شعب الياجال) ، وكيف تحول زعيمه الشاب ( اسمه فى الفيلم داليه) إلى أسطورة؟ .. ويقوم الراوى ( بصوت عمر الشريف المؤثر) ببداية السرد على طريقة شعراء الملاحم ، ثم يتدخل أحيانا للتعليق ، ويختم الحكاية مؤكدا مولد الأسطورة.

الحدوتة تبدو بسيطة فى ظاهرها حيث نتعرف على هذا الشعب ( الياجال) الذى يعيش وسط الجليد معتمدا على الصيد بقتل حيوان ضخم يطلق عليه الفيلم اسم ( المناك) ، وبيدو من حيث الشكل أقرب الى حيوان الماموث المنقرض الذى يعتبر الجد العملاق للأفيال . ولكن هذه الحيوانات تختفى فجأة ، وتحاول الأم العجوز حكيمة الشعب وعرافته أن تفتش عن السبب . فجأة تظهر فتاة صغيرة زرقاء العينين تتوقع العجوز بالنظر الى وجهها أن تكون زوجة لمن سيقود (الياجال) الى البقاء بعد أن يمروا بأزمة مدمرة . الفتاة اسمها " إيفوليت" ، ويقول الراوى إنها تمثل الوعد بالحياة ، ومنذ البداية يحلم الطفل " داليه" بأن يفوز بالفتاة الصغيرة التى تخبرهم أنها فقدت أهلها بعد مذبحة قامت بها شياطين رباعية السيقان ! .. وهكذا يبدأ الفيلم بشعب فى خطر ، وبنبوءة تتحدث عن ماساة قادمة لابد لها من مخلّص بمساندة فتاة تحمل وعدا بالحياة .

يبدو " داليه" إنسانا عاديا بعيدا عن الكمال خاصة أن والده قد ترك الشعب عندما عرف النبوءة المنذرة ، كما أن " داليه" يدعى أنه نجح فى قتل أحد حيوانات " المناك" العملاقة ليفوز بالرمح الأبيض الذى يتيح له الزواج من " إيفوليت" ، والحقيقة أنه كان يفر هاربا من الحيوان .. ولكن "داليه" لديه شجاعة الإعتراف بذلك ، كما أنه لن يتردد فى الخروج مع بعض زملائه لمطاردة جنود العدو الشرس الذى اختطف بعض ابناء ( الياجال) ومنهم " إيفوليت" ، ويتحدث هؤلاء الجنود لغة مختلفة ، ويبدو إصرارهم على اختطاف أبناء ( الياجال) بدلا من قتلهم أمرا مثرا للدهشة . بعد مغامرات أسطورية يواجه فيها " داليه" وزملاؤه نسورا وحشية ، ويقوم هو بإنقاذ نمر من الموت ، يلتقى بشعب من الزنوج يدعى شعب ( الناكو) . من الواضح أنهم أيضا يعانون من العبودية ، ولأنهم يعتقدون أن مخلصهم لديه القدرة على الحديث مع النمر العملاق الذى أنقذه "داليه" ، فإنهم يتوقفون الى حيث جبل الآلهة ، ويعرف"داليه" أن والده الغائب قد اختفى هناك ، ثم يشاهد عن بعد قوارب تحمل أسرى ( الياجال) واسرى ( الناكو) عبر نهر يخترق صحراء شاسعة !

فى الجزء الأخير تبدو الرومز أكثر وضوحا حيث يتضح أخيرا أن الأسرى يسخرو ن تحت ضرب السياط لبناء ما يشبه الهرم العملاق ، وأن التسخير يشمل أيضا حيوانات " المناك " العملاقة ، ومن خلال مجموعة من الكهنة تنقل تعليمات الحاكم الذى يطلق عليه اسم " الجبار" ، والذى يعيش داخل الهرم مستترا ومعزولا ومدعيا أنه إله ، ومن خلال أحد الأسرى يعرف " داليه" أن هذا الملك الإله لايخيفه سوى شخص نقشت على يده علامة محددة كما أخبره العرافون ، وفيما بعد سنعرف أن الشخص المقصود ليست إلا "إيفوليت" ، ولكن من سيقود المعركة هو "داليه" الذى سيطلب من الجبار أن يأخذ معه شعبه ، ورغم أن الجبار يوافق إلا أنه يشترط الإحتفاظ ببعضهم لكى يقتلهم . هنا يسدد إليه "داليه" رمحه ليقتله ، وليثبت للجميع أن الجبار ليس إلها . يقتحم العبيد المكان ويدمرون قمة الهرم باستخدام الحيوان العملاق ، ورغم أن " إيفوليت" تموت بطعنة غادرة ، إلا أن الأم العجوز على بعد آلاف الأميال تعيد بعثها من جديد ، وتعود " إيفوليت" و "داليه" الى الوطن حاملين بذورا أخذوها من شعب ( الناكو) ، ووسط زروع خضراء نامية يحتضن " داليه" حبيبته لتولد اسطورتهما وأسطورة شعبهما إلى الأبد !

حرصت بقدر الإمكان أن أحكى لكم التفاصيل الأساسية للحكاية التى تقدم إسقاطات واضحة عن نبوءة موسى ، وصراعه مع فرعون حتى انتصاره ، والأمثولة هنا ليست متطابقة مع القصة التوراتية أو القرآنية ولكنها تأخذ منها المعنى العام وتدمجه فى عالم اسطورى قادم من عصور سحيقة ، وتتناثر مشاهد هنا وهناك توصل الفكرة ، كما تتم عملية رسم الشخصيات بطريقة موحية تحاول أن تلفت أنظار المشاهد إلى أن هناك أبعادا أخرى وراء الحكاية . وستكتشف فى النهاية أن شعب الياجال قد تحول من صيادين الى محاربين ، وأن "داليه" قد نجح أخيرا فى أن يجعل لشعبه مستقرا تحت الشمس لا يخضع للتقلبات الموسمية ، وأنه تلقى وعدا قدريا بالحياة ممثلا فى فتاة جميلة لا يمكن أبدا أن تموت . نجح "داليه" أيضا فى إثبات أكذوبة الملك الإله ، كما أطلق سراح شعبه من الأسر ، والأمران هما بالضبط ما حققه موسى فى صراعه مع فرعون ، وإن اختلفت الطرق والأساليب .

هناك إشارات تظهر أن "داليه" ليس شخصا عاديا حيث يساعد النمر متوقعا أن يرد له النمر الجميل ، وهذا ما يحدث حرفيا ، وتكون هذه العلامة طريقه للحصول على اعتراف شعب ( الناكو) ، وهناك نبوءة فى أول الفيلم تجعله مخلّص شعبه ، وسيكون عليه أن يحول النبوءة الى حقيقة .. أما مشاهد الجبار فتكاد تصرّح أننا أمام الفرعون الملك الإله بكل تفاصيله وغطرسته وإصراره على استعباد الآخرين ، ولن تظهر ملامحه إلا فى لحظات مصرعه ، وهو يبلغ تعليماته عن طريق كهنته الذين يعقدون أيديهم على صدورهم على الطريقة الفرعونية الشهيرة رغم اختلاف الزى ، ويختار المخرج أن يقدم مشاهد الهرم من أعلى مظهرا آلاف العبيد والحيوانات العملاقة وهى تتحرك تحت ضربات السياط لاستمال البناء ، كما يقدم من أعلى عملية هدم قمة الهرم الذهبية تعبيرا عن نجاح العبيد فى تحقيق النصر بعد أن أطلق "داليه" شعارا مؤثرا هو "العبيد قادمون" .

ولكن فيلم (10000سنة قبل الميلاد ) لا يتوقف عند عودة الأسرى ، وقتل الملك الإله ، وتحويل الصيادين الى محاربين ، وحصول شعب الياجال على الحياة المستقرة ، ولكنه يغلف الحكاية بأملها بغلاف اسطورى بحيث يبدو الإنتصار خارقا للمألوف ، ومتجاوزا للقدرات البشرية ، وكأنه تنفيذ لإرادة عليا قدرت وقررت وحسمت النهاية قبل أن تبدأ مثلما يحدث فى الأساطير الإغريقية ، وهكذا تتطور النبوءة التى قالتها العجوز فى بداية الفيلم الى حقيقة بسبب شجاعة "داليه" وعيون " إيفوليت " الحارسة ، ثم تتحول الحقيقة الى أسطورة مستمرة وخالدة ، وإذا كان الراوى يقول فى أول الفيلم إن الزمن هو الذى سيفرز الأساطير من الحقائق ، فإن المخرج يرى -على ما يبدو- أن الياجال قد جمعوا بين الأمرين فصاروا حقيقة وأسطورة معا .. والمعنى لا يخفى عن الفطن !

تضافر السيناريو والإبهار البصرى والموسيقى التى تبرز قرع الطبول وأصوات آلة الكورنو المنذرة والموسيقى النحاسية الصاخبة والخدع والمؤثرات البصرية ومونتاج " ألكسندر بيرز" فى إيصال الحكاية وما وراءها ، وربما كان أضعف العناصر أداء الممثلين خاصة البطلين ( ستيفن ستريت ) و (كاميلا بيل ) ، فهذه النوعية من الأفلام لا تحتاج مشخصاتية كبار ، وإنما إلى سيناريو وإمكانيات ضخمة ، وإبهار بالصوت والصورة !

الخميس، 15 يوليو 2010




الجمعة، 9 يوليو 2010

(تحويل الروايات الى أفلام ليس عملا سهلا .. وهذا هو الدليل من فيلم " الحب فى زمن الكوليرا "، والمقال منشور فى روز اليوسف اليومية فى 2/7/2008)



الحب يقهر الموت .. والرواية تهزم الفيلم !



محمود عبد الشكور



لو كنت ممن قرأوا الترجمة العربية لرائعة الروائى الكولومبى الفذ ( جابرييل جارسيا ماركيز ) " الحب فى زمن الكوليرا " ( ترجمها صالح علمانى فى 445صفحة ) .. فستشعر بالإحباط الشديد بعد مشاهدة الفيلم المأخوذ عن الرواية ، والذى يحمل اسمها للمخرج "مارك نوويل "، فرغم أن الفيلم يلخص معظم الأحداث الرئيسية فى الرواية إلا أنه يخلو تماما من سحرها ومن تأثيرها ومن تأملات مؤلفها المبدع عن الحب والحياة والموت والشيخوخة والزمن . إنه بالضبط الفارق بين أن تلخص كتابا وبين أن تصل الى مغزاه ومعناه . الفارق بين أن تكون مهموما بأن يصبح الإبداع الروائى منطلقا لإبداع سينمائى مواز، وبين أن تكون مهموما فقط بالإختصار والحذف ، أما الذين شاهدوا الفيلم ولم يقرأوا الرواية فلا شك أنهم أخذوا فكرة عن ( حدوتة ) الحب فى زمن الكوليرا ، وعرفوا بعض شخصياتها التى لا تنسى ، ولكنهم بالتأكيد لم يعيشوا العالم الذى أبدعه " ماركيز " ، وافتقدوا كثيرا من المشاعر والأحاسيس والمواقف التى سحقتها النظرة السطحية والوقوع فى أسر الحدوتة دون التعمق فى أسرار ما تعبر عنه . إنه فيلم يذكرك بما تفعله "هوليوود" فى الأعمال المأخوذة عن روائع الرواية العالمية، وليس بما تقدمه السينما الأوربية من معادل سينمائى وفهم أعمق لنفس الروائع .



يجب فى البداية أن نعذر كاتب السيناريو " رونالد هاروود " لأن تحويل " الحب فى زمن الكوليرا " الى السينما ليس سهلا ، ولكنه أيضا ليس شيئا مستحيلا ..صحيح أن الرواية مثل أعمال ماركيز ( ولد عام 1928فى أركاتاكا فى كولومبيا وحصل على نوبل عام1982) تزدحم بالشخصيات ، كما أن مؤلفها من أعظم الحكائين على مر العصور ، ولذلك يسترسل فى السرد بسلاسة وننتقل معه من صفحةالى أخرى لنكتشف فى النهاية أننا عشنا عشرات السنوات ، وصحيح أن " ماركيز " - وهو كاتب سيناريو أيضا - كان يعارض تحويل رواياته الى أفلام لأن ذلك يحصر الخيال المحلق الذى تقدمه ، ولكن الصحيح أيضا أن أعمال "ماركيز " - مثل كل روائع الرواية العالمية -تعطى فنان السينما مادة درامية وإنسانية لا حدود لها ، والمشكلة تبدأ عندما يعتقد هذا الفنان أن دوره يقتصر على التلخيص والنقل وليس التفاعل الخلاق مع الرواية والتعبير عنها والتأمل فى أفكارها ومشاعرها ، وإذا كانت المسألة فى أمانة نقل الأحداث والحكايات فإن الأكثر أهمية فى رأييى أن تنقل روح هذا العالم اللاتينى الصاخب والملون الذى يجمع ببساطة بين ، وبدون أدنى شعور بتأنيب الضمير بين إشباع مطالب الجسد والفناء فى أسرار الروح ، والذى يجمع أيضا بين التدين الشديد والإحتفاظ بتقاليد وثنية وبدائية .



