السبت، 26 يونيو 2010

( نشر هذا المقال عن فيلم " التكفير " فى جريدة روز اليوسف اليومية بتاريخ 13/2/2008)



عن الحب والحرب والذنوب التى لاتغتفر !



محمود عبد الشكور



يمكنك أن تنظر من أكثر من زاوية لفيلم " التكفير " (The Atonement) للمخرج " جو رايت " : الزاوية النفسية باعتباره محاولة من أبطاله للتكفير عن ذنوب مدمرة ارتكبت فى الطفولة ولا تسقط بالتقادم ، والزاوية الإجتماعية باعتبار أننا أمام حكاية حب عاصفة نشأت فى ظل حرب قاسية ، وبين طرفين بينهما فروق إجتماعية لم تقهرها العاطفة أو التعليم ، والزاوية الإنسانية الشاملة باعتبار الفيلم دراسة عما تفعله الحرب فى الناس ، كما أنه محاولة للإجابة عن سؤال معلق فى كل الحروب هو : ومن يستطيع التكفير عن مآسى الحروب التى تقتل الملايين ، والزاوية الفنية والأدبية باعتبار أن الفيلم المأخوذ عن رواية كتبها " أيان ماكوين " يكاد يرتفع بالفن والأدب الى مرتبة علاج الضمائر المثقلة بذنوب الماضى . هنا حكاية حب مزقها الواقع وخلدها الفن ، وكأننا أمام تنويعة جديدة على فكرة الخلاص والخلود بالأدب والفن .



الحكاية فى " التكفير " بسيطة للغاية ويكن أن تروى فى سطور قليلة : الفتاة الصغيرة ( بريونى تاليس ) ذات الخيال الواسع وقعت فى سن الثالثة عشرة فى غرام ( روبين ) ابن مديرة منزلهم الفقير ، ولكنه كان يعشق شقيقتها الكبرى (سيسيليا)،، وعندما اكتشفت ( بريونى ) علاقتهما لم تتردد فى اتهامه باغتصاب ضيفة كانت تقيم عندهم تدعى ( لولا ) . تندلع الحرب العالمية الثانية فيفضل ( روبى) الذهاب الى الميدان بدلا من البقاء فى السجن ، ويحاول أن يستأنف علاقته مع ( سيسيليا) التى قاطعت شقيقتها وتحولت الى ممرضة متطوعة ، ولكن العاشقين يموتان فى الحرب : هى فى انجلترا وهو فى ( دنكرك ) شمال فرنسا ، ولأن الجرح لم يندمل ، فإن 0 بريونى ) التى أصبحت أديبة مرموقة تقرر فى شيخوختها أن تكتب روايتها الأخيرة عما فعلته من تدمير لعلاقة ( سيسيليا ) و (روبى )، وتطلق على الرواية اسم التكفير .



ولكن " التكفير " الذى كتب له السيناريو والحوار " كريستوفر هامبتون " ليس هو الحكاية ولكنه الشخصيات وتحولاتها وعواطفها ، وقد لجأ السيناريست الى عدة حيل ذكية ومشوقة لتحقيق ذلك خاصة فى النصف الأول من الفيلم أولها أنك تتعرف أولا على النتيجة ثم تشاهد فى المنظر التالى تفسيرا لحدث ، وخاصة عندما نرى الأحداث من وجهة نظر ( بريونى ) المراهقة التى تتسرع فى الحكم ، وقد تكررت هذه الحيلة مع مشهد تلصص ( بريونى ) على شقيقتها و ( روبى ) أمام حوض الماء ، ثم دخولها عليهما وهما فى لقاء حميم داخل المكتبة ، وللمحافظة على عنصر التشويق أيضاً لا نرى المشهد الوحيد الذى تحاول فيه ( بريونى ) جذب انتباه ( روبى ) لينقذها من الغرق إلا فى النصف الأخير من الفيلم ، ومن وجهة نظر ( روبى ) نفسه المتورط فى الحرب فى فرنسا ، ومن أفضل حيل السيناريو أيضا دمج المشهد الذى لم يحدث ولكن تخيلته بريونى فى روايتها عن لقاء بينها وبين سيسيليا وروبى حاولت أن تطلب فيه الصفح منهما دون جدوى ، وقد اعتبرت بريونى هذا اللقاء الذى ابتكرته فى الخيال تعبيرا عن أمنية لم تتحقق ، ثم استبقى هامبتون مفاجأته الأخيرة عندما تظهر بريونى وقد تقدمت فى العمر ( بأداء الممثلة الكبيرة فانيسا ريدجريف ) وهى تتحدث عن روايتها عن الأخيرة الواقعية ، وعن مرضها الذى جعلها تحاول التكفير من خلال الفن والخيال ، ثم تتحدث أخيرا عن موت روبى فى يونيو 1940 بتسمم فى الدم ، وموت سيسيليا فى قصف للطائرات الألمانية فى أكتوبر 1940 ، ويعبر المشهد الأخير عن لقاء روبى وسيسيليا الذى لم يحدث أبدا فى كوخهما على البحر ، كما يعبر عن نجاح الفن فيما لم ينجح فيه الواقع .

ومن أفضل تصرفات هامبتون الحرية التى تعامل بها مع الزمن بحيث تبدأ الأحداث عام 1935ثم يقفز خمس سنوات نعود بعدها شهورا وأ تنسىسابيع الى الخلف وكأته لا يعنيه سوى رصد تحولات شخوصه ، وإن كنت أظن أنه لم يرصد لحظة التحول فى حياة بريونى رغم مشهد تحجر الدموع فى عينيها عند إلقاء القبض على روبى ، كما بدت علاقتها بالجندى الفرنسى الجريح وحبه لها فى لحظات الإحتضار مبتورة وبلا معنى رغم أنها قد تكون على الأرجح من أسباب تحولها ، وشعورها المضاعف بالذنب . وعلى الرغم من أهمية مشاهد الحرب خاصة تلك التى تسجل انسحاب 300ألف جندى إنجليزى من فرنسا عام1940بعد الهزيمة ، إلا أننا أحسسنا أننا خرجنا من الجو الخاص الذى كرسه الجزء الأول من الفيلم ، ومن الواضح أن الضغط على ما حدث فى الميدان ومأساة الحرب هو محاولة لربط فكرة التكفير بمعناها الفردى بفكرة التكفير بمعناها الإنسانى عندما يطرح هذا السؤال : ومن يكفر عن المأساة التى حصدت الملايين مثلما كفرت بريونى عن خطئها فى حق شقيقتها وحبيبها روبى ، كما أن شخصيات أخرى مساعدة ولكنها شديدة الأهمية لم تنل حظها من من التحليل والعمق مثل لولا الفتاة المغتصبة ، وبول مارشال صاحب مصنع الشيكولاتة الذى تزوجها فيما بعد رغم أنه اغتصبها قبل خمس سنوات !

كل العناصر الفنية كانت على مستوى رفيع تحت قيادة ( جو رايت ) الذى أدار ممثليه ببراعة خاصة الممثلات الللاتى قمن بدور بريونى فى مراحل عمرية متفاوتة ، ولم يكن هناك اختيار أفضل من ( فانيسا ريدجريف ) لتعطى ثقلا مستمدا من تاريخها الطويل لشخصية بريونى فى سن الشيخوخة ، وقد جسد ( جيمس ماكفوى ) مشاهد لاتنسى فى الجزء الثانى كجندى وكعاشق يحاول أن يعود الى بريطانيا ليتزوج سيسيليا ليمحو عنها وعن نفسه العار، ونجحت كييرا نايتلى الى حد كبير فى تقديم شخصية الفتاة قوية الشخصية التى تكبت عواطفها المتأججة تحت قناع زائف من الجدية والإستعلاء الطبقى ثم ينهار هذا الجدار تماما بعد سجن حبيبها وإرساله الى الحرب . نجح المخرج ( جو رايت ) أيضا فى تقديم مشاهد الحب والحرب ببراعة واقتدار وكأنهما وجهان لعملة واحدة ، ولا ننسى المشهد الملحمى لا نسحاب الإنجليز من دنكرك ، وهو عبارة عن لقطة واحدة طويلة تتحرك فيها الكاميرا مع روبى واثنين من أصدقائه لتتابع الجرحى والقتلى والمدنيين والسفن والمعدات المدمرة وعجلة الملاهى الضخمة والخيول التى يطلقون عليها النار ، ثم تصعد الكاميرا مع الثلاثة الى حيث يدخلون إحدى الحانات ، وهذا المشهد الطويل يستحق أن يدرس فى معاهد السينما لأنه من أفضل المشاهد التى تجسد كارثة الحرب بطريقة مبتكرة ومؤثرة . ومن المشاهد الناجحة أيضا مشهد روبى الجندى المنهار وهو يدخل سينما بلا جمهور تعرض على شاشتها أحد المشاهد الرومانسية فى يبدأ هو رحلة الهذيان . ونجح المونتاج بامتياز فى تحقيق التشويق خاصة فى الجزء الأول من الفيلم ، وتحديدا فى لحظات كتابة روبى لرسالة الى سيسيليا بها لفظ فاضح ، ثم تغييره لها برسالة اعتذار ، وأخيرا وصول الرسالة عن طريق الخطأ الى يد بريونى ، واستخدامها فيما بعد لإدانة روبى باغتصاب ضيفة العائلة ، ورغم أن الإيقاع سيهبط بعد القبض على روبى والقفز خمس سنوات الى الحرب العالمية الثانية ، إلا أنه يعود الى التماسك مع ظهور بريونى كممرضة متطوعة تطلب الغفران فى سن الثامنة عشرة ، وقد ساهم شريط الصوت بدرجة واضحة فى التعبير عن مشاعر هذه الفتاة بالمزج بين صوت البيانو ودقات الآلة الكاتبة الت سنسمعها بسرعات متفاوتة سواء فى بداية الفيلم وهى تكتب مسرحيها الأولى " محاكمة أرابيلا " ، أو فى مشاهد عملها بالمستشفى ، وبالمثل يمكن الحديث عن براعة التصوير فى التعبير عن مشاهد رقة الحب ومشاهد قسوة الحرب .

فيلم ( التكفير) يتحدث عن الإنسان الذى لا نعرف عنه إلا القليل ، وهو فيلم عن العواطف الداخلية المعقدة ، وعن قدرة الفن على تحرير صانعيه ، وقدرته على تخليد الواقع وتغييره للأفضل ، بل إن كلمة الواقع نفسها تبدو مضللة وغير دقيقة لأننا أمام واقع افتراضى ومراوغ . لقد شاهدنا على الشاشة طريقة صنع رواية خطوة بخطوة ، وساهمنا نحن بخيالنا فى استكمالها بالموافقة على نهايتها الإفتراضية السعيدة ، ثم إن ( التكفير ) يثبت ما نكرره دائما من أن أكثر الأفكار عمقا يمكن أن تنقلها الحكايات البسيطة والعواطف الصادقة والمواهب الإستثنائية .

الخميس، 24 يونيو 2010




السبت، 19 يونيو 2010

نوستالجيا :




عن الأفلام وصالات العرض السينمائى !




تصنع الأفلام لكى تعرض فى أماكن مخصصة لذلك يطلقون عليها اسم دور الخيالة بالفصحى أو دور العرض السينمائى . كانت هذه العبارة فى حكم البديهيات فى سنوات السينما الأولى رغم أن العرض التجارى الأول للأخوين لوميير كان فى أحد المقاهى ، ولكن السينما سرعان ما صنعت المكان الخاص الذى تعرض فيه بما يصاحبه من امكانيات تتفق مع العرض الجيد ، وبما يصاحبه من طقوس للمشاهدة سواء فى عصر السينما الصامتة أو المتكلمة . فى عصر السينما الصامتة مثلا كان يوجد داخل دار العرض مكان للأوركسترا لعزف الموسيقى المصاحبة خاصة فى الأفلام الضخمة . وفى مصر كان هناك - كما قرأنا - شخص اسمه المفهماتى كان يشرح أحداث الفيلم للجمهور مدعيا أنه يقرأ اللوحات المكتوبة على الشاشة بينما هو يقوم بإعادة تأليفه من جديد مانحا أبطاله اسماء مصرية ، ومطلقا على الشخص الشجاع الذى يضرب الجميع لفظ الشجيع !




ظلت الأفلام تعرض عادة فى دور العرض حتى ظهر التليفزيون فأصبحت هناك نافذة جديدة للمشاهدة ساعدت فى نشر السينما وأفلامها على نطاق واسع ، ولكنها - من ناحية أخرى - لم تقدم الأفلام بجودتها الكاملة كما صنعت سواء من حيث الصوت أو حجم الصورة أوالمؤثرات ، وأتذكر أننا كنا نشاهد طوال السبعينات فيلما ضخما فخما مثل ( الناصر صلاح الدين ) بطريقة بشعة يضيع فيها ربع الكادر مما يجعلك لا تستطيع من خلالها مشاهدة بعض الشخصيات ، وبدا أحيانا كما لو أن صلاح الدين مثلا يخاطب أشباحا لا نراها ؟!ولو كنت مكان يوسف شاهين لرفعت قضية فورا على التليفزيون لأن عدم عرض الفيلم أفضل وأكرم من هذه الكارثة .




فى مرحلة تالية ظهر اختراع جديد اسمه الفيديو الذى أتاح ليس فقط مشاهدة الأفلام القديمة التى يعرضها التليفزيون ليلا ونهارا ، ولكنه يتيح أيضا عرض أفلام أحدث لن يعرضها التليفزيون إلا بعد عرضها السينمائى بشهور ، وبعد الفيديو انتشرت الفضائيات وقنوات الأفلام التى تعرض كل شئ وأى شئ يحمل اسم فيم سينمائى ، ونتيجة لذلك تراجع الفيديو ، وتحولت متاجر عرض شرائط الفيديو الى محلات لأجهزة الكمبيوتر الذى أصبح بدوره النافذة الجديدة للأفلام من خلال الآسطوانات أو عن طريق تحمل الأفلام من الشبكة العنكبوتية وتدمير الصناعة ، ولن أستغرب إذا اصبحت الظاهرة القادمة مشاهدة الأفلام الطويلة مستقبلا على شاشة المحمول أو حتى من خلال ساعة اليد ، أو ربما بالنظر الى طبق المائدة أثناء تناول الطعام .


أعترف طبعا أن هذه النوافذ الحالية أو المستقبلية زادت من جمهور الصناعة وأوجدت مصادر أكبر لتمويل الأفلام وإنتاجها ببذخ لا نظير له ، ولكن المشاهدةالمثالية للأفلام مازالت فى دار العرض ، ورغم أننى لم أدخل هذه الدورعلى نطاق واسع لإسباب سأذكرها حالا ، ورغم أننى شاهدت معظم تراث السينما المصرية والعالمية فى التليفزيون ، ولولاه ما استطعت متابعة هذا الكم الهائل من الأفلام .مع هذا انتهز الفرصة لمشاهدة أى فيلم قديم فى نسخة 35ميللى حتى لوكنت شاهدته من قبل ، ومازلت أتمنى أن أشاهد فيلما مثل ( الناصر صلاح الدين ) فى نسخة سينمائية تعرضها إحدى دور العرض المصرية مثلما فعلت سينما (أوديون ) لسنوات طويلة مع فيلم ( عبد الحليم ) الأشهر ( أبى فوق الشجرة ) الذى لم أشاهده -حتى الآن - على قنوات الأفلام الفضائية ، وأعتقد أنه سيقل كثيرا لأو عرض فضائيا خاصة فيما يتعلق بصورة ( وحيد فريد ) البراقة ، أو حتى فيما سمعته من أغنيات تتردد بصوت فى قاعة مغلقة معزولة عن العالم كله !


قال لى أبى إنه كان يصطحبنى مع الأسرة ، وأنا دون سن السادسة ، الى دار العرض السينمائى ، وأننى كنت أبكى وأفسد عليهم الفيلم تماما . طبعا لا أتذكر هذه المرحلة ، ولكنى أذكر جيدا أمرين : الأفلام الأولى التى شاهدتها فى التليفزيون الأبيض والأسود (ناشيونال 20بوصة ) ، والأمر الثانى : المرة الأولى فى حياتى التى دخلت فيها دارا للعرض السينمائى فى مدينتى ( نجع حمادى ).



كنا - نحن أطفال الأسرة - ننتظر مناسبات محددة للتجمع مثل أيام مباريات الكرة ، وليلة الحفلات وخاصة ليلة حفلات عبد الحليم حافظ التى كنا نحفظ معظمها دون أن نفهم معناها ، ثم أيام عرض الأفلام العربية التى كانت مثل الفاكهة ، وفى ايام محددة من الأسبوع وليس طوال اليوم مثلما نشاهد اليوم على الفضائيات . ما أحلى تلك اللحظات التى كنا نجلس فيها على السجادة الضخمة فى حجرة الجلوس فى حين يجلس الكبار على ( الطقم ) لكى نشاهد معا فيلم السهرة . كل شئ كان جديدا ويدعو للدهشة لأننا نراه لأول مرة : التلفزيون والأفلام وسعاد حسنى ، لن أنسى من الأفلام الأولى فيلم ( حسن ونعيمة ) ، وتلك المرأة الطفلة التى كانت تردد بصوت رفيع (يا سي حسن ) .. ولا أنسى فيلم ( ملاك وشيطان ) الذى حرمنى النوم أياما خوفا وفزعا لأننى كنت فى نفس سن الطفلة التى خطفتها فى الفيلم ، ولن أنسى الإستعراض التى كانت تقدمه نيللى لزوجها فى أحد الأفلام ، وكان يلعب دور الزوج (صلاح ذو الفقار ) .


ولكن متعة المشاهدة التلفزيونية للأفلام الأولى فى التليفزيون لا تقارن مع ذلك بالمرة الأولى التى شاهدت فيها فيلما فى دار العرض . لم يكن أبى ضد السينمابل كان يحكى دائما عن ذهابه مع وفد ضخم أثناء طفولته الى مدينة قنا لمشاهدة فيلم ( عبد الوهاب ) الجديد ( الوردة البيضاء )، ولكنه كان ضد أن ندخل دورعرض الدرجة الثالثة حيث لا صوت ولا صورة ولا جمهور ولا أخلاق ، ولحسن الحظ ، كانت لدينا فى نجع حمادى دار عرض تبتعد عن هذا التعريف اسمها ( سينما النيل ) - يارب تكون مازالت موجودة ، كانت سينما صيفى محترمة قريبة من النيل العظيم ، وتستأثرفى الأعياد بأفلام العرض الأول ، وكنا كأطفال ننتظر اعلان الأفلام الصوتى فى التليفزيون لكى نسمع أن الفيلم الفلانى ستعرضه أيضا ( سينما النيل بنجع حمادى ) ، ورغم أن المدينة لم تعد ريفية منذ أن استضافت - وماتزال - اثنين من أكبر مصانع مصر هما : مصنع السكر ومصنع الألو منيوم ، إلا أنها كانت تحتفظ فى بداية السبعينات بالتقليد الريفى فى الإعلان عن الأفلام المعروضة . لا أنسى مثلا هذا الرجل الذى شاهدته يحمل طبلة معلنا عن ( الفيلم الكبير .. بنت اسمها مرمر ) .. وخلف رجل آخر يحمل أفيش الفيلم الملون ، وحولهما عدد ضخم من الأولاد والبنات يصفقون فى سعادة لا حدود لها .


انتظرت حتى العيد الكبير لأدخل السينما لأول مرة فى حياتى فى سن تمكننى من التذكر ، ربما كنت فى الصف الأول الإبتدائى ، كان معى أخى الذى يكبرنى بثلاث سنوات ، وخمسة أو ستة من الجيران أكبرهم فى المرحلة الثانوية مما جعل أبى مطمئنا على أننا فى أيد أمينة . أذكر جيدا أن قائد الرحلة الأكبر سنا وخبرة اشترى لنا سندوتشات طعمية ساخنة بالطماطم والفلفل الرومى لم أذق حتى الآن ماهو أشهى منها طعما ، ورغم أننى لا أذكر لقطة واحدة من الفيلم المعروض واسمه ( من البيت الى المدرسة ) ، ورغم إننى أعتقد أن أبطال الفيلم أنفسهم مثل نور الشريف لا يتذكرونه ، فإن الدهشة الأولى لرؤية الأطياف الملونة على الشاشة العملاقة لم تفارقنى حتى الآن ، فيما بعد قال لى أخى ضاحكا إننى كنت أصرخ فزعا عندما كانت السيارة المسرعة تملأ الشاشة ، وظل فى ذاكرتى حتى الآن لقطة لأحد الضفادع البشرية أثناء خروجه من الماء ربما كانت جزءا من ( تريلر ) العرض القادم لفيلم أجنبى .


دخلت هذه السينما فيما بعد أكثر من مرة بصحبة أخى الأكبر وفى مناسبة الأعياد لدرجة أن لحظة دخول الأفلام مازالت ترتبط عندى بالبهجة الى هذه الساعة . أذكر أيضا أننا شاهدنا مرة طوفانا من البشر حول سينما النيل لإنها ستعرض فيلم ( السكرية ) . طبعا كان من المستحيل التفكير فى الدخول ، ولكننى دخلت فى أعياد أخرى بعض أفلام العرض الأول الكوميدية الخفيفة مثل ( الى المأذون ياحبيبى ) بطولة صفاء أبو السعود وسمير غانم و فريد شوقى ، وفيلم ( أونكل زيزو حبيبى ) بطولة النجم الطالع وقتها ( محمد صبحى ) .. ومع الأسف انتقل والدى بحكم عمله كمدرس للفلسفة الى مدينة أصغر وذات طابع ريفى . لم يكن فى تلك المدينة دار للعرض فى مستوى سينما النيل رغم وجود سينما بها تحمل اسم سينما الجمال لا علاقة لها إطلاقا بهذه الصفة . طبعا اكتفيت بالرحلات السينمائية الى ( نجع حمادى ) بالإضافة الى حكايات زملاء الفصل عن الأفلام التى يشاهدونها فى سينما الجمال التى ينقطع فيها الصوت أثناء العرض مما يستدعى الصفير والنداء على عامل العرض صارخين :"الصوت يا حافظ ". أذكر جيدا أنهم حكوا لى بالتفصييل فيلم ( الأبطال ) من بطولة ( أحمد رمزى ) و ( فريد شوقى ) . لقد حفظت هذا الفيلم بالمشهد والكلمة تقريبا من زملاء الفصل لدرجة أننى كنت أسمع الحوارعندما شاهدت الفيلم لأول مرة فى الفضائيات . كان الزملاء مبهورين بالفيلم الذى وصف وقتها بأنه أول فيلم كاراتيه مصرى ، وكان عرضه مستمراً فى سينما الجمال كعنصر لا يتغير وسط أفلام البروجرام طوال عدة سنوات لدرجة أنك تستطيع أن تقول سينما الجمال بتاعة فيلم الأبطال مثلما كان يقال سينما ( ديانا ) بتاعة فيلم ( أبى فوق الشجرة ) حيث عرض فيها لمدةعام كامل !