روعة" الحب فى زمن الكوليرا "تحديدا فى أنها لا تشبه أبدا الأعمال الرومانسية التى تهرب من الواقع ، ولكنها تحكى عن أشخاص من لحم ودم وبكل نقاط ضعفهم وأمراضهم . الحدوتة فى الرواية والفيلم لا تتغير معالمها ، بل إن الفيلم يبدأ - مع الإختصار والتلخيص فى الحوار - بمشهد وفاة (د خوفينال آربينو ) العبثى عندما يصعد الى الشجرة لإحضار الببغاء الخاص به فيسقط على ظهره ليموت ، ثم ننتقل - مثل الرواية - للإستعدادات الخاصة بجنازة الطبيب الشهير بحضور أرملته العجوز ( فرمنيا داثا ) ، وعندما يسمع " فلورنتينو آرثيا ) بوفاة ( د خوفينال ) يذهب الى أرملته لكى يكشف لها عن حبه ، وعن انتظاره للحظة وفاة زوجها من51عاما ، ولكنها تطرده بقسوة ، ثم تسمح لنفسها بالعودة الى خطابات ( فلورنتينو ) للتتذكر حكاية حبهما فى المراهقة . لا بأس من هذه البداية كحيلة لسرد وقائع الحكاية الغريبة المعقدة بين الأبطال الثلاثة : الزوج (د خوفينال ) والزوجة ( فرمنيا ) والعاشق الأبدى ( فلورنتينو ) ، ولكن المشكلة أن كاتب السيناريو " هاروود " سيقوم تقريبا بتلخيص أحداث الرواية دون أن ينجح فى " تضفير " الوقائع ، ودون أن ينجح فى خلق بناء مواز لعالم " فرمنيا " وعالم "فلورنتينو " ، ولذلك سيتحول الفيلم فى فترات طويلة منه الى ما يشبه الفلاشات السريعة وقصاقيص المشاعر والعواطف ، وسيهبط الإيقاع فى مناطق كثيرة ، وسيفشل المخرج فى اكتشاف العلاقة بين الأحداث المتوازية ، لذلك سيكتفى بالعرض المحايد باستثناءات قليلة مثل توظيفه الجيد لأغنيات بصوت " شاكيرا " الباكى ، وبكلمات عذبة وألحان مثيرة للشجن استخدمت فيها آلة الجيتار ، ومن أمثلة تلك الأغنيات ( آه ياحب .. أريد أن أذوب فيك ) ، وأغنية ( إننى أفكر فيك كل يوم ) ، وأسوأ ما فى هذا السرد التلخيصى للأحداث أنه جعل الإحساس بالزمن شديد الإفتعال، ولولا الشعر الأبيض وانحناءة الظهر لما شعرنا أننا نستعرض حكاية حب طويلة عمورها نصف قرن بين سنوات القرن التاسع عشر ، وبدايات القرن العشرين .


كان " فلونتينو " عامل تلغراف فقير يكتب الشعر . عندما كان فى سن الثامنة عشرة وقع فى غرام الجميلة " فيرمنيا " ابنة أحد تجار البغال السشرسين . كتب لها رسائل حب تبدأ بعبارة ( آلهتى المتوجة ) ، وعزف له الموسيقى على آلة الكمان أسفل منزلها ، وبدأت هى فى الإستجابة له بتشجيع من عمتها التى لم تتزوج . كان حبا أقرب الى المرض استمر أربع سنوات ، ولكن الأب الشرس رفض أن يكون عامل التلغراف زوجا لابنته التى يطمح أن ترتبط بمن هو أكثر ثراء ومكانة . اختار الأب أن يصطحب ابنته الى أقاربهم فى مدينة بعيدة لمدة عام ، ولكن " فلورنتينو " كان يتبادل مع " فيرمنيا " برقيات الحب ، وبعد عودتها كانت نظرتها اليه قد تغيرت . قالت له فى قسوة :" لم يكن حبا.. كان وهما ". وكانت صدمة عمره .


أقسم ( فلورنتينو ) على أن يُخلص ل ( فيرمنيا) الى الأبد ، وصمم على أن تكون قدره ، وأراد أن يصبح ثريا ليكون جديرا بها ، وفى الرواية سيحاول أن يستأجر أحد الغواصين النصابين ليبحث له عن ذهب السفن الغارقة ، وستحاول أمه أن تشغله بأن يعمل فى البواخر التى يمتلكها عمه " ليو" ، وفى أولى رحلاته الطويلة ستتغير حياته ، وسيعرف لأول مرة الحب الجسدى ، وبعد أن كان يكتب رسائله الغرامية فى أحد بيوت الدعارة دون أن يلمس واحدة من العاهرات ، أصبح يجد عزاءه فى الحب الجسدى ، وقرر أن يكتب أسماء عشيقاته حتى وصل عددهن الى 622إمرأة وفتاة ، ولكن كل ذلك لم يستطع أن ينسيه حبه الأول " فيرمنيا" . كان يتابع أخبارها ، وعرف أنها تزوجت من "د خوفينال " الطبيب العائد بعد دراسته فى باريس ، وعرف أنها أيضا أنجبت من زوجها الذى أصبح من مشاهير المدينة لجهوده فى الرعاية الصحية ، وفى تنظيف المدينة الملوثة التى تهدد حياة السكان بالإصابة بالكوليرا فى الوقت الذى يطاردهم فيه شبح الحرب الأهلية على فترات متقاربة . فيرمنيا - من ناحيتها - ستظل خمسين عاما غير متأكدة هل أحبت ( فلورنتينو ) أنه مجرد وهم كما قال لها والدها .. زوجها الطبيب منظم . حياته العلمية تنتقل معه الى المنزل .. فى مرحلة تالية سيخونها مع إحدى مريضاته ثم يعتذرويبتعد عن العشيقة . سيتسرب الملل الى حياتها .. ستكلمه عن الحب فيحدثها عن الإستقرار . فى مرحلة الشيخوخة سيتشاجران لأتفه الأسباب ، ولكنها ستحزن عليه بشدة عند وفاته ، ثم سيظهر ( فلورنتينو ) العجوز فى حياتها ولكن بعد أن أصبح رئيسا لشركة ملاحة بحرية عملاق ورثها عن عمه .


فى الجزء الأخير من الفيلم والرواية أيضا ، سيصطحب (فلورنتينو) حبيية العمى فى رحلة بحرية ، وستتجاوب معه لأول مرة ليمارس معها الحب الجسدى رغم أنهما تجاوزا سن السبعين ، وسيقترح هو على قائد الباخرة ألا يعودا الى المدينة ، ويكون الحل بأن يرفع البحار العلم الأصفر والعلم الأسود دلالة على وجود مريض بالكوليرا معهم .. ترفض السلطات دخولهم فتعود السفينة بهم . تقول له ( فيرمنيا): الى متى سنظل نذهب ونعود بالباخرة ؟ ، فيرد عليها ( فلورنتينو): "مدى الحياة ". وهكذا يفتح موت الزوج الباب أمام حياة جديدة لكل من ( فيرمنيا) و(فلورنتينو)، وهكذا يحمى علم الموت رحلة حب تأخرت أكثر من نصف قرن ، وهكذا أيضا يعبر الحب القرن التاسع عشر الى القرن العشرين عصر التقدم العلمى وثورة الحياة المادية . يقول (ماركيز) فى رائعته : لقد عاشا معا ما يكفى ليعرفا أن الحب هو أن نحب فى أى وقت وفى أى مكان ، وأن الحب يكون أكثر زخما كلما كان أقرب الى الموت ". ولكن الحب لدى (ماركيز) لا يحلق فى الفراغ ..إنه حب يليق بالإنسان كما نعرفه ..حب الروح وحب الجسد أيضا .


لقد تاهت المشاعر والأحاسيس وسط تلك القفزات والأحداث المختزلة والحوارات المبتورة والشخصيات غير المكتملة ، واحتلت قصص (فلورنتينو) مع عشيقاته مكانا بارزا فبدا كما لو كان ملتمسا للعربدة وليس باحثا عن العزاء ، ولولا الأداء المتميز للنجم الأسبانى (خافيير بارديم) الذى لعب دور (فلورنتينو) فى كل مراحله باستثناء سنوات شبابه الأولى ، لما كان هناك شئ يمكن الحديث عنه رغم الإمكانيات الضخمة المتوافرة .. ولكن من الذى قال إن الإمكانيات تستطيع وحدها أن تصنع عملا عظيما ؟!

الخميس، 8 يوليو 2010




السبت، 3 يوليو 2010

(نشر هذا المقال فى 10 يناير2010 ، ويتضمن قراءة لفيلم التحريك ثلاثى الأبعاد (A christmas carol) أو كما عرض تجاريا فى مصر تحت اسم ( أغانى الكريسماس ).

(أغانى الكريسماس ) .. درس خصوصى للرأسمالية المتوحشة !

محمود عبد الشكور

ارتبطت الصور المجسمة عندى بكروت البوستال الثقيلة التى كنا نشتريها فى الطفولة ، والتى كانت تحتوى على مناظر للكعبة متعددة الأبعاد والزوايا ،اورغمذلك لم أتحمس فى بداية التسعينات لمشاهدة ما سمى وقتها بأفلام الهجوم على المتفرجين ، والتى كانت تستخدم لمشاهدتها نظارات خاصة ، فقد كنت وقتها محبطا من السينما عموما بسبب انهيار الفيلم المصرى ثنائى الأبعاد ، وحتى عندما تم الإعلان عن الفيلم ثلاثى الأبعاد ( أغانى الكريسماس ) ، وجدتنى أؤجل المشاهدة أكثر من مرة ، وحتى بعد أن قطعت التذكرة أخيرا متشجعا باسم " تشارلز ديكنز " صاحب القصة الأصلية ، وباسم " روبرت زيميكس " كاتبا للسيناريو ومخرجا ، حتى عندما فعلت ذلك لم أستطع أن أمنع نفسى من الدهشة لمنظر الجمهور كبارا وصغارا وهم يتجهون الى صالة العرض حاملين نظاراتهم السوداء ، وكأننا نتجه الى سرادق عزاء ، ولكن التجربة عموما كانت جيدة لجمال الفيلم القادم من مصنع ديزنى الممتع ، وأضافت التجربة ثلاثية الأبعاد مزيدا من المعايشة والإندماج مما يجعلها مطلوبة فى نوعيات محددة من الأفلام .

نظام العرض البصرى ثلاثى الأبعاد الذى يتطلب طريقة خاصة فى التصوير وفى شاشة العرض وفى النظارات التى نرى الصورة من خلالها لا يصلح مع كل الأفلام ، ولكنه يضيف فعلا للأفلام التى تعتمد على الخيال المحلق ، وعلى السياحة الممتعة فى الزمان والمكان مثل ( أغانى الكريسماس ) . القصة التى كتبها الروائى الإنجليزى "تشارلز ديكنز " تبدو لأول وهلة كما لو كانت مجرد حدوتة تربوية للأطفال تقدم لهم درسا أخلاقيا لكى يكون الإنسان لأخيه الإنسان ، وبألا تصرفه المادة عن الأحاسيس والمشاعر ، بل إن الفيلم والقصة هما التعبير الدرامى عن ذلك البيت الشهير الذى حفظناه فى المدرسة ضمن قصيدة التينة الحمقاء ، والذى يقول فيه الشاعر اللبنانى المهاجر " إيليا أبو ماضى ": " من ليس يسخو بما تسخو الحياة به فإنه أحمق بالحرص ينتحر " ، ولكن لو تأملت فى مغزى الحكاية لوجتها موجهة للكبار أيضا ، والدرس الأخلاقى لبطل الحكاية ( آبينزر سكروج ) هو أيضا درس اقتصادى لكل رأسمالى متوحش خاصة بعد الأزمة الإقتصادية الأخيرة التى تسبب فيها حفنة من الحمقى الجشعين .