دار العرض ليست مجرد مكان لكى تشاهد الفيلم كما يُراد له أن يُشاهد ، ولكنه حياة بأكملها بكل طقوسها ولحظاتها ومعاناتها وناسها وأفلامها وستائرها ومقاعدها وعمالها ونافذتها التى تسقط شعاع الضوء على الشاشة البيضاء . السينماهى دار العرض التى دخلتها فى كل مكان تقريبا وفى كل درجاتها : مترو وبكاء البنات فى فيلم تيتو . كريم وفرحة الإعجاب ببراعة محسن محى الدين فى فيلم اليوم السادس . سينما راديو المغلقة ومشاهدة فيلم الهروب . سينما أوديون والمشاهدة الأولى لفيلم أبى فوق الشجرة وعشرات الأفلام الأجنبية القديمة فى أسابيع خاصة . سينما بيجال والمشاهدة الثانية لفيلم ( مواطن ومخبر وحرامى ) بعد المشاهدة الأولى فى مترو . سينما ريفولى ومتعة اكتشاف عرق البلح . سينما كايرو بالا س بستارتها الذهبية البديعةالتى خطفت نظرى اثناء مشاهدة ( ملك وكتابة ).سينما التحرير والمشاهدة الأولى لفيلم ( الراعى والنساء ) .


لكل دار عرض حكاية وذكرى أتمنى أن أحكيها لكم كلما سنحت الظروف .

الجمعة، 18 يونيو 2010

(نشر هذا المقال فى 20أبريل ( نيسان ) من العام 2008، ويحاول أن يضع الفيلم الأمريكى المتميز ( لا وطن للعجائز ) فى إطار أكبر مما قد يراه البعض لأول وهلة كمجرد فيلم آخر عن المخدرات والقتل من أجل حفنة دولارات )



( لا وطن للعجائز ) - ولا للعقلاء أيضاً !



محمود عبد الشكور



يستحق فيلم ( لا وطن للعجائز ) " لمخرجيه الشقيقين ( إيثان ) و(جويل كوين ) الضجة والتقدير اللذين رافقاه فى كل مهرجان عرض فيه لأنه حلة خاصة من سينما التشويق والعنف لا تكتفى بمشاهد القتل والتوتر والتصفية الجسدية ، ولكنها تحاول أن تناقش ما هو أعمق ، وتحاول أن تفشر ما يحدث أو تفلسفه ، ومن هذه الزاوية فإن ( لاوطن للعجائز ) ليس فيلما عن المال والمخدرات أو حتى عن جرائم القتل التى ترتكب على الشاشة بكل بساطة ، ولكنه فيلم عن الشر داخل الإنسان ، عن ذلك الوحش الذى يراه صناع الفيلم أصيلا وراسخا ومستمرا وبلا حدود وغير قابل للهزيمة ، الفيلم أيضا عن البحث شبه العبثى عن الحقيقة والعدالة فى حين تبدو حياة الإنسان تدور فى حلقة مفرغة ، ولذلك نستطيع القول أننا أمام فيلم فيه عالم ( بولا نسكى ) المخرج البولندى الأشهر صاحب النظرة السوداوية عن الإنسان ومصيره ، ولا أشك لحظة فى أن هذا المخرج الكبير كان سيرحب حتما بأن يضع اسمه على ( لا وطن للعجائز ) الذى يحتفظ أيضا بأصالة وبصمة مخرجيه ( إيثان وجويل كوين )



حكاية الفيلم يمكن أن تكون شاهدتها فى أفلام كثيرة سابقة ولكن مسطحة وبدون أى أبعاد : إنه الصراع العبثى على المال والمخدرات ، ولكن الصراع هنا يدور بين ثلاث شخصيات اساسية هى : ( لوبليه موس ) الذى يعمل لحاما ، والذى نعرف أنه حارب فى فيتنام ، ولكن حياته تتغير وهو يصيد الغزلان عندما يكتشف مجموعة من السيارات بداخلها وحولها جثث افراد عصابة قامت بتصفية بعضها البعض ، وتركت حقيبة بها 2مليون دولار ، والشخصية الثانية هى القاتل شبه المعتوه ( أنطون شيوجر ) الذى يمارس القتل بمناسبة وبدون مناسبة ، ونراه يطارد (موس ) من فندق لآخر للحصول على الحقيبة ، والشخصية الثالثة هى المأمور المخضرم الذى يقدمه الفيلم بلا اسم ، ويؤدى دوره النجم ( تومى لى جونز ) ، وهذا المأمور هو الذى يعطى الفيلم عمقه الفلسفى والإنسانى حيث يعلق طوال الوقت على هذه المهزلة الأرضية أثناء مطاردته أيضا ل(موس ) سارق الحقيبة ، ول ( شوجر ) القاتل العشوائى ، ثم تضاف بعد ذلك شخصيتان مساعدتان وهامتان هما : " كارسون ويلز " ( بأداء النجم وودى هارلسون ) الذى يكلف من قبل شخص غامض بتصفية ( شوجر ) ولكن الأخير يقتله بهدوء وثقة ، و( كارلا جين ) زوجة ( موس ) ونقطة ضعفه ، والتى يهربها الى مدينة ( أوديسا ) خوفا عليها ، ولكنها تموت أيضا على يد ( شوجر ) الذى يصفه أحد أبطال الفيلم بأنه الشر الخارق ، ولهذه المطاردة الدموية العبثية ثلاث نهايات متكاملة : الأولى هى مصرع ( موس ) وزوجته ( كارلا ) ، والثانية هى نجاة ( شوجر ) للمرة الثانية من القتل رغم إصابته ، والثالثة هى اعتزام المأمور التقاعد بعد أن مارس عمله فى البحث عن الحقيقة والعدالة ومطاردة الشر بلا جدوى منذ أن كان فى سن الخامسة والعشرين .



مفتاح هذا الفيلم البديع بالتأكيد هو شخصية ( أنطون شوجر ) الذى يرتفع من شخص عادى الى ما يشبه أن يكون تجسيدا ً للشر نفسه ، صحيح أننا نسمع أنه معتوه ، ولكن هذا الوصف يأتى من خلال عيون الآخرين ، أما هو فلديه منطقه وكأنه مكلف بمهمة لا يستطيع أن يتراجع عنها ، ورغم أنه لايحصل على المال ، بل ولا يكاد يهتم به ، فإن لذته المؤكدة فى فعل القتل ذاته ، ونحن لا نعرف- تماما مثل الشر - من أين أتى ؟،كما إنه غيىر قابل للموت أو التصفية ، ونراه فى أحد أقسى المشاهد وهو يستخرج الرصاص من رجله ببراعة ، وفى مشاهد كثيرة يظهر بدون تمهيد حاملا معه الموت ، وفى مشهد آخر هام يقذف يعملة معدنية فى الهواء ممارسا لعبة الموت والحياة مع أحد الخائفين . وفى مقابل هذا الشر القوى القاهر يقف الخير ممثلا فى المأمور وحيدا وتأملا بل وعاجزا ومهتز الإيمان ، ولعل ( لا وطن للعجائز ) من الأفلام النادرة التى تقدم مأمورا يعيش فى الغرب الأمريكى لا يطلق رصاصة ، ويبدو تقاعد المأمور فى النهاية كما لو انه استسلام كامل بعد أن أدرك أن المشكلة ليست فى حفنة من الخارجين عن القانون ولكنها فى الشر المتأصل فى الإنسان الذى لايمكن تغييره ، وفى نهاية الفيلم أيضا نسمع المأمور وهو يحدثنا عن عن نجاحه فى القبض على رجل قتل فتاة فى سن الرابعة عشر ما أدى الى الحكم بإعدامه بالكرسى الكهربائى ، ويحدثنا أن الرجل استقبل الحكم بهدوء ، بل إنه أكد أنه لو ترك حيا سيكرر جريمته مع آخرين لأنه يستمتع بالقتل .



أما بارقة الأمل الوحيدة فى الفيلم فهى فى الحلمين اللذين يحكى عنهمها المأمور لزوجته فى آخر مشهد من الفيلم : فى الحلم الأول يظهر والد المأمور ( وكان مأمورا ايضا ) وهو يحاول أن يمنح ابنه نقودا ولكنه يفتقده ، وفى الحلم الثانى يرى والده وهو يحمل شعلة نار ، ويتأكد عندها أنه عندما أنه عندما سيذهب الى أى مكان سيجد والده فى انتظاره بهذه الشعلة . الحلمان يمكن تفسيرهما ببقية إيمان ، وبأن الأمل فى قهر الشر ممكن ول حتى فى عالم آخر رغم اهتزاز ثقة المأمور فى عالم الروح ، ورغم ما شاهده من قسوة البشر خلال عمله ، ورغم ما يقرؤه لمساعده من خبر منشور حول حادثة مأساوية لعصابة تخصصت فى خطف كبار السن ثم قتلهم من أجل سرقة خطابات الضمان الإجتماعى التى يحصلون عليها ، وقد تساءل المأمور وسط دموع مساعده : " لماذ يعذبونهم قبل قتلهم ؟"، ويتعجب أكثر لأن الجيران لم ينتبهوا إلا عندما شاهدوا عجوزا وحول رقبته طوق كلب ، ولم يلفت انتباههم أبدا عمليات حفر القبور المستمرة للضحايا !

روعة فيلم ( لا وطن للعجائز ) فى نجاح صناعه فى تقديم فيلم تشويقى لا تستطيع أبدا أن تترك مقعدك أثناء مشاهدته ، ولا تستطيع أبدا أن تتوقف - فى نفس الوقت - عن التفكير لقراءة مغزى صوره ورسومه ، وروعة الفيلم أيضا أن شخصياته أمريكية بامتياز تجسد قسوة بيئة وشخوص الغرب الأمريكى ، وهناك إشارات واضحة عن هذه البلد الصعبة على ناسها ، كما أن هناك حديثا عن فيتنام التى حارب فيهلضوءا (موس ) والقاتل المحترف ( كارسون ويلز ) ، ولكن الفيلم يتجاوز ذلك الى أبعاد إنسانية عامة بحواره البديع الذكى والساخر الذى يذكرك : على نحو ما بمسرحيات كتاب العبث الكبار مثل (بيكيت ) حيث يتم التلاعب بالألفاظ والكلمات لإثبات فشلها فى تحقيق التواصل الإنسانى ، وتمتزج الرؤية البصرية للمخرجين ( إيثان وجويل كوين ) لترجمة كل هذه المعانى العميقة ، ولإعطاء صورة مؤلمة عن الشر ومصير الإنسان البائس الذي يرجح أن يكون مصير العجائز الضعفاء بمثابة اسقاط واضح واستعارة معبرة عنه ، ومن أبرز إبداعات هذا الثنائى إضفاء الوحشة بطريقتين مختلفتين على مشاهد الفيلم : فى المشاهد النهارية ذات الأماكن المفتوحة حيث الشمس ساطعة يتم استخدام اللقطات البعيدة لإبراز ضآلة الإنسان وسط النباتات الشوكية والصحراء الواسعة ، وفى المشاهد الليلية سواء فى الأماكن المفتوحة أو المغلقة كالحجرات مثلا يتم التلاعب بالضوء واستخدام اللون الأزرق الذى ينقل إلينا الإحساس بالبرودة والموت ، وهناك تتابعات بأكملها يجب تدريسها تؤكد استيعاب المخرجين لتراث سينما التشويق مثل تتابعات هروب ( موس ) فى الماء أو مشهد انتظاره لغريمه " شوجر" ( لاحظ الدلالة الساخرة للإسم )، وهناك دقة واضحة فى استخدام المونتاج لتحقيق لحظات تحبس الأنفاس مع النجاح أيضا فى منع استغراق المشاهد فى الأحداث بشكل كامل حتى يجد وقتا للتفكير والتأمل ، روبما بسبب ذلك لم نشاهد بعض الجرائم التى ارتكبها (شوجر ) اكتفاء بوصول المعنى ، ولا ننسى الإدارة العبقرية لكل ممثلى الفيلم الذين يمتلكون حضورا وفهما لأدوارهم الصعبة ذات الدلالات .

سينما التشويق والعنف ليس إلا إطار نقول من خلاله أى مضمون بما فى ذلك أعقد القضايا الفلسفية والوجودية ، ولي هناك دليل على ذلك مثل فيلم ( لا وطن للعجائز ) الذى يجمدك فى مكانك من التوتر والقلق ، ولكنك تخرج منه وفى رأسك أسئلة لا نهائية ، لقد سألت نفسى مثلا : ( شوجر ) أصيب بالرصاص ولكنه لايموت ، ونراه يسير فى الشارع بقوة وثقة ، والمأمور سيعتزل نهائيا ً ، فهل يمكن أن يكون المأمور اليائس الضحية القادمة ل ( شوجر ) رمز الشر الخارق ؟!

الخميس، 17 يونيو 2010





السبت، 12 يونيو 2010

نوستالجيا :


أفلام سينمائية فى الحرم الجامعى ...!


فى كتابه الممتع ( حياة فى السينما ) يشير الناقد ( أمير العمرى ) الى أنه نجح فى بداية السبعينات فى تأسيس ناد للسينما فى كلية الطب - جامعة عين شمس افتتح عروضه برائعة ( فيسكونتى ) الشهيرة ( الموت فى فينسيا ) । أدهشتنى جدا هذه المعلومة ، وعلقت عليها أنك لو عرضت هذا الفيلم الآن فى قلب الأوبرا لما مر الموضوع بسلام ، وطبعا أترك لخيالك العنان لوضع سيناريو لردود الأفعال إذا كان العرض فى مدرجات جامعة القاهرة أو عين شمس । جئت الى الجامعة قادما من الصعيد فى نهاية العام 1982، ولم تكن صورة التزمت قوية رغم وجود تيارات دينية فى الكليات وفى المدينة الجامعية ، ولكن كان هناك هامش لممارسة النشاط الفنى ، وأذكر أنه فى الساعة الخامسة يوميا كانت كل أجهزة الراديو تُفتح على محطة أم كلثوم لنستمتع ونسمع أغنيات الزمن الجميل । أذكر أيضا أننا كنا نتردد على مسرح كلية التجارة العامر لمشاهدة مسرحيات مليئة بالموهوبين ، ولا أنسى أننى شاهدت مثلا بروفة جنرال لمسرحية محمد صبحى ولينين الرملى ( إنت حر ) ، وقد أخرجها للمسرح الجامعى ( صلاح عبد الله ) الذى كان يعمل وقتها ممثلا محترفا فى فرقة ( صبحى ).


وفى مناسبة أخرى شاهدت مسرحية بعنوان( المجانين )، وفيها رأيت لأول مرة ثلاثة من الموهوبين الذين أصبحوا نجوما فيما بعد وهم : عمرو عبد الجليل بطل العرض ، ومحمد هنيدى ، ومحمد سعد ، وأشهد أن هنيدى وسعد أشعلوا الصالة من الضحك بصرف النظر ععما فعلوه فى السينما بعد ذلك ، (هنيدى) بالتحديد كان يلعب دور مجنون بالكرة يرتدى شورتا وفانلة ، وكان العرض بأكمله مجموعة اسكتشات لا يربط بينها إلا رجل يقول إنه طبيب يلعب دوره( عمرو عبد الجليل )، ويستمع من كل مجنون الى حكايته ، وأتذكر أيضا أننى شاهدت فى هذه الليلة المخرج( يوسف شاهين )لأول مرة ، فقد حضر للمشاهدة بعد نجاح العرض ، ومن خلاله اختار عمرو عبد الجليل لبطولة فيلم ( اسكندرية كمان وكمان ) ، كما اختار ( محمد هنيدى ) فى أحد أدوار الفيلم الصغيرة ، وعلى مسرح كلية التجارة بجامعة القاهرة شاهدت أيضا ( خالد صالح ) فى أدوار متعددة ورائعة ، وكان ايضا كومديانا خطيرا ، ولا أعرف لماذا لم يكتشف المخرجون إمكانياته الكوميدية بشكل أقوى بكثير مما فعلوه حتى الآن ।


أما فيما يتعلق بالسينما فبالطبع لايمكن أن نتحدث عن ناد للسينما تعرض من خلاله أفلام فيللينى وبازولينى وأنطونيونى وبرجمان وكيروساوا ، ولكنى أتذكر مناسبتين شاهدت فيهما أفلاما سينمائية داخل الحرم الجامعى ، لا أعرف كواليس الحصول على الموافقات ، وربما احتاج الأمر الى مجهود شاق ، ولكن فى النهاية حدث العرضان ، وبحضور آلاف الطلاب والطالبات ، ولفيلمين من أهم وأفضل ما قدمت السينما المصرية عبر تاريخها الطويل ।


ربما كنا وقتها فى العام 1986.كانت كلية الإعلام - حيث أدرس- تحتل الطابق الرابع من مبنى كلية الإقتصاد والعلوم السياسية، قبل بناء مقر مستقل ضخم لكلية الإعلام । ولحسن الحظ ، استفدنا سينمائيا من هذه الضيافة حيث تكونت أسرة فى كلية الإقتصاد كان رائدها الدكتور جودة عبد الخالق - أحد أعضاء حزب التجمع وأستاذ الإقتصاد المرموق ، وكان أحد أنشطة الأسرة تنتظيم عروض سينمائية لأفلام مختارة ، وإقامة ندوات مع نجوم وأبطال هذه الأعمال ، وهكذا أتيح لنا - نحن مجانين السينما فى كلية الإعلام - أن نحتل الصفوف الأولى فى المدرج الكبير فى الدور الأرضى بكلية الإقتصاد لمشاهدة فيلمى ( المومياء ) و( عودة الإبن الضال ) فى نسخ سينمائية (35مللى) ، ثم المشاركة فى ندوتين مع صناع العملين أو بعضا من ممثليهم فى حوار شديد الثراء والإمتاع ।


فى عرض فيلم المومياء ، كان هناك خبران أحدهما سئ والثانى جيد ، الخبر السئ هو النسخة الرديئة التى تم عرضها للفيلم حيث تحولت الألوان الى ما يشبه الصورة( الفلو) التى لا تستطيع أن تتبين معالمها ، كانت النسخة التى تم الحصول عليها من هيئة قصور الثقافة أسوأ دعاية للفيلم العظيم ، وكان ما يؤلمنا أكثر أننا كنا قد شاهدنا توا النسخة الأصلية الرائعة فى برنامج (أوسكار ) على إثر وفاة مبدع الفيلم ( شادى عبد السلام ) ، وكانت هذه النسخة (فرجة ) ممتزجة بانبهار لم يفارقنى حتى اليوم كلما شاهدت الفيلم । ولكن الأمر لم يخل من خبر سار وهو حضور نجمة الفيلم الرائعة ( نادية لطفى ) ومصمم الديكور الكبير ( صلاح مرعى ) ، وقد خرجت من الندوة باستفادة عميقة خاصة عندما تحدث صلاح مرعى شارحا أسباب استخدام الفصحى المبسطة فى الحوار ، كما تحدث عن حركة الممثلين والتعبير بالإيماءات والأعين ، وقال الكثير عن مشاكل الفيلم وأبعاده السياسية ، ودفاعه عن الهوية المصرية فى زمن كانت مازال فيه الحديث عما يسمى الجمهورية العربية المتحدة حتى بعد الإنفصال । جعلنى حديث( صلاح مرعى) أكتشف الكثير فى الفيلم الكبير ، وبينما كان القسم الأكبر من الطلاب يحيطون بالرائعة (نادية لطفى )، كنت مع مجموعة أقل نحيط بتلميذ شادى النجيب ، بل إننى شددت على يده بحرارة وعرفان ، وما زلت أتذكر التواضع والحب الذى أحاطنا به صلاح مرعى بعد الندوة ، والطريف أن أحد أصدقائى الأعزاء أحضر لى صورة من تلك الصور التى كانت توزعها نادية لطفى ، وعليها توقيعها بخط يدها ، ومازلت أحتفظ بالصورة حتى اليوم ، وما زلت أقدر نادية لطفى ووفاءها لشادى عبد السلام وحرصها على حضور هذه الندوة الطلابية فى قلب الحرم الجامعى ।


أما عرض فيلم ( عودة الإبن الضال ) فكان أفضل كثيرا رغم أنه لم يخل من المنغصات ، كان المدرج الكبير مكتظا بالطلاب من كل الكليات تقريبا ، وفى الموعد الحدد كان يوسف شاهين مع الدكتور جودة عبد الخالق يجهزان للعرض ، ولن أنسى أبدا أن شاهين كان يشرف على تركيب البوبينات بنفسه ، وأظن أيضا أنه أحضر معه آلة العرض الخاصة به । كان مشهدا رائعا لعاشق حقيقى يقدم لنا أحد أعماله التى يحبها । وكانت المشكلة أن العرض لم يكن متصلا وإنما" بوبينة ""بوبينة "، وفى كل مرة يقف شاهين بكل بساطة للإشراف على التركيب وإدارة الماكينة التى كانت تصدر صوتا مسموعا ، لاشك أننا انبهرنا بكل شئ : بالفيلم الذى لم أكن شاهدته من قبل حيث عرضه التلفزيون سرا ربما لمرة واحدة ، وكنا مبهورين أيضا من بساطة شاهين وحبه للسينما وللجمهور ، وزاد الإنبهار عندما انتهى العرض ، ووقف شاهين مع بطلة فيلمه ( سهير المرشدى ) التى حضرت متأخرة ، وهما يردان على تصفيقنا الملتهب ।


كان( شاهين )فى حالة نشوة كاملة ، ينحنى فى سعادة فيزيد التصفيق ، ينظر الى بطلته ويقبل يدها امتنانا وعرفانا ثم ينحنى من جديد وكأنه أمام جمهور الكوميدى فرانسيز وليس أمام مجموعة من الطلاب بعضهم أقل من سن العشرين ، لم يرفض شاهين الإجابة عن أى سؤال ، وحتى عندما انتهى وقت الندوة ، تحلقنا حوله وانهالت عليه الأسئلة عن أغنية (الشارع لنا )، وعن قرص الشمس الأصفر الباهت الي يتجه اليه بطلا الفيلم اليافعان بعد المذبحة المروعة ، وعن الفتاة التى لعبتها (سهير المرشدى) وصورتها الجميلة وكأنها رمز للوطن المغتصب । كان شاهين سعيدا بجمهوره الصغير لدرجة أنه طلب أن يذهب اليه فى مكتبه (35شارع شامبليون) كل من لم يستطع أن يسأل ، أو من لم يستطع أن يقتنع بإجابات المخرج الكبير ।


قال لى صديق بعد مشاهدة عودة الإبن الضال فى ذهول :" إيه اللى شفناه ده ياجدع " । بد الأمر كما لو أننا لم نشاهد سينما من قبل ، ومازال الفيلم فى نظرى من أهم وأفضل ماأخرج يوسف شاهين ، ولن أنسى أبدا أننى شاهدت هذه التحفة لأول مرة فى الحرم الجامعى ، وأننى استمتعت بالحوار مع مبدعه عاشق السينما والناس بعد العرض .




الجمعة، 11 يونيو 2010

(هناك أفلام لها مظهر بسيط حكواتى أوغرائبى ولكنها تتحدث فى الحقيقة عن أشياء أكثر عمقا مما يبدو على السطح . فيلم "حالة بنيامين بوتون المثيرة للفضول ) من هذه النوعية ، وأحد نقاط تفوقه فى رأيي فى جمعه بين السرد المشوق الذى يقرب من الحكايات الغرائبية والفكرة الصعبة وهى مبارزة الإنسان للزمن . المقال التالى المنشور فى روز اليوسف اليومية فى 25 من العام 2009 يحاول تفكيك هذا الفيلم وصولا الى مغزاه الأكثر عمقا .)








يا عزيزى .. كلنا هذا الرجل الغريب ( بنيامين بوتون ) !