لقد عاصر ديكنز توحش الرأسمالية فى بريطانيا ، وانتقد كثيرا صعود دولة المال والمادة فى مقابل تراجع الإحساس بالآخر ، وأفزعه أكثر تحول الإنسان الى آلة لجلب النقود فى حلبة صراع لا مكان فيها للضعفاء أو للمرضى أو لمحدودى المواهب والقدرات ، وكأن الضعف أو المرض ينزع عن الإنسان صفة الإنسانية . صرخة ديكنز فى (أغانى الكريسماس )عميقة بقدر ما هى بسيطة للصغار وللكبار معا : "يا من صنعتم أموالا .. أنتم لم تصنعوها إلا من خلال الناس .. لولا الأخر ستموتون .. ولولا المشاعر والأحاسيس لكان الحجر أكثر قيمة من البشر .. عيد الميلاد ليس مجرد مناسبة للإحتفال وتناول الطعام ، ولكنه فرصة لكى يولد رأسمالى جديد أكثر إنسانية لا يتفضل على الآخرين بشئ لأنه - كما قلنا -لا يفعل أكثر من أن يسخو بما تسخو الحياة به" .

أراد( روبرت زيمكس) أن يحافظ على روح حكاية ديكنز الكلاسيكية ، وأن يقدمها فى شكل معاصر وشديد الإبهار ، ستدخل الكاميرا فى البداية الى كتاب ضخم يحمل اسم قصة ديكنز ، وسنبدأ من اللحظة التى يفقد فيها سكروج صديقه وشريك حياته ( جاكوب مارلى ) ، وسنرى بخل سكروج وهو يرتعش مقدما عملة معدنية صغيرة للقائم على الدفن . الرجل العجوز الدميم خارج الزمن . بعد سبع سنوات الجميع يبتهجون استعدادا للإحتفال بالكريسماس ، إلا سكروج الذى ينتقد حماس الموظف الذى يعمل معه ( بوب كراتشيت ) ، وينتقد حماس ابن أخيه ( فريد ) الذى تزوج عن حب ، والذى يدعو عمه على العشاء ، ولكن العم يرفض ، فالوقت يوزن لديه بالمال ، والحياة فقط عمل ونقود ، وعندما يطلب منه البعض التبرع للفقراء والمشردين يتساءل فى صلف : "أين السجون والجمعيات الخيرية ؟" هذه الشخصية هى بالضبط( التينة الحمقاء) التى تحدث عنها (إيليا) فى قصيدته الشهيرة .

نلاحظ أن ( زيمكس ) يحول الحوارات داخل مكتب ( سكروج ) الى ما يقترب من المشهد المسرحى مع ضوء خافت مقبض ، وحتى دخول وخروج الزوار يشبه الدخول والخروج المسرحى ، وسيتغير ذلك تماما مع ( التجربة ) التى سيمر بها سكروج فى قصره الفارغ . تفتح النافذة بصوت كالرعد على شبح شريكه الراحل ( مارلى ) وقد عاد مقيدا بالأغلال ، وناقلا عذابه بالمال الذى جمعه لزميله سكروج . هذا رأسمالى مضى الوقت لإنقاذه يتدخل لإنقاذ رأسمالى آخر على قيد الحياة لا يفهم مغزى الحياة . ستكون وسيلة مارلى لإنقاذ سكروج هى إرسال ثلاثة أشباح تمثل الماضى والحاضر والمستقبل ، تكشف الأستار ، وتدخل سكروج فى تجربة يكتشف من خلالها حياته الفارغة رغم ثرائه المادى الذى لا حدود له . شبح الماضى سيكشف لحظات من حياة سكروج فى طفولته وشبابه : طفل وحيد يقضى ليلة عيد الميلاد بلا أصدقاء ، له أخت وحيدة أصغر منه تزوره فى ليلة العيد ، تخبره أن والدهما عاد الى المنزل وأصبح أقل شراسة ، يعمل فى إحدى الورش ويتعرف على فتاة جميلة ، فجأة يتحول المال الى معبوده الجديد ، الفتاة تتركه بينما يبرر تكريس حياته لجمع المال بسبب خوفه من الفقر .

شبح الحاضر ينقل إليه صورة لا حتفال الموظف الذى يعمل عنده ( كراتشيت ) بعيد الميلاد مع أسرته الصغيرة . ليس لديهم ديك رومى ولكن مجرد أوزة صغيرة . يلفت نظر سكروج الطفل ( تيم ) المقيد الحركة لإصابة إحدى قدميه بالشلل ، وينقل إليه شبح الحاضر أيضا سخرية ابن أخيه ( فريد ) منه فى حفل العشاء ، أما شبح المستقبل فينقله وسط ندف اثلج التى تحيط قبره المفترض ، والى خادمته وهى تستولى على أغطيته بعد وفاته، ثم يتحول سكروج الى قزم فى حجم فأر يطلب منه الشبح فرصة لكى يصبح رأسماليا طيبا يشعر بالآخرين , هى فى الحقيقة فرصة لكى يسترد إنسانيته . هنا لحظة التحول حيث يجرب سكروج حياة أخرى : يغنى مع المارة .. يتزحلق فى سعادة على الجليد .. يداعب خادمته العجوز .. يحضر عشاء ابن أخيه ( فريد ) ..يستقبل ( كراتشيت ) بحفاوة ويزيد له راتبه رغم تأخره عن العمل .. ويحمل ابنه ( تيم ) على كتفيه ليدخلا من جديد كتاب الحواديت الذى خرج منه كل هذا الخيال النبيل .

أدى استخدام النظارة والعرض البصرى ثلاثى الأبعاد الى جعل الشاشة باتساع العالم ، وأدخل المتفرجين الى تجربة سكروج المدهشة ، لا حدود للزمان ولا للمكان ، الحياة على بساط الريح والكادر باتساع الملكوت ، الكاميرا لم تعد تتحرك ولكنها تطفو وترقص وتصعد وتغوص ، الأصوات التى جسدها ( جيم كارى ) و ( جارى أولدمان ) و( وكولين فيرث ) و( روبين رايت بن) و(روب هوسكنز ) مدهشة فى تعبيرها عن عالم كل شخصية .. الموسيقى تخلنا الى أجواء التجربة الثلاثية من الماضى الى الحاضر الى المستقبل ، الألوان تصبح أكثر سخونة ودفئا كلما عاد سكروج الى إنسانيته المفقودة . عالم كامل من الخيال نجح ( روبرت زيمكس ) وفريق عمله فى تجسيده على الشاشة .. وقطع لنا تذكرة إضافية لكى ندخله بالمعنى الحرفى لاالمجازى .

يوم الكريسماس فى التفسير السياسى للفيلم هو يوم مولد سكروج الرأسمالى الجشع من جديد ، والفيلم أيضا دعوة لكل سكروج فى العالم يكتنز المال لكى يتأمل ويراجع ويعيد التفكير لأن ( الكفن مالوش جيوب ) !

الخميس، 1 يوليو 2010





السبت، 26 يونيو 2010

( نشر هذا المقال عن فيلم " التكفير " فى جريدة روز اليوسف اليومية بتاريخ 13/2/2008)



عن الحب والحرب والذنوب التى لاتغتفر !



محمود عبد الشكور



يمكنك أن تنظر من أكثر من زاوية لفيلم " التكفير " (The Atonement) للمخرج " جو رايت " : الزاوية النفسية باعتباره محاولة من أبطاله للتكفير عن ذنوب مدمرة ارتكبت فى الطفولة ولا تسقط بالتقادم ، والزاوية الإجتماعية باعتبار أننا أمام حكاية حب عاصفة نشأت فى ظل حرب قاسية ، وبين طرفين بينهما فروق إجتماعية لم تقهرها العاطفة أو التعليم ، والزاوية الإنسانية الشاملة باعتبار الفيلم دراسة عما تفعله الحرب فى الناس ، كما أنه محاولة للإجابة عن سؤال معلق فى كل الحروب هو : ومن يستطيع التكفير عن مآسى الحروب التى تقتل الملايين ، والزاوية الفنية والأدبية باعتبار أن الفيلم المأخوذ عن رواية كتبها " أيان ماكوين " يكاد يرتفع بالفن والأدب الى مرتبة علاج الضمائر المثقلة بذنوب الماضى . هنا حكاية حب مزقها الواقع وخلدها الفن ، وكأننا أمام تنويعة جديدة على فكرة الخلاص والخلود بالأدب والفن .



الحكاية فى " التكفير " بسيطة للغاية ويكن أن تروى فى سطور قليلة : الفتاة الصغيرة ( بريونى تاليس ) ذات الخيال الواسع وقعت فى سن الثالثة عشرة فى غرام ( روبين ) ابن مديرة منزلهم الفقير ، ولكنه كان يعشق شقيقتها الكبرى (سيسيليا)،، وعندما اكتشفت ( بريونى ) علاقتهما لم تتردد فى اتهامه باغتصاب ضيفة كانت تقيم عندهم تدعى ( لولا ) . تندلع الحرب العالمية الثانية فيفضل ( روبى) الذهاب الى الميدان بدلا من البقاء فى السجن ، ويحاول أن يستأنف علاقته مع ( سيسيليا) التى قاطعت شقيقتها وتحولت الى ممرضة متطوعة ، ولكن العاشقين يموتان فى الحرب : هى فى انجلترا وهو فى ( دنكرك ) شمال فرنسا ، ولأن الجرح لم يندمل ، فإن 0 بريونى ) التى أصبحت أديبة مرموقة تقرر فى شيخوختها أن تكتب روايتها الأخيرة عما فعلته من تدمير لعلاقة ( سيسيليا ) و (روبى )، وتطلق على الرواية اسم التكفير .



ولكن " التكفير " الذى كتب له السيناريو والحوار " كريستوفر هامبتون " ليس هو الحكاية ولكنه الشخصيات وتحولاتها وعواطفها ، وقد لجأ السيناريست الى عدة حيل ذكية ومشوقة لتحقيق ذلك خاصة فى النصف الأول من الفيلم أولها أنك تتعرف أولا على النتيجة ثم تشاهد فى المنظر التالى تفسيرا لحدث ، وخاصة عندما نرى الأحداث من وجهة نظر ( بريونى ) المراهقة التى تتسرع فى الحكم ، وقد تكررت هذه الحيلة مع مشهد تلصص ( بريونى ) على شقيقتها و ( روبى ) أمام حوض الماء ، ثم دخولها عليهما وهما فى لقاء حميم داخل المكتبة ، وللمحافظة على عنصر التشويق أيضاً لا نرى المشهد الوحيد الذى تحاول فيه ( بريونى ) جذب انتباه ( روبى ) لينقذها من الغرق إلا فى النصف الأخير من الفيلم ، ومن وجهة نظر ( روبى ) نفسه المتورط فى الحرب فى فرنسا ، ومن أفضل حيل السيناريو أيضا دمج المشهد الذى لم يحدث ولكن تخيلته بريونى فى روايتها عن لقاء بينها وبين سيسيليا وروبى حاولت أن تطلب فيه الصفح منهما دون جدوى ، وقد اعتبرت بريونى هذا اللقاء الذى ابتكرته فى الخيال تعبيرا عن أمنية لم تتحقق ، ثم استبقى هامبتون مفاجأته الأخيرة عندما تظهر بريونى وقد تقدمت فى العمر ( بأداء الممثلة الكبيرة فانيسا ريدجريف ) وهى تتحدث عن روايتها عن الأخيرة الواقعية ، وعن مرضها الذى جعلها تحاول التكفير من خلال الفن والخيال ، ثم تتحدث أخيرا عن موت روبى فى يونيو 1940 بتسمم فى الدم ، وموت سيسيليا فى قصف للطائرات الألمانية فى أكتوبر 1940 ، ويعبر المشهد الأخير عن لقاء روبى وسيسيليا الذى لم يحدث أبدا فى كوخهما على البحر ، كما يعبر عن نجاح الفن فيما لم ينجح فيه الواقع .