محمود عبد الشكور








ليس هناك ما هو أكثر إمتاعا من الكتابة عن الأفلام الجيدة حيث يساعدك ذلك على استرجاع خبرة سارة ، ويجعلك تضيف الى متعة المشاهدة متعة الإكتشاف ، وكأن الفيلم الجيد لا يكشف عن أسراره دفعة واحدة ، ولكنه يزيدك حسنا كلما زدته نظرا وتحليلا ، وياسلام لو كنت أمام فيلم متعدد المستويات والزوايا مثل الفيلم الأمريكى المأخوذ عن قصة قصيرة للكاتب الراحل الشهير ( سكوت فيتزجيرالد ) عنوانها - وهو نفس عنوان الفيلم :(the curious case of benjamin button) ، أو ( حياة بنيامين بوتون المثيرة للفضول)، وقد اختصر موزعو الفيلم الحكاية فى كلمتين هما ( حياة رائعة ) ، وهو الإسم التجارى للفيلم عند عرضه فى الصالات المصرية . هناك حكاية غريبة جدا عن طفل ولد ومظهره يجعله يبدو كما لوكان شيخا فى الثمانين ، ولكنه يصغر كلما تقدم به الزمن حتى يموت وهو طفل ! ، وهناك استعراض طويل لأحداث تمتد بين عام 1918 - وهى سنة نهاية الحرب العالمية الأولى - والعام 2005 _ وهو عام إعصار كاترينا الذى ضرب مدينة " نيو أورليانز " مكان أحداث الحكاية ، وهناك حكاية حب ولحظات موت ومشاعر إنسانية رقيقة وصراع لاينتهى ضد الظروف المعاكسة ، ولكن الفيلم - مع ذلك - ليس عن كل هذ الأشياء ، ولكنه عن الزمن وألعابه ، وعن الإنسان المحاصر بالساعات والأقدار ، عن الرضا والتمرد ، عن التمرد والقسمة والنصيب ، ويعنى ذلك أن الفيلم الغرائبى والبسيط والساخر فى كثير من مواقفه هوأيضا فيلم فلسفى من الوزن الثقيل يدعوك الى التأمل وسط الدهشة والمشاعر الصادقة .








كل العناصر تذوب فى هذا الفيلم الذى أعده للسينما سيناريست قدير هو " إريك روث " وأخرجه " ديفيد فينشر " صاحب الأفلام المعروفة التى تجمع بين الإبهار والدعوة للتأمل مثل فيلم ( سبعة ) وفيلم (fight club) ، وكان أفضل وأجمل مافعله الإثنان -وخاصة روث - أنهما استوعبا مغزى القصة القصيرة التى نشرها ( فيتزجيرالد ) عام 1921 ، واستطاعا مد زمن الأحداث وممارسة لعبة الزمن مع متفرج الألفية الثالثة ، فالحكاية ليست مرتبطة بزمان أو بمكان لأنها ببساطة عن الإنسان الذى تسير حياته الى الأمام أو الى الخلف مثل ( بنيامين بوتون ) ، ومع ذلك يظل أسيرا لظروفه . كل شئ يتغير بلا هوادة لأنه كما قال الفيلسوف اليونانى (هرقليطس ) : " إنك لا تنزل النهر الواحد مرتين " . كل شئ ينتهى ولا يدوم مهما كانت الحركة أماما أو خلفا ، ولكن شيئا واحدا يبقى هو الحب والمشاعر الرقيقة التى تجعل الحياة أكثر احتمالا ، ولكن علينا دائما ألا نستسلم ، وأن نحاول مجاهدة الظروف . فى لحظة واحدة فقط علينا أن نستسلم هى لحظة الموت . هذه لحظة لااختيار فيها ، ومقاومتها عبث . لقد انتهى الوقت المخصص للعبة ، وهذه هى حقائق الحياة مهما كانت غريبة أو طبيعية وعادية .








لو سألتنى عن مغزى حالة وحكاية " بنيامين بوتون " لما وجدت أفضل مما كتبه الراحل العظيم "د. طه حسين " عن مسرحية الأديب الكبير الراحل " توفيق الحكيم " ( أهل الكهف ) عندما صدرت فى عام 1933 ، فأحدثت زلزالا فنيا وفكريا لم يتوقف حتى اليوم ، لقد لخص الناقد الكبير مضمون المسرحية فى هذه الأسئلة :" ما الزمن ؟ ما البعث ؟ ما الصلة بين الإنسان والزمن ؟ ما الصلة بين الحى والأحياء ؟ بأى الملكتين يستطيع الناس أن يحيوا وأن ينتجوا فى الحياة ؟ بهذه الملكة التى نسميها القلب أم بهذه الملكة التى نسميها العقل والتى بها نفكر ونحلل ونلائم الأشياء ؟". الحقيقة أن هذه الأسئلة بحذافيرها هى التى يطرحها فيلم حياة رائعة ، بل إنك تستطيع أن تقول إن بنيامين الذى يعيش حياته بالعكس ( من الشيخوخة الى الطفولة ) يكاد يسأل نفس السؤال الذى قاله (ميشلينا )-أحد أبطال أهل الكهف - عندما صرخ فى ذهول :" ربى !! هذه المبارزة الهائلة بيننا وبين الزمن أتراها انتهت بالنصرله ؟!" . والإجابة فى المسرحية وفى الفيلم الأمريكى واحدة :نعم ، لقد انتصر الزمن بلمس الأكتاف . شئ واحد لم يقهره الزمن هو الحب سواء فى علاقة " ميشلينا " مع " بريسكا" ، أو فى علاٌقة بنيامين مع ديزى .








عقارب الساعة








مشكلة الإنسان الحقيقية إذن مع الزمن وحلمه الحقيقى أن يسيطر على عقارب الساعة ، ويعبر هذا الحلم عن نفسه فى أعمال أدبية وفنية كثيرة مثل :(آلة الزمن ) التى كتبها ( هربرت جورج ويلز ) ، بل إنك تستطيع أن تعتبر الفن والأدب عموما - وفن السينما تحديدا - ليس إلا التعبير الإنسانى عن حلم مستحيل هو إعادة تشكيل الزمن ، أو صناعة زمن خاص يعادل الزمن الحقيقى الذى يبدو كتيار النهر المستمر ، وتستطيع أن تقول إن فكرة الخلود فى العالم الآخر ليست إلا الحلم بالخلاص الأخير من الزمن الأرضى ، وهناك تنويعات كثيرة تكشف عن حلم الإنسان أن يكسب مبارزته الأبدية مع الزمن مثل فكرة التناسخ حيث تعيش الروح ولا يتغير ولا يتبدل سوى الجسد । ورغم الحلم بكسر الساعة الهائلة التى تسيطر على بداية ونهاية فيلم ( حياة رائعة ) ، إلا أن الإنسان سيكتشف دائما أن معركته خاسرة । لقد اخترع آلة تحسب الزمن ولكنه أبدا لن يستطيع السيطرة عليه । أما الإكتشاف الأخطر فهو أن الزمن هو الذى يعيشنا ॥ ولسنا نحن الذين نعيشه ، وهو المعنى الذى قاله المبدع الكبير " سيد حجاب " فى مقدمته الغنائية لمسلسل ناجح بعنوان ( اللقاء الثانى ) من بطولة محمود ياسين وبوسى ، أما البشر والكائنات فهى مجرد حروف عابرة " كُتبت لكن بماء॥على حد تعبير " جبران خليل جبران " فى أغنية (فيروز ) ألشهيرة (أعطنى الناى وغنى )। اعذرنى -عزيزى القارئ -هذه المرة ، فإنما أردت أن تذهب لمشاهدة فيلم (حياة رائعة ) أن توسع زاوية الرؤية كثيرا لكى تستمتع وتتأمل أكثر وأعمق ، ولعل أروع ما فعله صناع الفيلم أنهم احتفظوا للحالة ببعدها الخيالى الغريب دون أن نفقد الإحساس طوال الوقت بأن ما نراه يمكن أن يحدث فعلا ، وسبب هذا الإحساس هو نجاح عملية الإعداد السينمائى للقصة القصيرة حيث دعمت الحكاية بالمزيد من الوقائع الحقيقية مثل ضرب الأسطول الأمريكى فى بيرل هاربور، ومثل إعصار كاترينا الذى ضرب أمريكا ، ومثل وقائع الحرب العالمية الثانية ، وعندما ينتهى الفيلم برجوع الشيخ الى طفولته ستشعر بالدهشة ، وربما الذعر ، ليس فقط بسبب ما شاهدناه ، ولكن لاكتشافنا كم نحن ضعفاء أمام الزمن . صحيح أننا لا نتحول فى آخر الأمر -مثل بوتون- الى أطفال من الناحية الجسدية ، ولكننا نصبح كذلك من الناحية المجازية عندما يضعف الجسد ويخفت العقل ونحتاج الى مساعدة الآخرين ، يعنى ببساطة كلنا بنيامين بوتون فى نهايته العجيبة ، وليس المثير للفضول فقط ما فعله الزمن بهذا الرجل المتحول ، ولكن أيضا بما يفعله بنا جميعا لدرجة أنك قد لاتجد فرقا كبيرا بين بوتون وزملائه الشيوخ الحقيقيين الذين عاش معهم فى دار المسنين لا من حيث الأحلام ولا من حيث التصرفات .







لجأ إريك روث الى حيلة السرد من خلال عيون الشاهد الذى عاش ورأى بما يؤدى الى تكثيف الزمن واختزاله كما فعل فى فيلمه الشهير ( فورست جامب ) ، ولكن الحكاية فى ( حياة رائعة ) تروى من وجهتى نظر " ديزى " حبيبة " بنيامين " التى تنتظر الموت فى إحدى مستشفيات " نيو أورليانز " بولاية " لويزيانا عام 2005،ووجهة نظر "بنيامين " نفسه الذى ترك تفصيلات مذكراته لتقرأها ابنته وابنتها كارولين التى ترعى أمها فى المستشفى । لايظل السرد فى الزمن الحاضر ساكنا ، ولكنه مثل الزمن المتدفق - يتحرك طوال الوقت مع اقتراب إعصار ( كاترينا ) المدمر من المستشفى ، وضرورة إخلاء المرضى ، ومنهم ديزى التى لعبتها فى مرحلتى الشيخوخة والشباب القديرة ( كيت بلا نشيت ) ، ولكن ديزى لن تحكى لابنتها مباشرة حكاية والدها وحالته الغريبة ، ولكنه ستحكى قصة رمزية عاصرتها هى مفتاح الفيلم كله ، لقد عرفت صانع ساعات أعمى اسمه (جاتو ) أخذوا ابنه وأرسلوه للحرب العالمية الأولى فمات ، ولذلك صمم على أن يصنع ساعة عملاقة توضع فى محطة القطار ، ولكنه جعل عقارب الساعة تدور للخلف تعبيرا عن حلمه بأن الحرب لم تقع ، وابنه لم يمت ، وعندما جاء الرئيس الأمريكى ( تيدى روزفلت ) لافتتاح المحطة ، أذهلته الساعة وكلمات الأب المكلوم ، فأحنى رأسه لأنه لم يجد تعليقا .







ولأن صناع الفيلم يعرفون أن فيلمهم يجسد حلم الإنسان بالسيطرة على الزمن فإنهم يحققون ذلك بصريا عندما نشاهد الشريط وقد عاد الى الخلف ، وعاد الإبن الى أسرته ، وهذه القصة الرمزية تجسد مضمون الفيلم بأكمله لأنها تقول إن الإنسان عاجز أمام الزمن وأمام القدر ، وكل ما يستطيعه هو أن يصنع ساعة تعمل بالعكس ، لأنه لا يستطيع أن يصنع زمنا يسير بالعكس ، ولكن خالق الزمن سيبعث معجزة أخرى تؤكد أنه وحده المسيطر على الزمن । سيخلق طفلا تسير حياته بالعكس حيث سيولد شيخا ثم سيصبح شابا ليموت طفلا رضيعا । بوتون مثل ميشيلينا وأصدقائه من أهل الكهف سيتلاعب به الزمن ।مشكلة أهل الكهف أنهم ناموا أكثر من 300عام ثم استيقظوا ليجدوا أنفسهم فى المستقبل ، ومشكلة بوتون أنه سيفقد ماضيه بأكمله عندما يعود الى طفولته فى أيامه الأخيرة । الإثنان ميشلينا وبوتون لن يعيشا إلا بالحب لأنه الشئ الوحيد الذى لا يغيره ولا يقهره الزمن .







العقل والقلب
بمنطق العقل كان يجب ألا يعيش هذا المسخ المشوه الذى ولد لأب شديد الثراء هو توماس بوتون الذي سنعرف فيما بعد أنه صاحب أكبر مصنع للأزرار فى أمريكا । لقد اعتقد عندما شاهد طفله الوليد بملامح شيخ عجوز أنه أنجب مسخا لا يحتمل ، ولذلك بعد وفاة الأم الى مدخل دار نولون للمسنين ، ولكن بمنطق القلب سيعيش بنيامين عندما تجده خادمة السوداء مس كوينى । ستعطف عليه وتكرس نفسها لرعايته كابن لم تنجبه يضاف الى آخرين ترعاهم فى سن الشيخوخة ।القلب وحده سيستوعب هذه اللعبة الزمنية العجيبة تماما كما حدث مع ميشلينا الذى دخل الكهف وهو يحب فتاة اسمها بريسكا هى ابنة الحاكم الرومانى دقلديانوس مضطهد المسحيين ،وعاد اليه ومعه فتاة أخرى على اسم حبيبيته القديمة (هى فى الواقع حفيدتها ) فضلت أن تدفن معه حتى النهاية .







حب المربية السوداء ، وصديقها مستر ويزرز ، وحب عجائز الدار الذين لا يطلبون الكثير ، كل ذلك سيجعل الطفل العجوز يسير على قدمين بمساعدة عكاز ، وسيشارك قس المدينة فى المعجزة رغم أنه لم يعرف أبدا أن هذا العجوز ، ليس إلا طفل صغير ।سيتعلم بنيامين الذى لعبه فى معظم أطوار حياته شيخا وشابا (براد بيت ) - القراءة والكتابة ، وستتغير حياته بظهور ديزى الطفلة التى تزور جدتها فى دار المسنين ، إنها تصغره بست سنوات ، ولكنه يعيش معها حياته كطففل ।يستمع معها للحكايات ، ويأخذها الى الصندل الضخم الذى عمل فيه ليطوف العالم ، ويكتب لها من كل مكان يذهب إليه .







الحب أيضا هو الذى سيساند بنيامين عندما يصادق قائد الصندل السكير (مايك كلارك ) । سيعرف معه النساء للمرة الأولى ، وسيسمع معه حكايات عن حلمه الدائم بأن يكون فنانا ، ولذلك حول جسده الى لوحات بالوشم ، وسيحكى مايك للبحارة قصة أخرى رمزية عن طائر الطنان الذى لا تتوقف أجنحته عن الحركة حتى يموت ।انها حركة تشبه علامة اللانهاية فى الرياضيات ، وكأن الطائر يعبر عن الإنسان الذى لا يهدأ حتى يتوقف الزمن بالنسبة له بالموت ، وعندما يموت مايك بالفعل لمشاركة الصندل فى الحرب العالمية الثانية بعد تدمير الأسطول الأمريكى فى بيرل هاربور ، يكون هذا البحار السكير قد ترك ل بنيامين أحد مفاتيح التعامل مع الحياة عندما يعرف أنه يستطيع ان يقول أى شئ عن القدر وعن مسار الظروف والأحداث ، ولكن عندما يأتى الموت عليه أن يستسلم على الفور دون أى اعتراض .



سيعرف بنييامين - وهو يتخلص تدريجيا من مظاهر الشيخوخة - حب امرأة بريطانية هى مسز إليزابيث زوجة رئيس البعثة التجارية فى مورمانسك فى روسيا ، السيدة أيضا تجاوزت سن الشباب ولكنها تعيش بالحب مشاعر لم تعرفها مع زوجها ، وسيبدو كذلك أنها فى معركة خاصة مع عمرها لأنها فشلت فى عبور المانش وهى شابة ، وسيظل هذا الحلم معها حتى نعرف قرب نهاية الفيلم أنها حققته فى سن الشيخوخة .
لكن الحب الأكبر الذى سيغير حياة بنيامين هو علاقته مع ديزى التى أصبحت الآن أشهر راقصة باليه فى نيويورك ، وكانت أبضا الأمريكية الوحيدة التى رقصت مع البولشوى ، ديزى لديها كذلك مشكلة مع الزمن : مهنتها عمرها قصير وهى لا تجد نفسه إلا فى هذه الحركات الرشيقة التى تبدو بالإضاءة والخلفيات الملونة كما لو كانت سباحة فى الزمن ، ولكنه ستتعرض فى باريس لحادث سيارة قدرى يكسر ساقها ويجبرها على اعتزال الرقص ، ولأن بنيامين يحبها سيقف معها حتى النهاية ، بل إنه سيحلم - وسنرى حلمه بالصورة - أن هذا الحادث لم يقع أبدا ، لن تتقبل هى مأساتها رغم أنها كانت تحدثه عن القسمة والنصيب ، ولكنها ستعوض حلمها بافتتاح مدرسة لتعليم الباليه ، وستعوضه أيضا بالعثور على الحب ، والزواج من بنيامين الذى عرفته شيخا فى طفولته ، ثم تزوجته شابا !



سيستمر اللعب مع الزمن حتى النهاية ، وكل ما يمتلكه الإنسان هو الحلم والعمل والرضا بعد اداء الواجب ، سيكتشف بنيامين وديزى أنهما يستطيعان نسيان الزمن بالحب ، ولكن عندما تحمل يعود الزمن الى إدارة اللعبة من جديد ، ليت هناك مشكلة فى حلة بنيامين الإقتصادية بعد أن اعترف به والده الثرى الراحل ، وبعد أن ورث عنه مصانع الأزرار التى انتعشت بسبب الحروب وسترات الجنود ।المشكلة أن الطفلة القادمة والتى ستحمل اسم كارولين ، ستكتشف أن والدها يصغر فى العمر ليصبح طفلا مثلها ، وستجد ديزى نفسها مضطرة لتربية الطفلة وأبيها بالمعنى الحرفى لا المجازى ، هنا لن يجد بنيامين سوى الهروب من أسرته ليواجه لعبة الزمن فى كل مكان فى العالم ، ولكنه سيعود الى ديزى شابا مراهقا ليجدها قد تزوجت من شخص آخر ، أما الإبنة فقد أصبحت مراهقة مثله ، ومرة أخرى سيهزم الحب الزمن عندما تقضى ديزى ليلة أخيرة مع بنيامين الذى ارتد مراهقا فى علاقة تذكرنا بعلاقته مع الإنجليزية المتزوجة ( إليزابيث ).





يرتد بنيامين الى الطفولة حيث يُعثر عليه فى منزل آيل للسقوط ، ومن خلال مذكراته المكتوبة وبها عنوان ديزى ستذهب إليه وقد أصبحت عجوزا ، لم يعد الطفل يتذكر شيئا ، الزمن يعلن عن نفسه بلا هوادة ، ولا يتوقف عن قهر الإنسان حت يصبح بنيامين طفلا رضيعا تحمله زوجته ديزى !





نعود الى المستشفى حيث ديزى فى لحظاتها الأخيرة تنتظر الإعصار كاترينا مع ابنتها كارولين ، الإعصار من جديد هو المعادل البصرى للزمن الكاسح المكتسح ، والإنسان بلا قوة أمامه ، كاترينا اكتسح المدن الأمريكية ، والبشر طفوا على صفحة الماء كما طفوا على صفحة الزمن ، ديزى تقول إنهم غيروا الساعة التى تسير بالعكس فى محطة القطار ، وصنعوا ساعة تسير بطريقة طبيعية ، ولكن ما قيمة ذلك إذا كانت الساعة ستظهر محطمة وسط مياه إعصار الزمن المكتسح فى نهاية الفيلم । احلم كيف شئت ولكن لاتنس رضا الرجل العجوز الذى تضربه الصواعق فى كل مكان ، ولا تنس أن تستسلم عند الموت لأننا مجرد ( حروف كتبت لكن بماء ).