ومن أفضل تصرفات هامبتون الحرية التى تعامل بها مع الزمن بحيث تبدأ الأحداث عام 1935ثم يقفز خمس سنوات نعود بعدها شهورا وأ تنسىسابيع الى الخلف وكأته لا يعنيه سوى رصد تحولات شخوصه ، وإن كنت أظن أنه لم يرصد لحظة التحول فى حياة بريونى رغم مشهد تحجر الدموع فى عينيها عند إلقاء القبض على روبى ، كما بدت علاقتها بالجندى الفرنسى الجريح وحبه لها فى لحظات الإحتضار مبتورة وبلا معنى رغم أنها قد تكون على الأرجح من أسباب تحولها ، وشعورها المضاعف بالذنب . وعلى الرغم من أهمية مشاهد الحرب خاصة تلك التى تسجل انسحاب 300ألف جندى إنجليزى من فرنسا عام1940بعد الهزيمة ، إلا أننا أحسسنا أننا خرجنا من الجو الخاص الذى كرسه الجزء الأول من الفيلم ، ومن الواضح أن الضغط على ما حدث فى الميدان ومأساة الحرب هو محاولة لربط فكرة التكفير بمعناها الفردى بفكرة التكفير بمعناها الإنسانى عندما يطرح هذا السؤال : ومن يكفر عن المأساة التى حصدت الملايين مثلما كفرت بريونى عن خطئها فى حق شقيقتها وحبيبها روبى ، كما أن شخصيات أخرى مساعدة ولكنها شديدة الأهمية لم تنل حظها من من التحليل والعمق مثل لولا الفتاة المغتصبة ، وبول مارشال صاحب مصنع الشيكولاتة الذى تزوجها فيما بعد رغم أنه اغتصبها قبل خمس سنوات !

كل العناصر الفنية كانت على مستوى رفيع تحت قيادة ( جو رايت ) الذى أدار ممثليه ببراعة خاصة الممثلات الللاتى قمن بدور بريونى فى مراحل عمرية متفاوتة ، ولم يكن هناك اختيار أفضل من ( فانيسا ريدجريف ) لتعطى ثقلا مستمدا من تاريخها الطويل لشخصية بريونى فى سن الشيخوخة ، وقد جسد ( جيمس ماكفوى ) مشاهد لاتنسى فى الجزء الثانى كجندى وكعاشق يحاول أن يعود الى بريطانيا ليتزوج سيسيليا ليمحو عنها وعن نفسه العار، ونجحت كييرا نايتلى الى حد كبير فى تقديم شخصية الفتاة قوية الشخصية التى تكبت عواطفها المتأججة تحت قناع زائف من الجدية والإستعلاء الطبقى ثم ينهار هذا الجدار تماما بعد سجن حبيبها وإرساله الى الحرب . نجح المخرج ( جو رايت ) أيضا فى تقديم مشاهد الحب والحرب ببراعة واقتدار وكأنهما وجهان لعملة واحدة ، ولا ننسى المشهد الملحمى لا نسحاب الإنجليز من دنكرك ، وهو عبارة عن لقطة واحدة طويلة تتحرك فيها الكاميرا مع روبى واثنين من أصدقائه لتتابع الجرحى والقتلى والمدنيين والسفن والمعدات المدمرة وعجلة الملاهى الضخمة والخيول التى يطلقون عليها النار ، ثم تصعد الكاميرا مع الثلاثة الى حيث يدخلون إحدى الحانات ، وهذا المشهد الطويل يستحق أن يدرس فى معاهد السينما لأنه من أفضل المشاهد التى تجسد كارثة الحرب بطريقة مبتكرة ومؤثرة . ومن المشاهد الناجحة أيضا مشهد روبى الجندى المنهار وهو يدخل سينما بلا جمهور تعرض على شاشتها أحد المشاهد الرومانسية فى يبدأ هو رحلة الهذيان . ونجح المونتاج بامتياز فى تحقيق التشويق خاصة فى الجزء الأول من الفيلم ، وتحديدا فى لحظات كتابة روبى لرسالة الى سيسيليا بها لفظ فاضح ، ثم تغييره لها برسالة اعتذار ، وأخيرا وصول الرسالة عن طريق الخطأ الى يد بريونى ، واستخدامها فيما بعد لإدانة روبى باغتصاب ضيفة العائلة ، ورغم أن الإيقاع سيهبط بعد القبض على روبى والقفز خمس سنوات الى الحرب العالمية الثانية ، إلا أنه يعود الى التماسك مع ظهور بريونى كممرضة متطوعة تطلب الغفران فى سن الثامنة عشرة ، وقد ساهم شريط الصوت بدرجة واضحة فى التعبير عن مشاعر هذه الفتاة بالمزج بين صوت البيانو ودقات الآلة الكاتبة الت سنسمعها بسرعات متفاوتة سواء فى بداية الفيلم وهى تكتب مسرحيها الأولى " محاكمة أرابيلا " ، أو فى مشاهد عملها بالمستشفى ، وبالمثل يمكن الحديث عن براعة التصوير فى التعبير عن مشاهد رقة الحب ومشاهد قسوة الحرب .

فيلم ( التكفير) يتحدث عن الإنسان الذى لا نعرف عنه إلا القليل ، وهو فيلم عن العواطف الداخلية المعقدة ، وعن قدرة الفن على تحرير صانعيه ، وقدرته على تخليد الواقع وتغييره للأفضل ، بل إن كلمة الواقع نفسها تبدو مضللة وغير دقيقة لأننا أمام واقع افتراضى ومراوغ . لقد شاهدنا على الشاشة طريقة صنع رواية خطوة بخطوة ، وساهمنا نحن بخيالنا فى استكمالها بالموافقة على نهايتها الإفتراضية السعيدة ، ثم إن ( التكفير ) يثبت ما نكرره دائما من أن أكثر الأفكار عمقا يمكن أن تنقلها الحكايات البسيطة والعواطف الصادقة والمواهب الإستثنائية .

الخميس، 24 يونيو 2010




السبت، 19 يونيو 2010

نوستالجيا :




عن الأفلام وصالات العرض السينمائى !




تصنع الأفلام لكى تعرض فى أماكن مخصصة لذلك يطلقون عليها اسم دور الخيالة بالفصحى أو دور العرض السينمائى . كانت هذه العبارة فى حكم البديهيات فى سنوات السينما الأولى رغم أن العرض التجارى الأول للأخوين لوميير كان فى أحد المقاهى ، ولكن السينما سرعان ما صنعت المكان الخاص الذى تعرض فيه بما يصاحبه من امكانيات تتفق مع العرض الجيد ، وبما يصاحبه من طقوس للمشاهدة سواء فى عصر السينما الصامتة أو المتكلمة . فى عصر السينما الصامتة مثلا كان يوجد داخل دار العرض مكان للأوركسترا لعزف الموسيقى المصاحبة خاصة فى الأفلام الضخمة . وفى مصر كان هناك - كما قرأنا - شخص اسمه المفهماتى كان يشرح أحداث الفيلم للجمهور مدعيا أنه يقرأ اللوحات المكتوبة على الشاشة بينما هو يقوم بإعادة تأليفه من جديد مانحا أبطاله اسماء مصرية ، ومطلقا على الشخص الشجاع الذى يضرب الجميع لفظ الشجيع !




ظلت الأفلام تعرض عادة فى دور العرض حتى ظهر التليفزيون فأصبحت هناك نافذة جديدة للمشاهدة ساعدت فى نشر السينما وأفلامها على نطاق واسع ، ولكنها - من ناحية أخرى - لم تقدم الأفلام بجودتها الكاملة كما صنعت سواء من حيث الصوت أو حجم الصورة أوالمؤثرات ، وأتذكر أننا كنا نشاهد طوال السبعينات فيلما ضخما فخما مثل ( الناصر صلاح الدين ) بطريقة بشعة يضيع فيها ربع الكادر مما يجعلك لا تستطيع من خلالها مشاهدة بعض الشخصيات ، وبدا أحيانا كما لو أن صلاح الدين مثلا يخاطب أشباحا لا نراها ؟!ولو كنت مكان يوسف شاهين لرفعت قضية فورا على التليفزيون لأن عدم عرض الفيلم أفضل وأكرم من هذه الكارثة .




فى مرحلة تالية ظهر اختراع جديد اسمه الفيديو الذى أتاح ليس فقط مشاهدة الأفلام القديمة التى يعرضها التليفزيون ليلا ونهارا ، ولكنه يتيح أيضا عرض أفلام أحدث لن يعرضها التليفزيون إلا بعد عرضها السينمائى بشهور ، وبعد الفيديو انتشرت الفضائيات وقنوات الأفلام التى تعرض كل شئ وأى شئ يحمل اسم فيم سينمائى ، ونتيجة لذلك تراجع الفيديو ، وتحولت متاجر عرض شرائط الفيديو الى محلات لأجهزة الكمبيوتر الذى أصبح بدوره النافذة الجديدة للأفلام من خلال الآسطوانات أو عن طريق تحمل الأفلام من الشبكة العنكبوتية وتدمير الصناعة ، ولن أستغرب إذا اصبحت الظاهرة القادمة مشاهدة الأفلام الطويلة مستقبلا على شاشة المحمول أو حتى من خلال ساعة اليد ، أو ربما بالنظر الى طبق المائدة أثناء تناول الطعام .


أعترف طبعا أن هذه النوافذ الحالية أو المستقبلية زادت من جمهور الصناعة وأوجدت مصادر أكبر لتمويل الأفلام وإنتاجها ببذخ لا نظير له ، ولكن المشاهدةالمثالية للأفلام مازالت فى دار العرض ، ورغم أننى لم أدخل هذه الدورعلى نطاق واسع لإسباب سأذكرها حالا ، ورغم أننى شاهدت معظم تراث السينما المصرية والعالمية فى التليفزيون ، ولولاه ما استطعت متابعة هذا الكم الهائل من الأفلام .مع هذا انتهز الفرصة لمشاهدة أى فيلم قديم فى نسخة 35ميللى حتى لوكنت شاهدته من قبل ، ومازلت أتمنى أن أشاهد فيلما مثل ( الناصر صلاح الدين ) فى نسخة سينمائية تعرضها إحدى دور العرض المصرية مثلما فعلت سينما (أوديون ) لسنوات طويلة مع فيلم ( عبد الحليم ) الأشهر ( أبى فوق الشجرة ) الذى لم أشاهده -حتى الآن - على قنوات الأفلام الفضائية ، وأعتقد أنه سيقل كثيرا لأو عرض فضائيا خاصة فيما يتعلق بصورة ( وحيد فريد ) البراقة ، أو حتى فيما سمعته من أغنيات تتردد بصوت فى قاعة مغلقة معزولة عن العالم كله !


قال لى أبى إنه كان يصطحبنى مع الأسرة ، وأنا دون سن السادسة ، الى دار العرض السينمائى ، وأننى كنت أبكى وأفسد عليهم الفيلم تماما . طبعا لا أتذكر هذه المرحلة ، ولكنى أذكر جيدا أمرين : الأفلام الأولى التى شاهدتها فى التليفزيون الأبيض والأسود (ناشيونال 20بوصة ) ، والأمر الثانى : المرة الأولى فى حياتى التى دخلت فيها دارا للعرض السينمائى فى مدينتى ( نجع حمادى ).



كنا - نحن أطفال الأسرة - ننتظر مناسبات محددة للتجمع مثل أيام مباريات الكرة ، وليلة الحفلات وخاصة ليلة حفلات عبد الحليم حافظ التى كنا نحفظ معظمها دون أن نفهم معناها ، ثم أيام عرض الأفلام العربية التى كانت مثل الفاكهة ، وفى ايام محددة من الأسبوع وليس طوال اليوم مثلما نشاهد اليوم على الفضائيات . ما أحلى تلك اللحظات التى كنا نجلس فيها على السجادة الضخمة فى حجرة الجلوس فى حين يجلس الكبار على ( الطقم ) لكى نشاهد معا فيلم السهرة . كل شئ كان جديدا ويدعو للدهشة لأننا نراه لأول مرة : التلفزيون والأفلام وسعاد حسنى ، لن أنسى من الأفلام الأولى فيلم ( حسن ونعيمة ) ، وتلك المرأة الطفلة التى كانت تردد بصوت رفيع (يا سي حسن ) .. ولا أنسى فيلم ( ملاك وشيطان ) الذى حرمنى النوم أياما خوفا وفزعا لأننى كنت فى نفس سن الطفلة التى خطفتها فى الفيلم ، ولن أنسى الإستعراض التى كانت تقدمه نيللى لزوجها فى أحد الأفلام ، وكان يلعب دور الزوج (صلاح ذو الفقار ) .


ولكن متعة المشاهدة التلفزيونية للأفلام الأولى فى التليفزيون لا تقارن مع ذلك بالمرة الأولى التى شاهدت فيها فيلما فى دار العرض . لم يكن أبى ضد السينمابل كان يحكى دائما عن ذهابه مع وفد ضخم أثناء طفولته الى مدينة قنا لمشاهدة فيلم ( عبد الوهاب ) الجديد ( الوردة البيضاء )، ولكنه كان ضد أن ندخل دورعرض الدرجة الثالثة حيث لا صوت ولا صورة ولا جمهور ولا أخلاق ، ولحسن الحظ ، كانت لدينا فى نجع حمادى دار عرض تبتعد عن هذا التعريف اسمها ( سينما النيل ) - يارب تكون مازالت موجودة ، كانت سينما صيفى محترمة قريبة من النيل العظيم ، وتستأثرفى الأعياد بأفلام العرض الأول ، وكنا كأطفال ننتظر اعلان الأفلام الصوتى فى التليفزيون لكى نسمع أن الفيلم الفلانى ستعرضه أيضا ( سينما النيل بنجع حمادى ) ، ورغم أن المدينة لم تعد ريفية منذ أن استضافت - وماتزال - اثنين من أكبر مصانع مصر هما : مصنع السكر ومصنع الألو منيوم ، إلا أنها كانت تحتفظ فى بداية السبعينات بالتقليد الريفى فى الإعلان عن الأفلام المعروضة . لا أنسى مثلا هذا الرجل الذى شاهدته يحمل طبلة معلنا عن ( الفيلم الكبير .. بنت اسمها مرمر ) .. وخلف رجل آخر يحمل أفيش الفيلم الملون ، وحولهما عدد ضخم من الأولاد والبنات يصفقون فى سعادة لا حدود لها .


انتظرت حتى العيد الكبير لأدخل السينما لأول مرة فى حياتى فى سن تمكننى من التذكر ، ربما كنت فى الصف الأول الإبتدائى ، كان معى أخى الذى يكبرنى بثلاث سنوات ، وخمسة أو ستة من الجيران أكبرهم فى المرحلة الثانوية مما جعل أبى مطمئنا على أننا فى أيد أمينة . أذكر جيدا أن قائد الرحلة الأكبر سنا وخبرة اشترى لنا سندوتشات طعمية ساخنة بالطماطم والفلفل الرومى لم أذق حتى الآن ماهو أشهى منها طعما ، ورغم أننى لا أذكر لقطة واحدة من الفيلم المعروض واسمه ( من البيت الى المدرسة ) ، ورغم إننى أعتقد أن أبطال الفيلم أنفسهم مثل نور الشريف لا يتذكرونه ، فإن الدهشة الأولى لرؤية الأطياف الملونة على الشاشة العملاقة لم تفارقنى حتى الآن ، فيما بعد قال لى أخى ضاحكا إننى كنت أصرخ فزعا عندما كانت السيارة المسرعة تملأ الشاشة ، وظل فى ذاكرتى حتى الآن لقطة لأحد الضفادع البشرية أثناء خروجه من الماء ربما كانت جزءا من ( تريلر ) العرض القادم لفيلم أجنبى .


دخلت هذه السينما فيما بعد أكثر من مرة بصحبة أخى الأكبر وفى مناسبة الأعياد لدرجة أن لحظة دخول الأفلام مازالت ترتبط عندى بالبهجة الى هذه الساعة . أذكر أيضا أننا شاهدنا مرة طوفانا من البشر حول سينما النيل لإنها ستعرض فيلم ( السكرية ) . طبعا كان من المستحيل التفكير فى الدخول ، ولكننى دخلت فى أعياد أخرى بعض أفلام العرض الأول الكوميدية الخفيفة مثل ( الى المأذون ياحبيبى ) بطولة صفاء أبو السعود وسمير غانم و فريد شوقى ، وفيلم ( أونكل زيزو حبيبى ) بطولة النجم الطالع وقتها ( محمد صبحى ) .. ومع الأسف انتقل والدى بحكم عمله كمدرس للفلسفة الى مدينة أصغر وذات طابع ريفى . لم يكن فى تلك المدينة دار للعرض فى مستوى سينما النيل رغم وجود سينما بها تحمل اسم سينما الجمال لا علاقة لها إطلاقا بهذه الصفة . طبعا اكتفيت بالرحلات السينمائية الى ( نجع حمادى ) بالإضافة الى حكايات زملاء الفصل عن الأفلام التى يشاهدونها فى سينما الجمال التى ينقطع فيها الصوت أثناء العرض مما يستدعى الصفير والنداء على عامل العرض صارخين :"الصوت يا حافظ ". أذكر جيدا أنهم حكوا لى بالتفصييل فيلم ( الأبطال ) من بطولة ( أحمد رمزى ) و ( فريد شوقى ) . لقد حفظت هذا الفيلم بالمشهد والكلمة تقريبا من زملاء الفصل لدرجة أننى كنت أسمع الحوارعندما شاهدت الفيلم لأول مرة فى الفضائيات . كان الزملاء مبهورين بالفيلم الذى وصف وقتها بأنه أول فيلم كاراتيه مصرى ، وكان عرضه مستمراً فى سينما الجمال كعنصر لا يتغير وسط أفلام البروجرام طوال عدة سنوات لدرجة أنك تستطيع أن تقول سينما الجمال بتاعة فيلم الأبطال مثلما كان يقال سينما ( ديانا ) بتاعة فيلم ( أبى فوق الشجرة ) حيث عرض فيها لمدةعام كامل !


دار العرض ليست مجرد مكان لكى تشاهد الفيلم كما يُراد له أن يُشاهد ، ولكنه حياة بأكملها بكل طقوسها ولحظاتها ومعاناتها وناسها وأفلامها وستائرها ومقاعدها وعمالها ونافذتها التى تسقط شعاع الضوء على الشاشة البيضاء . السينماهى دار العرض التى دخلتها فى كل مكان تقريبا وفى كل درجاتها : مترو وبكاء البنات فى فيلم تيتو . كريم وفرحة الإعجاب ببراعة محسن محى الدين فى فيلم اليوم السادس . سينما راديو المغلقة ومشاهدة فيلم الهروب . سينما أوديون والمشاهدة الأولى لفيلم أبى فوق الشجرة وعشرات الأفلام الأجنبية القديمة فى أسابيع خاصة . سينما بيجال والمشاهدة الثانية لفيلم ( مواطن ومخبر وحرامى ) بعد المشاهدة الأولى فى مترو . سينما ريفولى ومتعة اكتشاف عرق البلح . سينما كايرو بالا س بستارتها الذهبية البديعةالتى خطفت نظرى اثناء مشاهدة ( ملك وكتابة ).سينما التحرير والمشاهدة الأولى لفيلم ( الراعى والنساء ) .


لكل دار عرض حكاية وذكرى أتمنى أن أحكيها لكم كلما سنحت الظروف .

الجمعة، 18 يونيو 2010

(نشر هذا المقال فى 20أبريل ( نيسان ) من العام 2008، ويحاول أن يضع الفيلم الأمريكى المتميز ( لا وطن للعجائز ) فى إطار أكبر مما قد يراه البعض لأول وهلة كمجرد فيلم آخر عن المخدرات والقتل من أجل حفنة دولارات )



( لا وطن للعجائز ) - ولا للعقلاء أيضاً !



محمود عبد الشكور



يستحق فيلم ( لا وطن للعجائز ) " لمخرجيه الشقيقين ( إيثان ) و(جويل كوين ) الضجة والتقدير اللذين رافقاه فى كل مهرجان عرض فيه لأنه حلة خاصة من سينما التشويق والعنف لا تكتفى بمشاهد القتل والتوتر والتصفية الجسدية ، ولكنها تحاول أن تناقش ما هو أعمق ، وتحاول أن تفشر ما يحدث أو تفلسفه ، ومن هذه الزاوية فإن ( لاوطن للعجائز ) ليس فيلما عن المال والمخدرات أو حتى عن جرائم القتل التى ترتكب على الشاشة بكل بساطة ، ولكنه فيلم عن الشر داخل الإنسان ، عن ذلك الوحش الذى يراه صناع الفيلم أصيلا وراسخا ومستمرا وبلا حدود وغير قابل للهزيمة ، الفيلم أيضا عن البحث شبه العبثى عن الحقيقة والعدالة فى حين تبدو حياة الإنسان تدور فى حلقة مفرغة ، ولذلك نستطيع القول أننا أمام فيلم فيه عالم ( بولا نسكى ) المخرج البولندى الأشهر صاحب النظرة السوداوية عن الإنسان ومصيره ، ولا أشك لحظة فى أن هذا المخرج الكبير كان سيرحب حتما بأن يضع اسمه على ( لا وطن للعجائز ) الذى يحتفظ أيضا بأصالة وبصمة مخرجيه ( إيثان وجويل كوين )



حكاية الفيلم يمكن أن تكون شاهدتها فى أفلام كثيرة سابقة ولكن مسطحة وبدون أى أبعاد : إنه الصراع العبثى على المال والمخدرات ، ولكن الصراع هنا يدور بين ثلاث شخصيات اساسية هى : ( لوبليه موس ) الذى يعمل لحاما ، والذى نعرف أنه حارب فى فيتنام ، ولكن حياته تتغير وهو يصيد الغزلان عندما يكتشف مجموعة من السيارات بداخلها وحولها جثث افراد عصابة قامت بتصفية بعضها البعض ، وتركت حقيبة بها 2مليون دولار ، والشخصية الثانية هى القاتل شبه المعتوه ( أنطون شيوجر ) الذى يمارس القتل بمناسبة وبدون مناسبة ، ونراه يطارد (موس ) من فندق لآخر للحصول على الحقيبة ، والشخصية الثالثة هى المأمور المخضرم الذى يقدمه الفيلم بلا اسم ، ويؤدى دوره النجم ( تومى لى جونز ) ، وهذا المأمور هو الذى يعطى الفيلم عمقه الفلسفى والإنسانى حيث يعلق طوال الوقت على هذه المهزلة الأرضية أثناء مطاردته أيضا ل(موس ) سارق الحقيبة ، ول ( شوجر ) القاتل العشوائى ، ثم تضاف بعد ذلك شخصيتان مساعدتان وهامتان هما : " كارسون ويلز " ( بأداء النجم وودى هارلسون ) الذى يكلف من قبل شخص غامض بتصفية ( شوجر ) ولكن الأخير يقتله بهدوء وثقة ، و( كارلا جين ) زوجة ( موس ) ونقطة ضعفه ، والتى يهربها الى مدينة ( أوديسا ) خوفا عليها ، ولكنها تموت أيضا على يد ( شوجر ) الذى يصفه أحد أبطال الفيلم بأنه الشر الخارق ، ولهذه المطاردة الدموية العبثية ثلاث نهايات متكاملة : الأولى هى مصرع ( موس ) وزوجته ( كارلا ) ، والثانية هى نجاة ( شوجر ) للمرة الثانية من القتل رغم إصابته ، والثالثة هى اعتزام المأمور التقاعد بعد أن مارس عمله فى البحث عن الحقيقة والعدالة ومطاردة الشر بلا جدوى منذ أن كان فى سن الخامسة والعشرين .



مفتاح هذا الفيلم البديع بالتأكيد هو شخصية ( أنطون شوجر ) الذى يرتفع من شخص عادى الى ما يشبه أن يكون تجسيدا ً للشر نفسه ، صحيح أننا نسمع أنه معتوه ، ولكن هذا الوصف يأتى من خلال عيون الآخرين ، أما هو فلديه منطقه وكأنه مكلف بمهمة لا يستطيع أن يتراجع عنها ، ورغم أنه لايحصل على المال ، بل ولا يكاد يهتم به ، فإن لذته المؤكدة فى فعل القتل ذاته ، ونحن لا نعرف- تماما مثل الشر - من أين أتى ؟،كما إنه غيىر قابل للموت أو التصفية ، ونراه فى أحد أقسى المشاهد وهو يستخرج الرصاص من رجله ببراعة ، وفى مشاهد كثيرة يظهر بدون تمهيد حاملا معه الموت ، وفى مشهد آخر هام يقذف يعملة معدنية فى الهواء ممارسا لعبة الموت والحياة مع أحد الخائفين . وفى مقابل هذا الشر القوى القاهر يقف الخير ممثلا فى المأمور وحيدا وتأملا بل وعاجزا ومهتز الإيمان ، ولعل ( لا وطن للعجائز ) من الأفلام النادرة التى تقدم مأمورا يعيش فى الغرب الأمريكى لا يطلق رصاصة ، ويبدو تقاعد المأمور فى النهاية كما لو انه استسلام كامل بعد أن أدرك أن المشكلة ليست فى حفنة من الخارجين عن القانون ولكنها فى الشر المتأصل فى الإنسان الذى لايمكن تغييره ، وفى نهاية الفيلم أيضا نسمع المأمور وهو يحدثنا عن عن نجاحه فى القبض على رجل قتل فتاة فى سن الرابعة عشر ما أدى الى الحكم بإعدامه بالكرسى الكهربائى ، ويحدثنا أن الرجل استقبل الحكم بهدوء ، بل إنه أكد أنه لو ترك حيا سيكرر جريمته مع آخرين لأنه يستمتع بالقتل .