الخميس، 10 يونيو 2010

نوستالجيا :
من الراديو الى السينما .. ومن السينما الى الراديو ..!
لو كان عندى بقية من القدرة على الخيال فأنا مدين بها للسينما ، وقبل ذلك بكثير أنا مدين بها للإذاعة المصرية . والذين عاشوا طفولتهم فى السبعينات يعرفون تماما فضل الراديو ، ويعرفون أن العلاقة كانت وثيقة جدا بينه ويبن السينما على عكس ما يعتقد البعض !
كان الراديو حاضراً بقوة فى تلك الأيام حتى بعد منافسة التليفزيون . ربما ساعد على هذا الحضور أن البث التليفزيونى لم يكن قد (توحش ) بعد ، وإنما كان يتم من خلال قناتين فقط هما الأولى والثانية ولساعات محدودة يعزف بعدها السلام الجمهورى وبدأ (الوش) بظهور هذه الخطوط المتحركة ، بل أتذكر أنه فى أحد الرمضانات صدر قرار بكثيرةأن يتوقف البث التليفزيونى لمدة ساعتين بعد أذان المغرب لإتاحة الفرصة لجمهور الراديو لمتابعة برامجه ومسلسلاته .
ورغم روعة اشياء كثيرة قدمها الراديو وأستطيع الحديث عنها من أبلة فضيلة العظيمة الى الغلط فين برنامج المسابقات الأشهر الذى كانت جائزة الإجابة عن أى سؤال فيه لا تزيد عن خمسة وسبعين قرشا فقط لاغير ، ومن همسة عتاب الى البرنامج الأسطورى (على الناصية ) للكبيرة آمال فهمى । رغم كل هذه العلامات ، إلا أن الأثر الأكبر للإذاعة علينا كان من خلال الأعمال الدرامية التى أفرزت مجموعة من أبرز كتاب السينما ربما كان أشهرهم :(وحيد حامد ) و( سمير عبد العظيم ) । وأصبح من المألوف من وقت بعيد أن ينجح المسلسل الإذاعى فيتحول الى فيلم ناجح . فيلم ( سمارة ) مثلا كان مسلسلا تخلو الشوارع عند إذاعته ، وكانت بطلته (سميحة أيوب ) ، واسندت بطولة الفيلم الى تحية كاريوكا ، وفيلم هذا هو الحب الذى قام ببطولته يحى شاهين ولبنى عبد العزيزوأخرجه (صلاح أبو سيف ) كان فى الأصل مسلسلا ناجحا فى الإذاعة فى الخمسينات . وفيلم ( شئ من العذاب ) الذى أخرجه أيضا صلاح أبوسيف وقام ببطولته يحى شاهين وسعاد حسنى وحسن يوسف ، فى الأصل مسلسل كتبه ( أحمد رجب ) فى الستينات ، وقام ببطولته (محمد عبد الوهاب ) شخصيا ، والممثلة الناشئة وقتها (نيللى ).
طبعا لم استمع الى هذه المسلسلات الأقدم وقت إذاعتها ، ولكنى استمعت اليها بعد إعادتها فى راديو السبعينات العظيم . ولكن أقدم ما فى ذاكرتى عن علاقتى بالدراما الإذاعية يرتبط بمسلسل الخامسة والربع فى البرنامج العام الذى كان يوقف الحياة تقريبا فى مدينتى الصعيدية الصغيرة . لم أكن أعرف شيئا عن هذا المسلسل لأننى كنت مشغولا باكتشاف هذا الصندوق السحرى الذى أحضره أبى لنشاهد مباريات الكرة بعد انبهارى بهذه اللعبة إثر مشاهدتى -عند الجيران - مباراة الأهلى وسانتوس البرازيلى الشهيرة . ولكن حدثا رائعا غير الأمور على نحو غير متوقع . كنت -ربما - فى الصف الثالث الإبتدائى عندما دخل الأستاذ (عدلى ) الفصل ، وأخذ يتبادل معنا حديثا وديا قاده أن يتساءل عن (قفلة ) الأمس من مسلسل الخامسة والربع . أدهشنى أن كل الفصل تقريبا يتابع المسلسل ، وهكذا دفعنى الفضول الى اكتشاف الدراما الإذاعية . كان المسلسل المذاع وقتها بعنوان (الفتى الذى عاد ) للمؤلف الشاب (وحيد حامد ) . وكانت تلك المرة الأولى التى أسمع فيها اسمه الموسيقى الجميل لا تتخيلوا مدى تعلق الناس بهذا العمل الذى عرفت فيما بعد طبعا أنه مأخوذ عن مسرحية ( مهاجر برسبان ) التى كتبها ( جورج شحادة ) ، وقد حول ( وحيد حامد ) المسلسل فيما بعد الى فيلم سينمائى أقل شهرة هو ( بنات إبليس ) مثلما فعل مع مسلسلاته المدهشة التى تحولت الى أفلام أو مسلسلات تلفزيونية . الدنيا على جناح يمامة كان مسلسلا ناجحا فى الشرق الأوسط من بطولة محمود عبد العزيز نجلاء فتحى كنا لا نستطيع أن نفوت منه حلقة ، ثم تحول الى فيلم بطولة محمود عبد العزيز وميرفت أمين ، وفيلم كل هذا الحب كان أيضا مسلسلا إذاعيا لوحيد حامد أخرجه الراحل حسين كمال ، ثم أخرجه من جديد للسينما فى فيلم بطولة نور الشريف و ليلى علوى ، وأتذكر أن فيلم الغول الشهير كان أصلا مسلسلا ناجحا لوحيد حامد بعنوان ( قانون ساكسونيا ) من بطولة نور الشريف ونيللى ، وعندما تحول الى فيلم أسندت بطولته الى عادل امام ونيللى ،بل اننى استمعت فى سنوات الطفولة الى مسلسل لوحيد حامد أيضا بعنوان بلد المحبوب هو أصل الحلقات التليفزيونية الشهيرة (أحلام الفتى الطائر ) ، وكان أبى مندهشا وأنا أقول له إن دور ( ابراهيم الطاير ) لوفيعبه ( توفيق الدقن ) . كانت تجارب عجيبة لطفل صغير ينطلق خياله أثناء الإستماع الى العمل فى الراديو ثم يقيد من جديد عندما يراه على الشاشة الكبيرة أو الصغيرة . أظن أيضا أن ولعى الشديد بالمقارنات بين الأعمال الدرامية أو ألأدبية وضعت بذورها خلال تلك السنوات المبكرة .
أصبحت مجنونا بالدراما الإذاعية خاصة فى شهر رمضان فى محطة الشرق الأوسط . كان مسلسلها عادة من تأليف الراحل سمير عبد العظيم ومن أخراجه أيضا . كان موهوبا وحساسا لحياةوتغيرات الطبقة الفقيرة والمتوسطة ، وأظن أنه كان يستطيع أن يقدم أعمالا أقوى ألف مرة مما قدمه بالفعل لولا أنه دخل فى عجلة السينما التجارية والمسرح الصيفى السياحى . كانت مسلسلات سمير عبد العظيم بدون فواصل موسيقية مثل مسلسلات الرائد الراحل محمد علون ، وكنت أراها كفيلم مسموع من براعة أداء ممثليها وقدرتهم على التعبير وخلق الجومدعومين بمؤثرات صوتية مدهشة . ومن هذه المسلسلات التى كانت توقف البلد حلقات أفواه وأرانب التى تحولت الى فيلم شهير قامت بطولته فى المرتين فاتن حمامة ، وأتبعته بحلقات لم تتحول الى السينما هى الجزء التانى من أفواه وأرانب بعنوان كفر نعمت ، وكانت بالطبع أقل نجاحا . وتحولت الكثير من مسلسلات سمير عبد العظيم الى أفلام مثل على باب الوزير ، عمل هام يرصد التحولات التى أصابت المجتمع وشبابه فى زمن الإنفتاح ،و فيلم لست شيطانا ولاملاكا المأخوذ عن حلقات رمضانية بنفس الإسم ،وأظن أنه المسلسل الذى غنت الرائعة ليلى مراد مقدمته ونهايته من تلحين بليغ حمدى ، وكانت الأغنية التى مازلت أذكرها بعنوان ( ويا عينى ع الدنيا ) ، وهناك أيضا فيلم (الشك ياحبيى ) عن حلقات بنفس الإسم قامت ببطولتها شادية فى الإذاعة ثم فى السينما ، ولعل فيلم الصبر فى الملاحات من الأعمال الأخيرة التى نقلها سمير عبد العظيم الى السينما بعد نجاحها فى الإذاعة .
لا استطيع ايضا أن أنسى مسلسلات الثنائى الشهير (فؤاد المهندس ) وشويكار . بعضها استمعت اليها فى وقت إذاعتهامثل مسلسل رمضانى أذيعت منه عدة حلقات بعنوان ( سها هانم رقصت على السلالم ) ، ثم أصدر وزير الإعلام وقتها ( عبد المنعم الصاوى ) قرارا بوقف الإذاعة لأن المسلسل اتهم بالإسفاف ، وكانت تلك المرة الأولى التى أسمع فيها هذه الكلمة ! وأعتقد أن شويكار والمهندس لم يقدما بعد هذا المنع أى مسلسل إذاعى مشترك . ولكن مسلسلاتهما الأشهر والأقدم ، والتى تحولت الى أفلام استمعت إليها بعد أعادة إذاعة بعض حلقاتها فى مناسبات مختلفة . من هذه الأعمال مثلا إنت اللى قتلت بابايا, وشنبو فى المصيدة والعتبة جزاز ، ويبدو أن هذه المسلسلات كانت تستهدف الترفيه عن الشعب البائس بعد كارثة يونيو.
ولكن الراديو لم يقم فقط بتغذية الخيال عن طريق مسلسلاته الدرامية المدهشة ولكن أيضا من خلال نقل السينما الى الإذاعة . كان هناك برنامج إذاعى شهير اسمه ( من الشاشة الى الميكروفون ) تعده وتقدمه ثريا عبد المجيد يهتم بتقديم مسامع من الآفلام الجديدة خاصة الكوميدية . التجربة غريبة فعلا ولكنها مثيرة للخيال لأننى عن طريق هذا البرنامج استمعت الى أفلام شاهدتها فيما بعد كملة ، أى أننى رايتها بعين الخيال قبل أن أراها بالفعل .. ويالها من تجربة .. ويالها من أيام .
فى رأيي أن الأجيال الجديدة لا تنقصها الثقافة المرئية لأنهم ولدوا فى عصر الصورة ، ولكن ينقصهم الخيال وهو أمر لا يمكن أن تغذيه إلا بأن تغمض عينيك لتسمع وتتأمل .تحتاج تلك الأجيال أن تريح عيونها لتطلق خيالها . تحتاج أن تعى ما قاله جورج جرداق فى قصيدة هذه ليلتى :
فادن منى وخذ إليك حنانى
ثم أغمض عينيك حتى ترانى
وليس هناك وسيلة مثل الراديو تجعلك تغمض عينيك حتى ترى مثل الراديو ..وأيام الراديو !

السبت، 5 يونيو 2010





الجمعة، 4 يونيو 2010

(اخترت من ذاكرة الأرشيف هذا الحوار النادر الذى يسمع الكثيرون عنه دون أن يقرأوه . الحوار بين المفكر الكبير (عباس محمود العقاد ) ونجمة السينما المصرية وإحدى أيقوناتها على مر العصور (هند رستم ) ، وقد نشر على صفحات مجلة (آخر ساعة ) القاهرية فى 18 ديسمبر من العام 1963 ، وأجراه الصحفى (كمال سعد ). فى لقائها الأخير مع الإعلامى ( محمود سعد ) فى برنامج ( مصر النهاردة ) أشارت (هند رستم ) الى لقائها مع (العقاد ) الذى ولد فى 28 يونيو 1889 وتوفى فى 12 مارس 1964 ،وقالت إنه رشحها للقيام بدور (سارة ) معشوقته التى خلدها فى روايته الوحيدة ، وتواتر الكلام عن هذا اللقاء ممتزجا بمعلومات غير صحيحة لدرجة أن صحيفة محترمة نشرت أنه تم فى العام 1966 ، أى بعد وفاة العقاد بعامين .


لو كان اللقاء بين ( العقاد ) و (هند رستم ) على طريقة (..وأين ترعرعت سيدتى ؟) ما نشرت منه حرفا واحدأ ولكن عندما قرأته رأيته جديرا بالنشر والإهتمام رغم مروركل هذه السنوات. أولاً هو لقاء بين نقيضين : العقاد الذى اشتهر عنه العداء للمرأة وفضح عيوبها والسخرية من أنصار مساواتها بالرجل ،وانتقاد اسرافها فى زينتها وإظهار أنوثتها على حساب اهتمامها بعقلها وقوة شخصيتها ، وهند رستم التى اشتهرت بأدوار الإغراء فى خمسينات وستينات القرن العشرين ، أى أنها تخصصت تقريبا فى تجسيد النموذج الذى تخصص العقاد فى الهجوم عليه . وفى العام الذى تم فيه اللقاء ، عرض ل (هند رستم ) فيلمان هما :( شفيقة القبطية ) و(امرأة على الهامش ) من إخراج (حسن الإمام ) لا يخرجان عن عالم المرأة التى تلجأ الى سلاح الفتنة عند اللزوم .


ولكن لقاء النقيضين -ثانيا - سيتحول الى لقاء شديد الود حيث يعترف العقاد بأنه يتابع نشاط وأفلام( هند)، ويناقشها بالتفصيل قى فيلمها الأخير ( شفيقة القبطية ) . أما النجمة اللامعة التى تدير رءوس الرجال وتخضعهم على الشاشة فإنها تبدو خائفة وشديدة الرعب فى حضرة العقاد وقبل اللقاء أيضا ، والموقف بأكله دال سواء فيما يتعلق بنظرة أهل الفن لأهل الفكر أو العكس خلال تلك السنوات الماضية .


على أن أهم أسباب نشر الحوار بالكامل هى الآراء التى أعلنها العقاد فى أمور تتعلق بالسينما والفن والمرأة : فقد تحدث عن الحلال والحرام فى التمثيل ، وعن فن الإغراء عند (مارلين مونرو ) ، وقال أشياء هامة عن أداء وتقمص هند رستم لأدوارها على الشاشة ، وعاد الى حديثه المفضل عن الرجل والمرأة والفروق بينهما ، بل وتحدث عن ضعفه العاطفى ، وعن المخرجين المصريين وعن فكرة الموت . يعنى أصبحنا فى النهاية أمام محاضرة للعقاد فى الفن والحياة والعلاقات الإنسانية .


هذا هو الحوار الذى يستحق القراءة والتأمل والتعليق .)


لقاء بين العقل .. والإغراء


تحقيق يكتبه : كمال سعد


التقت ( هند رستم ) مع الكاتب الكبير ( عباس العقاد ) لأربع ساعات كاملة .. جلست تنتاقشه فى آرائه وأفكاره ..وقال عباس العقاد رأيه فى هند رستم .. قال لها أنه وجد فيها سارة جديدة .. ماذا حدث فى هذا اللقاء بين عقل العقاد الكبير وبين هند رستم ممثلة الإغراء ؟.. هل تهيب العقاد؟ وهل تراجع أمامها ؟ أم تحركت عواطفه وقرر أن يعيد تجربة سارة من جديد ؟ إن (آخر ساعة ) تسجل فى هذا التحقيق أول لقاء بين العقل والإغراء .