أما بارقة الأمل الوحيدة فى الفيلم فهى فى الحلمين اللذين يحكى عنهمها المأمور لزوجته فى آخر مشهد من الفيلم : فى الحلم الأول يظهر والد المأمور ( وكان مأمورا ايضا ) وهو يحاول أن يمنح ابنه نقودا ولكنه يفتقده ، وفى الحلم الثانى يرى والده وهو يحمل شعلة نار ، ويتأكد عندها أنه عندما أنه عندما سيذهب الى أى مكان سيجد والده فى انتظاره بهذه الشعلة . الحلمان يمكن تفسيرهما ببقية إيمان ، وبأن الأمل فى قهر الشر ممكن ول حتى فى عالم آخر رغم اهتزاز ثقة المأمور فى عالم الروح ، ورغم ما شاهده من قسوة البشر خلال عمله ، ورغم ما يقرؤه لمساعده من خبر منشور حول حادثة مأساوية لعصابة تخصصت فى خطف كبار السن ثم قتلهم من أجل سرقة خطابات الضمان الإجتماعى التى يحصلون عليها ، وقد تساءل المأمور وسط دموع مساعده : " لماذ يعذبونهم قبل قتلهم ؟"، ويتعجب أكثر لأن الجيران لم ينتبهوا إلا عندما شاهدوا عجوزا وحول رقبته طوق كلب ، ولم يلفت انتباههم أبدا عمليات حفر القبور المستمرة للضحايا !

روعة فيلم ( لا وطن للعجائز ) فى نجاح صناعه فى تقديم فيلم تشويقى لا تستطيع أبدا أن تترك مقعدك أثناء مشاهدته ، ولا تستطيع أبدا أن تتوقف - فى نفس الوقت - عن التفكير لقراءة مغزى صوره ورسومه ، وروعة الفيلم أيضا أن شخصياته أمريكية بامتياز تجسد قسوة بيئة وشخوص الغرب الأمريكى ، وهناك إشارات واضحة عن هذه البلد الصعبة على ناسها ، كما أن هناك حديثا عن فيتنام التى حارب فيهلضوءا (موس ) والقاتل المحترف ( كارسون ويلز ) ، ولكن الفيلم يتجاوز ذلك الى أبعاد إنسانية عامة بحواره البديع الذكى والساخر الذى يذكرك : على نحو ما بمسرحيات كتاب العبث الكبار مثل (بيكيت ) حيث يتم التلاعب بالألفاظ والكلمات لإثبات فشلها فى تحقيق التواصل الإنسانى ، وتمتزج الرؤية البصرية للمخرجين ( إيثان وجويل كوين ) لترجمة كل هذه المعانى العميقة ، ولإعطاء صورة مؤلمة عن الشر ومصير الإنسان البائس الذي يرجح أن يكون مصير العجائز الضعفاء بمثابة اسقاط واضح واستعارة معبرة عنه ، ومن أبرز إبداعات هذا الثنائى إضفاء الوحشة بطريقتين مختلفتين على مشاهد الفيلم : فى المشاهد النهارية ذات الأماكن المفتوحة حيث الشمس ساطعة يتم استخدام اللقطات البعيدة لإبراز ضآلة الإنسان وسط النباتات الشوكية والصحراء الواسعة ، وفى المشاهد الليلية سواء فى الأماكن المفتوحة أو المغلقة كالحجرات مثلا يتم التلاعب بالضوء واستخدام اللون الأزرق الذى ينقل إلينا الإحساس بالبرودة والموت ، وهناك تتابعات بأكملها يجب تدريسها تؤكد استيعاب المخرجين لتراث سينما التشويق مثل تتابعات هروب ( موس ) فى الماء أو مشهد انتظاره لغريمه " شوجر" ( لاحظ الدلالة الساخرة للإسم )، وهناك دقة واضحة فى استخدام المونتاج لتحقيق لحظات تحبس الأنفاس مع النجاح أيضا فى منع استغراق المشاهد فى الأحداث بشكل كامل حتى يجد وقتا للتفكير والتأمل ، روبما بسبب ذلك لم نشاهد بعض الجرائم التى ارتكبها (شوجر ) اكتفاء بوصول المعنى ، ولا ننسى الإدارة العبقرية لكل ممثلى الفيلم الذين يمتلكون حضورا وفهما لأدوارهم الصعبة ذات الدلالات .

سينما التشويق والعنف ليس إلا إطار نقول من خلاله أى مضمون بما فى ذلك أعقد القضايا الفلسفية والوجودية ، ولي هناك دليل على ذلك مثل فيلم ( لا وطن للعجائز ) الذى يجمدك فى مكانك من التوتر والقلق ، ولكنك تخرج منه وفى رأسك أسئلة لا نهائية ، لقد سألت نفسى مثلا : ( شوجر ) أصيب بالرصاص ولكنه لايموت ، ونراه يسير فى الشارع بقوة وثقة ، والمأمور سيعتزل نهائيا ً ، فهل يمكن أن يكون المأمور اليائس الضحية القادمة ل ( شوجر ) رمز الشر الخارق ؟!

الخميس، 17 يونيو 2010





السبت، 12 يونيو 2010

نوستالجيا :


أفلام سينمائية فى الحرم الجامعى ...!


فى كتابه الممتع ( حياة فى السينما ) يشير الناقد ( أمير العمرى ) الى أنه نجح فى بداية السبعينات فى تأسيس ناد للسينما فى كلية الطب - جامعة عين شمس افتتح عروضه برائعة ( فيسكونتى ) الشهيرة ( الموت فى فينسيا ) । أدهشتنى جدا هذه المعلومة ، وعلقت عليها أنك لو عرضت هذا الفيلم الآن فى قلب الأوبرا لما مر الموضوع بسلام ، وطبعا أترك لخيالك العنان لوضع سيناريو لردود الأفعال إذا كان العرض فى مدرجات جامعة القاهرة أو عين شمس । جئت الى الجامعة قادما من الصعيد فى نهاية العام 1982، ولم تكن صورة التزمت قوية رغم وجود تيارات دينية فى الكليات وفى المدينة الجامعية ، ولكن كان هناك هامش لممارسة النشاط الفنى ، وأذكر أنه فى الساعة الخامسة يوميا كانت كل أجهزة الراديو تُفتح على محطة أم كلثوم لنستمتع ونسمع أغنيات الزمن الجميل । أذكر أيضا أننا كنا نتردد على مسرح كلية التجارة العامر لمشاهدة مسرحيات مليئة بالموهوبين ، ولا أنسى أننى شاهدت مثلا بروفة جنرال لمسرحية محمد صبحى ولينين الرملى ( إنت حر ) ، وقد أخرجها للمسرح الجامعى ( صلاح عبد الله ) الذى كان يعمل وقتها ممثلا محترفا فى فرقة ( صبحى ).


وفى مناسبة أخرى شاهدت مسرحية بعنوان( المجانين )، وفيها رأيت لأول مرة ثلاثة من الموهوبين الذين أصبحوا نجوما فيما بعد وهم : عمرو عبد الجليل بطل العرض ، ومحمد هنيدى ، ومحمد سعد ، وأشهد أن هنيدى وسعد أشعلوا الصالة من الضحك بصرف النظر ععما فعلوه فى السينما بعد ذلك ، (هنيدى) بالتحديد كان يلعب دور مجنون بالكرة يرتدى شورتا وفانلة ، وكان العرض بأكمله مجموعة اسكتشات لا يربط بينها إلا رجل يقول إنه طبيب يلعب دوره( عمرو عبد الجليل )، ويستمع من كل مجنون الى حكايته ، وأتذكر أيضا أننى شاهدت فى هذه الليلة المخرج( يوسف شاهين )لأول مرة ، فقد حضر للمشاهدة بعد نجاح العرض ، ومن خلاله اختار عمرو عبد الجليل لبطولة فيلم ( اسكندرية كمان وكمان ) ، كما اختار ( محمد هنيدى ) فى أحد أدوار الفيلم الصغيرة ، وعلى مسرح كلية التجارة بجامعة القاهرة شاهدت أيضا ( خالد صالح ) فى أدوار متعددة ورائعة ، وكان ايضا كومديانا خطيرا ، ولا أعرف لماذا لم يكتشف المخرجون إمكانياته الكوميدية بشكل أقوى بكثير مما فعلوه حتى الآن ।


أما فيما يتعلق بالسينما فبالطبع لايمكن أن نتحدث عن ناد للسينما تعرض من خلاله أفلام فيللينى وبازولينى وأنطونيونى وبرجمان وكيروساوا ، ولكنى أتذكر مناسبتين شاهدت فيهما أفلاما سينمائية داخل الحرم الجامعى ، لا أعرف كواليس الحصول على الموافقات ، وربما احتاج الأمر الى مجهود شاق ، ولكن فى النهاية حدث العرضان ، وبحضور آلاف الطلاب والطالبات ، ولفيلمين من أهم وأفضل ما قدمت السينما المصرية عبر تاريخها الطويل ।


ربما كنا وقتها فى العام 1986.كانت كلية الإعلام - حيث أدرس- تحتل الطابق الرابع من مبنى كلية الإقتصاد والعلوم السياسية، قبل بناء مقر مستقل ضخم لكلية الإعلام । ولحسن الحظ ، استفدنا سينمائيا من هذه الضيافة حيث تكونت أسرة فى كلية الإقتصاد كان رائدها الدكتور جودة عبد الخالق - أحد أعضاء حزب التجمع وأستاذ الإقتصاد المرموق ، وكان أحد أنشطة الأسرة تنتظيم عروض سينمائية لأفلام مختارة ، وإقامة ندوات مع نجوم وأبطال هذه الأعمال ، وهكذا أتيح لنا - نحن مجانين السينما فى كلية الإعلام - أن نحتل الصفوف الأولى فى المدرج الكبير فى الدور الأرضى بكلية الإقتصاد لمشاهدة فيلمى ( المومياء ) و( عودة الإبن الضال ) فى نسخ سينمائية (35مللى) ، ثم المشاركة فى ندوتين مع صناع العملين أو بعضا من ممثليهم فى حوار شديد الثراء والإمتاع ।


فى عرض فيلم المومياء ، كان هناك خبران أحدهما سئ والثانى جيد ، الخبر السئ هو النسخة الرديئة التى تم عرضها للفيلم حيث تحولت الألوان الى ما يشبه الصورة( الفلو) التى لا تستطيع أن تتبين معالمها ، كانت النسخة التى تم الحصول عليها من هيئة قصور الثقافة أسوأ دعاية للفيلم العظيم ، وكان ما يؤلمنا أكثر أننا كنا قد شاهدنا توا النسخة الأصلية الرائعة فى برنامج (أوسكار ) على إثر وفاة مبدع الفيلم ( شادى عبد السلام ) ، وكانت هذه النسخة (فرجة ) ممتزجة بانبهار لم يفارقنى حتى اليوم كلما شاهدت الفيلم । ولكن الأمر لم يخل من خبر سار وهو حضور نجمة الفيلم الرائعة ( نادية لطفى ) ومصمم الديكور الكبير ( صلاح مرعى ) ، وقد خرجت من الندوة باستفادة عميقة خاصة عندما تحدث صلاح مرعى شارحا أسباب استخدام الفصحى المبسطة فى الحوار ، كما تحدث عن حركة الممثلين والتعبير بالإيماءات والأعين ، وقال الكثير عن مشاكل الفيلم وأبعاده السياسية ، ودفاعه عن الهوية المصرية فى زمن كانت مازال فيه الحديث عما يسمى الجمهورية العربية المتحدة حتى بعد الإنفصال । جعلنى حديث( صلاح مرعى) أكتشف الكثير فى الفيلم الكبير ، وبينما كان القسم الأكبر من الطلاب يحيطون بالرائعة (نادية لطفى )، كنت مع مجموعة أقل نحيط بتلميذ شادى النجيب ، بل إننى شددت على يده بحرارة وعرفان ، وما زلت أتذكر التواضع والحب الذى أحاطنا به صلاح مرعى بعد الندوة ، والطريف أن أحد أصدقائى الأعزاء أحضر لى صورة من تلك الصور التى كانت توزعها نادية لطفى ، وعليها توقيعها بخط يدها ، ومازلت أحتفظ بالصورة حتى اليوم ، وما زلت أقدر نادية لطفى ووفاءها لشادى عبد السلام وحرصها على حضور هذه الندوة الطلابية فى قلب الحرم الجامعى ।


أما عرض فيلم ( عودة الإبن الضال ) فكان أفضل كثيرا رغم أنه لم يخل من المنغصات ، كان المدرج الكبير مكتظا بالطلاب من كل الكليات تقريبا ، وفى الموعد الحدد كان يوسف شاهين مع الدكتور جودة عبد الخالق يجهزان للعرض ، ولن أنسى أبدا أن شاهين كان يشرف على تركيب البوبينات بنفسه ، وأظن أيضا أنه أحضر معه آلة العرض الخاصة به । كان مشهدا رائعا لعاشق حقيقى يقدم لنا أحد أعماله التى يحبها । وكانت المشكلة أن العرض لم يكن متصلا وإنما" بوبينة ""بوبينة "، وفى كل مرة يقف شاهين بكل بساطة للإشراف على التركيب وإدارة الماكينة التى كانت تصدر صوتا مسموعا ، لاشك أننا انبهرنا بكل شئ : بالفيلم الذى لم أكن شاهدته من قبل حيث عرضه التلفزيون سرا ربما لمرة واحدة ، وكنا مبهورين أيضا من بساطة شاهين وحبه للسينما وللجمهور ، وزاد الإنبهار عندما انتهى العرض ، ووقف شاهين مع بطلة فيلمه ( سهير المرشدى ) التى حضرت متأخرة ، وهما يردان على تصفيقنا الملتهب ।


كان( شاهين )فى حالة نشوة كاملة ، ينحنى فى سعادة فيزيد التصفيق ، ينظر الى بطلته ويقبل يدها امتنانا وعرفانا ثم ينحنى من جديد وكأنه أمام جمهور الكوميدى فرانسيز وليس أمام مجموعة من الطلاب بعضهم أقل من سن العشرين ، لم يرفض شاهين الإجابة عن أى سؤال ، وحتى عندما انتهى وقت الندوة ، تحلقنا حوله وانهالت عليه الأسئلة عن أغنية (الشارع لنا )، وعن قرص الشمس الأصفر الباهت الي يتجه اليه بطلا الفيلم اليافعان بعد المذبحة المروعة ، وعن الفتاة التى لعبتها (سهير المرشدى) وصورتها الجميلة وكأنها رمز للوطن المغتصب । كان شاهين سعيدا بجمهوره الصغير لدرجة أنه طلب أن يذهب اليه فى مكتبه (35شارع شامبليون) كل من لم يستطع أن يسأل ، أو من لم يستطع أن يقتنع بإجابات المخرج الكبير ।


قال لى صديق بعد مشاهدة عودة الإبن الضال فى ذهول :" إيه اللى شفناه ده ياجدع " । بد الأمر كما لو أننا لم نشاهد سينما من قبل ، ومازال الفيلم فى نظرى من أهم وأفضل ماأخرج يوسف شاهين ، ولن أنسى أبدا أننى شاهدت هذه التحفة لأول مرة فى الحرم الجامعى ، وأننى استمتعت بالحوار مع مبدعه عاشق السينما والناس بعد العرض .




الجمعة، 11 يونيو 2010

(هناك أفلام لها مظهر بسيط حكواتى أوغرائبى ولكنها تتحدث فى الحقيقة عن أشياء أكثر عمقا مما يبدو على السطح . فيلم "حالة بنيامين بوتون المثيرة للفضول ) من هذه النوعية ، وأحد نقاط تفوقه فى رأيي فى جمعه بين السرد المشوق الذى يقرب من الحكايات الغرائبية والفكرة الصعبة وهى مبارزة الإنسان للزمن . المقال التالى المنشور فى روز اليوسف اليومية فى 25 من العام 2009 يحاول تفكيك هذا الفيلم وصولا الى مغزاه الأكثر عمقا .)








يا عزيزى .. كلنا هذا الرجل الغريب ( بنيامين بوتون ) !








محمود عبد الشكور








ليس هناك ما هو أكثر إمتاعا من الكتابة عن الأفلام الجيدة حيث يساعدك ذلك على استرجاع خبرة سارة ، ويجعلك تضيف الى متعة المشاهدة متعة الإكتشاف ، وكأن الفيلم الجيد لا يكشف عن أسراره دفعة واحدة ، ولكنه يزيدك حسنا كلما زدته نظرا وتحليلا ، وياسلام لو كنت أمام فيلم متعدد المستويات والزوايا مثل الفيلم الأمريكى المأخوذ عن قصة قصيرة للكاتب الراحل الشهير ( سكوت فيتزجيرالد ) عنوانها - وهو نفس عنوان الفيلم :(the curious case of benjamin button) ، أو ( حياة بنيامين بوتون المثيرة للفضول)، وقد اختصر موزعو الفيلم الحكاية فى كلمتين هما ( حياة رائعة ) ، وهو الإسم التجارى للفيلم عند عرضه فى الصالات المصرية . هناك حكاية غريبة جدا عن طفل ولد ومظهره يجعله يبدو كما لوكان شيخا فى الثمانين ، ولكنه يصغر كلما تقدم به الزمن حتى يموت وهو طفل ! ، وهناك استعراض طويل لأحداث تمتد بين عام 1918 - وهى سنة نهاية الحرب العالمية الأولى - والعام 2005 _ وهو عام إعصار كاترينا الذى ضرب مدينة " نيو أورليانز " مكان أحداث الحكاية ، وهناك حكاية حب ولحظات موت ومشاعر إنسانية رقيقة وصراع لاينتهى ضد الظروف المعاكسة ، ولكن الفيلم - مع ذلك - ليس عن كل هذ الأشياء ، ولكنه عن الزمن وألعابه ، وعن الإنسان المحاصر بالساعات والأقدار ، عن الرضا والتمرد ، عن التمرد والقسمة والنصيب ، ويعنى ذلك أن الفيلم الغرائبى والبسيط والساخر فى كثير من مواقفه هوأيضا فيلم فلسفى من الوزن الثقيل يدعوك الى التأمل وسط الدهشة والمشاعر الصادقة .








كل العناصر تذوب فى هذا الفيلم الذى أعده للسينما سيناريست قدير هو " إريك روث " وأخرجه " ديفيد فينشر " صاحب الأفلام المعروفة التى تجمع بين الإبهار والدعوة للتأمل مثل فيلم ( سبعة ) وفيلم (fight club) ، وكان أفضل وأجمل مافعله الإثنان -وخاصة روث - أنهما استوعبا مغزى القصة القصيرة التى نشرها ( فيتزجيرالد ) عام 1921 ، واستطاعا مد زمن الأحداث وممارسة لعبة الزمن مع متفرج الألفية الثالثة ، فالحكاية ليست مرتبطة بزمان أو بمكان لأنها ببساطة عن الإنسان الذى تسير حياته الى الأمام أو الى الخلف مثل ( بنيامين بوتون ) ، ومع ذلك يظل أسيرا لظروفه . كل شئ يتغير بلا هوادة لأنه كما قال الفيلسوف اليونانى (هرقليطس ) : " إنك لا تنزل النهر الواحد مرتين " . كل شئ ينتهى ولا يدوم مهما كانت الحركة أماما أو خلفا ، ولكن شيئا واحدا يبقى هو الحب والمشاعر الرقيقة التى تجعل الحياة أكثر احتمالا ، ولكن علينا دائما ألا نستسلم ، وأن نحاول مجاهدة الظروف . فى لحظة واحدة فقط علينا أن نستسلم هى لحظة الموت . هذه لحظة لااختيار فيها ، ومقاومتها عبث . لقد انتهى الوقت المخصص للعبة ، وهذه هى حقائق الحياة مهما كانت غريبة أو طبيعية وعادية .








لو سألتنى عن مغزى حالة وحكاية " بنيامين بوتون " لما وجدت أفضل مما كتبه الراحل العظيم "د. طه حسين " عن مسرحية الأديب الكبير الراحل " توفيق الحكيم " ( أهل الكهف ) عندما صدرت فى عام 1933 ، فأحدثت زلزالا فنيا وفكريا لم يتوقف حتى اليوم ، لقد لخص الناقد الكبير مضمون المسرحية فى هذه الأسئلة :" ما الزمن ؟ ما البعث ؟ ما الصلة بين الإنسان والزمن ؟ ما الصلة بين الحى والأحياء ؟ بأى الملكتين يستطيع الناس أن يحيوا وأن ينتجوا فى الحياة ؟ بهذه الملكة التى نسميها القلب أم بهذه الملكة التى نسميها العقل والتى بها نفكر ونحلل ونلائم الأشياء ؟". الحقيقة أن هذه الأسئلة بحذافيرها هى التى يطرحها فيلم حياة رائعة ، بل إنك تستطيع أن تقول إن بنيامين الذى يعيش حياته بالعكس ( من الشيخوخة الى الطفولة ) يكاد يسأل نفس السؤال الذى قاله (ميشلينا )-أحد أبطال أهل الكهف - عندما صرخ فى ذهول :" ربى !! هذه المبارزة الهائلة بيننا وبين الزمن أتراها انتهت بالنصرله ؟!" . والإجابة فى المسرحية وفى الفيلم الأمريكى واحدة :نعم ، لقد انتصر الزمن بلمس الأكتاف . شئ واحد لم يقهره الزمن هو الحب سواء فى علاقة " ميشلينا " مع " بريسكا" ، أو فى علاٌقة بنيامين مع ديزى .








عقارب الساعة








مشكلة الإنسان الحقيقية إذن مع الزمن وحلمه الحقيقى أن يسيطر على عقارب الساعة ، ويعبر هذا الحلم عن نفسه فى أعمال أدبية وفنية كثيرة مثل :(آلة الزمن ) التى كتبها ( هربرت جورج ويلز ) ، بل إنك تستطيع أن تعتبر الفن والأدب عموما - وفن السينما تحديدا - ليس إلا التعبير الإنسانى عن حلم مستحيل هو إعادة تشكيل الزمن ، أو صناعة زمن خاص يعادل الزمن الحقيقى الذى يبدو كتيار النهر المستمر ، وتستطيع أن تقول إن فكرة الخلود فى العالم الآخر ليست إلا الحلم بالخلاص الأخير من الزمن الأرضى ، وهناك تنويعات كثيرة تكشف عن حلم الإنسان أن يكسب مبارزته الأبدية مع الزمن مثل فكرة التناسخ حيث تعيش الروح ولا يتغير ولا يتبدل سوى الجسد । ورغم الحلم بكسر الساعة الهائلة التى تسيطر على بداية ونهاية فيلم ( حياة رائعة ) ، إلا أن الإنسان سيكتشف دائما أن معركته خاسرة । لقد اخترع آلة تحسب الزمن ولكنه أبدا لن يستطيع السيطرة عليه । أما الإكتشاف الأخطر فهو أن الزمن هو الذى يعيشنا ॥ ولسنا نحن الذين نعيشه ، وهو المعنى الذى قاله المبدع الكبير " سيد حجاب " فى مقدمته الغنائية لمسلسل ناجح بعنوان ( اللقاء الثانى ) من بطولة محمود ياسين وبوسى ، أما البشر والكائنات فهى مجرد حروف عابرة " كُتبت لكن بماء॥على حد تعبير " جبران خليل جبران " فى أغنية (فيروز ) ألشهيرة (أعطنى الناى وغنى )। اعذرنى -عزيزى القارئ -هذه المرة ، فإنما أردت أن تذهب لمشاهدة فيلم (حياة رائعة ) أن توسع زاوية الرؤية كثيرا لكى تستمتع وتتأمل أكثر وأعمق ، ولعل أروع ما فعله صناع الفيلم أنهم احتفظوا للحالة ببعدها الخيالى الغريب دون أن نفقد الإحساس طوال الوقت بأن ما نراه يمكن أن يحدث فعلا ، وسبب هذا الإحساس هو نجاح عملية الإعداد السينمائى للقصة القصيرة حيث دعمت الحكاية بالمزيد من الوقائع الحقيقية مثل ضرب الأسطول الأمريكى فى بيرل هاربور، ومثل إعصار كاترينا الذى ضرب أمريكا ، ومثل وقائع الحرب العالمية الثانية ، وعندما ينتهى الفيلم برجوع الشيخ الى طفولته ستشعر بالدهشة ، وربما الذعر ، ليس فقط بسبب ما شاهدناه ، ولكن لاكتشافنا كم نحن ضعفاء أمام الزمن . صحيح أننا لا نتحول فى آخر الأمر -مثل بوتون- الى أطفال من الناحية الجسدية ، ولكننا نصبح كذلك من الناحية المجازية عندما يضعف الجسد ويخفت العقل ونحتاج الى مساعدة الآخرين ، يعنى ببساطة كلنا بنيامين بوتون فى نهايته العجيبة ، وليس المثير للفضول فقط ما فعله الزمن بهذا الرجل المتحول ، ولكن أيضا بما يفعله بنا جميعا لدرجة أنك قد لاتجد فرقا كبيرا بين بوتون وزملائه الشيوخ الحقيقيين الذين عاش معهم فى دار المسنين لا من حيث الأحلام ولا من حيث التصرفات .







لجأ إريك روث الى حيلة السرد من خلال عيون الشاهد الذى عاش ورأى بما يؤدى الى تكثيف الزمن واختزاله كما فعل فى فيلمه الشهير ( فورست جامب ) ، ولكن الحكاية فى ( حياة رائعة ) تروى من وجهتى نظر " ديزى " حبيبة " بنيامين " التى تنتظر الموت فى إحدى مستشفيات " نيو أورليانز " بولاية " لويزيانا عام 2005،ووجهة نظر "بنيامين " نفسه الذى ترك تفصيلات مذكراته لتقرأها ابنته وابنتها كارولين التى ترعى أمها فى المستشفى । لايظل السرد فى الزمن الحاضر ساكنا ، ولكنه مثل الزمن المتدفق - يتحرك طوال الوقت مع اقتراب إعصار ( كاترينا ) المدمر من المستشفى ، وضرورة إخلاء المرضى ، ومنهم ديزى التى لعبتها فى مرحلتى الشيخوخة والشباب القديرة ( كيت بلا نشيت ) ، ولكن ديزى لن تحكى لابنتها مباشرة حكاية والدها وحالته الغريبة ، ولكنه ستحكى قصة رمزية عاصرتها هى مفتاح الفيلم كله ، لقد عرفت صانع ساعات أعمى اسمه (جاتو ) أخذوا ابنه وأرسلوه للحرب العالمية الأولى فمات ، ولذلك صمم على أن يصنع ساعة عملاقة توضع فى محطة القطار ، ولكنه جعل عقارب الساعة تدور للخلف تعبيرا عن حلمه بأن الحرب لم تقع ، وابنه لم يمت ، وعندما جاء الرئيس الأمريكى ( تيدى روزفلت ) لافتتاح المحطة ، أذهلته الساعة وكلمات الأب المكلوم ، فأحنى رأسه لأنه لم يجد تعليقا .







ولأن صناع الفيلم يعرفون أن فيلمهم يجسد حلم الإنسان بالسيطرة على الزمن فإنهم يحققون ذلك بصريا عندما نشاهد الشريط وقد عاد الى الخلف ، وعاد الإبن الى أسرته ، وهذه القصة الرمزية تجسد مضمون الفيلم بأكمله لأنها تقول إن الإنسان عاجز أمام الزمن وأمام القدر ، وكل ما يستطيعه هو أن يصنع ساعة تعمل بالعكس ، لأنه لا يستطيع أن يصنع زمنا يسير بالعكس ، ولكن خالق الزمن سيبعث معجزة أخرى تؤكد أنه وحده المسيطر على الزمن । سيخلق طفلا تسير حياته بالعكس حيث سيولد شيخا ثم سيصبح شابا ليموت طفلا رضيعا । بوتون مثل ميشيلينا وأصدقائه من أهل الكهف سيتلاعب به الزمن ।مشكلة أهل الكهف أنهم ناموا أكثر من 300عام ثم استيقظوا ليجدوا أنفسهم فى المستقبل ، ومشكلة بوتون أنه سيفقد ماضيه بأكمله عندما يعود الى طفولته فى أيامه الأخيرة । الإثنان ميشلينا وبوتون لن يعيشا إلا بالحب لأنه الشئ الوحيد الذى لا يغيره ولا يقهره الزمن .







العقل والقلب
بمنطق العقل كان يجب ألا يعيش هذا المسخ المشوه الذى ولد لأب شديد الثراء هو توماس بوتون الذي سنعرف فيما بعد أنه صاحب أكبر مصنع للأزرار فى أمريكا । لقد اعتقد عندما شاهد طفله الوليد بملامح شيخ عجوز أنه أنجب مسخا لا يحتمل ، ولذلك بعد وفاة الأم الى مدخل دار نولون للمسنين ، ولكن بمنطق القلب سيعيش بنيامين عندما تجده خادمة السوداء مس كوينى । ستعطف عليه وتكرس نفسها لرعايته كابن لم تنجبه يضاف الى آخرين ترعاهم فى سن الشيخوخة ।القلب وحده سيستوعب هذه اللعبة الزمنية العجيبة تماما كما حدث مع ميشلينا الذى دخل الكهف وهو يحب فتاة اسمها بريسكا هى ابنة الحاكم الرومانى دقلديانوس مضطهد المسحيين ،وعاد اليه ومعه فتاة أخرى على اسم حبيبيته القديمة (هى فى الواقع حفيدتها ) فضلت أن تدفن معه حتى النهاية .







حب المربية السوداء ، وصديقها مستر ويزرز ، وحب عجائز الدار الذين لا يطلبون الكثير ، كل ذلك سيجعل الطفل العجوز يسير على قدمين بمساعدة عكاز ، وسيشارك قس المدينة فى المعجزة رغم أنه لم يعرف أبدا أن هذا العجوز ، ليس إلا طفل صغير ।سيتعلم بنيامين الذى لعبه فى معظم أطوار حياته شيخا وشابا (براد بيت ) - القراءة والكتابة ، وستتغير حياته بظهور ديزى الطفلة التى تزور جدتها فى دار المسنين ، إنها تصغره بست سنوات ، ولكنه يعيش معها حياته كطففل ।يستمع معها للحكايات ، ويأخذها الى الصندل الضخم الذى عمل فيه ليطوف العالم ، ويكتب لها من كل مكان يذهب إليه .







الحب أيضا هو الذى سيساند بنيامين عندما يصادق قائد الصندل السكير (مايك كلارك ) । سيعرف معه النساء للمرة الأولى ، وسيسمع معه حكايات عن حلمه الدائم بأن يكون فنانا ، ولذلك حول جسده الى لوحات بالوشم ، وسيحكى مايك للبحارة قصة أخرى رمزية عن طائر الطنان الذى لا تتوقف أجنحته عن الحركة حتى يموت ।انها حركة تشبه علامة اللانهاية فى الرياضيات ، وكأن الطائر يعبر عن الإنسان الذى لا يهدأ حتى يتوقف الزمن بالنسبة له بالموت ، وعندما يموت مايك بالفعل لمشاركة الصندل فى الحرب العالمية الثانية بعد تدمير الأسطول الأمريكى فى بيرل هاربور ، يكون هذا البحار السكير قد ترك ل بنيامين أحد مفاتيح التعامل مع الحياة عندما يعرف أنه يستطيع ان يقول أى شئ عن القدر وعن مسار الظروف والأحداث ، ولكن عندما يأتى الموت عليه أن يستسلم على الفور دون أى اعتراض .



سيعرف بنييامين - وهو يتخلص تدريجيا من مظاهر الشيخوخة - حب امرأة بريطانية هى مسز إليزابيث زوجة رئيس البعثة التجارية فى مورمانسك فى روسيا ، السيدة أيضا تجاوزت سن الشباب ولكنها تعيش بالحب مشاعر لم تعرفها مع زوجها ، وسيبدو كذلك أنها فى معركة خاصة مع عمرها لأنها فشلت فى عبور المانش وهى شابة ، وسيظل هذا الحلم معها حتى نعرف قرب نهاية الفيلم أنها حققته فى سن الشيخوخة .
لكن الحب الأكبر الذى سيغير حياة بنيامين هو علاقته مع ديزى التى أصبحت الآن أشهر راقصة باليه فى نيويورك ، وكانت أبضا الأمريكية الوحيدة التى رقصت مع البولشوى ، ديزى لديها كذلك مشكلة مع الزمن : مهنتها عمرها قصير وهى لا تجد نفسه إلا فى هذه الحركات الرشيقة التى تبدو بالإضاءة والخلفيات الملونة كما لو كانت سباحة فى الزمن ، ولكنه ستتعرض فى باريس لحادث سيارة قدرى يكسر ساقها ويجبرها على اعتزال الرقص ، ولأن بنيامين يحبها سيقف معها حتى النهاية ، بل إنه سيحلم - وسنرى حلمه بالصورة - أن هذا الحادث لم يقع أبدا ، لن تتقبل هى مأساتها رغم أنها كانت تحدثه عن القسمة والنصيب ، ولكنها ستعوض حلمها بافتتاح مدرسة لتعليم الباليه ، وستعوضه أيضا بالعثور على الحب ، والزواج من بنيامين الذى عرفته شيخا فى طفولته ، ثم تزوجته شابا !



سيستمر اللعب مع الزمن حتى النهاية ، وكل ما يمتلكه الإنسان هو الحلم والعمل والرضا بعد اداء الواجب ، سيكتشف بنيامين وديزى أنهما يستطيعان نسيان الزمن بالحب ، ولكن عندما تحمل يعود الزمن الى إدارة اللعبة من جديد ، ليت هناك مشكلة فى حلة بنيامين الإقتصادية بعد أن اعترف به والده الثرى الراحل ، وبعد أن ورث عنه مصانع الأزرار التى انتعشت بسبب الحروب وسترات الجنود ।المشكلة أن الطفلة القادمة والتى ستحمل اسم كارولين ، ستكتشف أن والدها يصغر فى العمر ليصبح طفلا مثلها ، وستجد ديزى نفسها مضطرة لتربية الطفلة وأبيها بالمعنى الحرفى لا المجازى ، هنا لن يجد بنيامين سوى الهروب من أسرته ليواجه لعبة الزمن فى كل مكان فى العالم ، ولكنه سيعود الى ديزى شابا مراهقا ليجدها قد تزوجت من شخص آخر ، أما الإبنة فقد أصبحت مراهقة مثله ، ومرة أخرى سيهزم الحب الزمن عندما تقضى ديزى ليلة أخيرة مع بنيامين الذى ارتد مراهقا فى علاقة تذكرنا بعلاقته مع الإنجليزية المتزوجة ( إليزابيث ).





يرتد بنيامين الى الطفولة حيث يُعثر عليه فى منزل آيل للسقوط ، ومن خلال مذكراته المكتوبة وبها عنوان ديزى ستذهب إليه وقد أصبحت عجوزا ، لم يعد الطفل يتذكر شيئا ، الزمن يعلن عن نفسه بلا هوادة ، ولا يتوقف عن قهر الإنسان حت يصبح بنيامين طفلا رضيعا تحمله زوجته ديزى !





نعود الى المستشفى حيث ديزى فى لحظاتها الأخيرة تنتظر الإعصار كاترينا مع ابنتها كارولين ، الإعصار من جديد هو المعادل البصرى للزمن الكاسح المكتسح ، والإنسان بلا قوة أمامه ، كاترينا اكتسح المدن الأمريكية ، والبشر طفوا على صفحة الماء كما طفوا على صفحة الزمن ، ديزى تقول إنهم غيروا الساعة التى تسير بالعكس فى محطة القطار ، وصنعوا ساعة تسير بطريقة طبيعية ، ولكن ما قيمة ذلك إذا كانت الساعة ستظهر محطمة وسط مياه إعصار الزمن المكتسح فى نهاية الفيلم । احلم كيف شئت ولكن لاتنس رضا الرجل العجوز الذى تضربه الصواعق فى كل مكان ، ولا تنس أن تستسلم عند الموت لأننا مجرد ( حروف كتبت لكن بماء ).