قالت لى : أنا خايفة .. خايفة الى درجة إنى ما نمتش طول الليلة اللى فاتت ، وقلت لها : ولماذا كل هذا الخوف ؟.. وقالت لى وهى تفرك أصابعها : ما اعرفش .. ربما لإنى أتصور الفرق الضخم بينى وبين هذا الرجل .. هو يجلس على قمة تجارب البشرية كلها ، ويضع فلسفة الإنسانية داخل برشامة فى رأسه.. وأنا كل تجاربى معدودة..ومن الحياة .. قلت لها : وهل فى هذا ما يخيفك ؟ وقالت لى فى تردد : ما اعرفش برضه .. لإنى قعدت أسأل نفسى طول الليل : ياترى بأى لغة ياهند حتتكلمى مع عملاق الأدب والصحافة ؟ وقلت لها وأنا أضحك : كلميه عن مشاكلك كأنثى .. ولا تتكلفى .. ولا تضعى فى اعتبارك أن تكونى عملاقة لتحدثى عملاقا .. فكثيراً ما حدثنا التاريخ عن عباقرة وعمالقة استسلموا أمام طغيان الجمال والإغراء !..

وقالت لى هند رستم وقد غرقت هى الأخرى فى الضحك:

أنا دلوقتى ما يهمنيش التاريخ .. أنا يهمنى المقابلة دى نفسها.. ياترى هتكون سهلة ؟..فقلت لها وبسرعة : طبعا ما فيهاش أى صعوبة بالمرة !..

وأردت أن أزيد من اطمئنانها .. فقلت لها إن أجمل ما قيل عن ملكات الإغراء فى العالم قاله عباقرة .. فالروائى العظيم ( ألبرتو مورافيا ) قال لممثلة الإغراء الجديدة كلوديا كارديناللى : إنى أرى فيك ظمأ الحياة .. ظمأ نقيا بريئا يكره التعقيد .. فهل أخطأت ؟ وقالت له ضاحكة : ومن أتا لأقول لألبرتو مورافيا أنه أخطأ ..مثلا ؟

وهناك شاعر إيطالى لا أتذكر اسمه دفعته العاطفة الى أن يقتحم حجرة بريجيت باردو ليراها على الطبيعة ، وكتب عنها قصيدة أروع من الخيال ، وهذا بخلاف الكتاب الذى ألفته عنها الكاتبة الفرنسية سيمون دى بوفوار .

وهناك الكاتب الأمريكى آرثر ميللر الذى قال عنزوجته مارلين مونرو : إنها عبقرية ، وقالت عنه مارلين مونرو إنه مجنون !..

وهناك أمثلة كثيرة لا حصر لها عن أنه ليس هناك حاجز بين العقل والإغراء بالمرة .

وقالت لى هند رستم : ولو .. فكل هؤلاء .. أنا أضعهم ومعهم مائة فى كفة .. وأضع العقاد فى كفة أخرى .

قلت لها : إزاى ؟..

قالت : العقاد شئ آخر فى العبقرية ، وغير هذا .. أوليس هو الذى قال عن المرأة إنها تراوغ وتكذب وتميل مع الهوى ، وتنسى فى لحظة واحدة عشرة السنين الطوال ؟..

قلت لها : ومن أين لك هذا ؟

قالت : منذ عرفت هذه المقابلة وأنا أقرأكل شئ كتبه العقاد .

قلت لها : يعنى سنذهب ؟..

قالت وهى تضحك : سأذهب .. وأمرى لله!..

أنت ملكة التعبير

وكانت هند رستم وهى فى طريقها الى بيت العقاد ، ترتدى فستانا أسود صدره مقفل ، ومن النوع المحتشم الذى يلفت وقاره الأنظار ، بينما وضعت على كتفها فروا أبيض ، وتركت وجهها وعليه نفس العلامات .. علامات الخوف الذى وصل الى درجة أنها قالت لى فى الطريق : هل تدرى أن هناك شيئا يزيد خوفى من هذه المقابلة ؟

وقلت لها : بمعنى ؟

قالت : إنها فى يوم13 ، وهو يوم أهرب منه وأتشاءم منه ولا أمثل فيه بالمرة حتى لو أخذت مليون جنيه فى المشهد . وقد وصل تشاؤمى من هذا اليوم الى درجة أننى قررت أن أنتقل من شقتى فى الزمالك لمجرد أنها تحمل رقم 3 ..

قلت لها ، وأنا أكتم الضحكة فى أعماقى : وماذا لو عرفت كذلك أننا ذاهبان للبيت رقم 13 ؟ وكادت تصرخ وهى تقول لى : يامصيبتى .. هو العقاد ساكن فى رقم13 ؟..

قلت لها : ويتحداه ، ولا يعبأ به .. ويعتقد أن التشاؤم م صنع الصدفة ولا دخل للحقية فيه !

المهم كل ما تصورته هند رستم من عداء استاذنا العقاد للمر اة ذاب بمجرد مقابلته لها .. فقد وجدناه فى انتظارنا خارج شقته .. وعلى وجهه ابتسامة لم أرها فى كل المقابلات التى زرته فيها .. وكان يرتدى نفس ملابسه التقليدية التى يميزها شيئان : الطاقية الصوف والكوفية !..

وقال لنا أستاذنا العقاد ، بمجرد دخولنا : هل نذهب الى المكتب أو نجلس فى غرفة الإستقبال ؟..قالت له هند رستم : فى غرفة الإستقبال أحسن ..

وبمجرد جلوسنا قال لها أستاذنا العقاد : تعرفى يا أستاذة هند إنك نجمى المفضّل ؟

قالت له ، وهى لاتكاد تصدق ما تسمعه بأذنيها : ياه! للدرجة دى ؟..

قال لها : وأكثر .. فقد اكتشفت الآن أن الحقيقة أروع من الخيال .. فأنا أهنئك بالموهبة الطبيعية ، والوجه المعبر .. فأنت فى رأيى لست ملكة الإغراء ولكنك ملكة التعبير .. لأن الإغراء عملية حسية .. عملية رخيصة .. لكن التعبير عملية نفسي تخاطب العقل .. والوجه المعبر فى رأييى أهم من الوجه الجميل .

قالت له هند : ولكنى أعترض على الهجوم على الإغراء ، لإنه فن ما نقدرش ننكره ..

قال لها العقاد ، وهو مستمر فى كلامه : عندما رأيتك لأول مرة فى فيلم شفيقة القبطية ذكرتنى بأول مرة رأيت فيها (انجريد برجمان ) .. كان عمرها 22 سنة .. وكانت صريحة وطبيعية مع انفعالاتها .. ولذا فى رأيى أقرب إنسانة الى سارة .. ولذا أنا أرشحك لتمثيل هذا الدور .. إنك سارة نفسها ..بكل ما فيها من ذكاء الأنثى ، وطبيعة الأنثى ، ورغبتها فى أن تستجيب .. والفارق الوحيد بينك وبين سارة هو أن الناحية العصبية عندك طاغية ، وهى على عكسك ..لدرجة أنك لو أقفلت شفتيك بدون كلام لمدة خمس دقائق لارتعشنا على الفور!..

ونظرت الى هند رستم وهى تنصت بكل حواسهل لهذه الكلمات الرقيقة .. ورأيت فى عينيها طبيعة الأنثى التى تطلب مزيدا من هذه الكلمات ، فتدخلت لأقول لأستاذنا العقاد :وهل كانت سارة على قدر كبير من الأنوثة ؟..

قال لى : إنها أنثى مائة فى المائة .. وهى مليئة بالإحساس العاطفى والجسدى .. وسارة فى تجربتها معى كانت تأخذ صف الرجل فى كل المواقف ، فكنت إذا حدثتها عن خناقة بين زوجين كان شعورها يذهب على الفور مع الرجل .

وهنا أسرعت هند رستم لتقول : عندها حق ، وأنا دائما أؤيد الرجل ، وأحس أنه كل شئ فى حياة المرأة ، وبدونه تكون الحياة بالنسبة للست عبارة عن صحراء ..لإنه هواللى بيحميها ، وهو اللى بتحمل اسمه ، وهو اللى بتفخر بيه..

وأضاف العقاد : وهو اللى تضيف وجودها لوجوده !..

وهنا تساءلت هند : لكن من كلامى مع الأستاذ العقاد .. واضح إنه بيحب المرأة قوى !..

وانفجر العقاد فى ضحكة من أعماقه وهو يقول : قوى جدا .. ثم عاد بظهره الى الوراء على الكنبة التى كان يجلس عليها، ووضع ساقا فوق ساق ، وقال لها : ومين قال إنى عدو المرأة ؟.. إنت بتصدقى إنى عدو المرأة ؟..ده كلام فارغ .. أنا باحب المرأة الطبيعية .. وهى امرأة كأم ، أو زوجة ، أوعاشقة ..لكن المرأة اللى نسخة تانية من الرجل .. أعمل بيها إيه ؟ .. أنا الذى أنكره أن تكون المرأة نسخة مكررة من الرجل .. يعنى بانكر أن تقول مساواة فى كل شئ ، وتقول إنى راجل فى صورة أخرى .. أعمل بيها إيه ؟..وحياتى مع المرأة هكذا ..فى كل دور من أدوارها !..

- يعنى حضرتك بتؤمن بحب المرأة ؟

- أومن بالحب والإرادة .. وأنا فى الواقع ضعيف أمام العاطفة !

- الى أى درجة ؟

- الى درجة أنى كنت لا أستطيع أن أنام أو أصحو إلا على صورتها التى علقتها أمام سريرى .

وقام العقاد من مكانه ،ونادنا الى مكان الصورة ، وهو يقول : وعندما أردت أن أنساها لجأت الى الفن ..فأحضرت تورتة عليها صرصار والى جوارها كوب من العسل يتساقط فيه الذباب .. وضعت هذه اللوحة المنفرة بدلا من صورتها .. وها هى ، وفى نفس المكان .. حتى تجعلنى أنفر من ذكراها !..

واستغربت هند رستم من أغرب طريقة للنسيان .. وقالت لعقاد :لكن ..إنت قلت الإرادة ..وبالطرقة دى إنت بتهرب من الحب !

قال لها ، بعد أن عدنا الى نفس المكان الذى بدأ فيه الحديث :أنا عايز الإرادة .. وإرادة واحدة للعاطفة ما تكفيش !..

- يعنى الحب والعاطفة فى رأيك أقوى من الإرادة ؟..

- شوفى .. أمام العواطف أنا ألجأ دائما لحاجتين : للفن ، وللعقيدة الدينية .. لإن الإرادة فى مثل هذه المواقف لا تكفى !..

عايزة أزور بيت الله!

واستأذنت هند رستم الأستاذ العقاد فى إشعال سيجارة .. ثم قالت له:فيه حاجة مهمة جدا يافندم عايزة أسألك فيها ؟ قال لها : أنا مستعد ،

قالت له : فيه حاجة شاغلة بالى الأيام دى .. أنا عايزة أزور بيت الله ..فهل حرام ن الفنان يزور بيت الله ، ويرجع يشتغل فى السينما ؟..

وأسرع يقول لها : أبدا ..لاحرام ولا حاجة !..

قالت له :أنا لغاية دلوقتى ما سألتش حد من علماء الدين ..

- لا ..لا.. الفن ، فن التمثيل ، غير محرّ مطلقا .. لكن الحرام هو الخلاعة !..
- حتى لوكان فيها درس للناس ؟
- يعنى قصدك تقولى كتشريح الجثة مثلا .. فدينيا لا يجوز عرض الجثة .. ولكن من ناحية الفائدة العلمية يصح ..على كل حال زورى بيت الله .. ولا تستمعى لكلام أى واحد يشكك فى هذه المسألة !..
وهنا عادت هند رستم لتقول : فيه حاجة تانية برضه عايزة أسألها .. كل إنسان مؤمن بالله .. وانا مؤمنة بالله .. لكن الحاجة الوحيدة اللى باخاف منها هى الموت !..
قال لها فى هدوء : شوفى أنا شخصيا لا أخاف الموت .. ولو شرّف فى أى وقت أقول له إتفضل . ويمكن الشئ الوحيد اللى باخاف منه هو المرض !..
- يمكن لإنك ما اتجوزتش قبل كدة وما عندكش أولاد !..
- مين قال لك إن ده السبب ؟
- إنت قلت مرة إنك خايف من الجواز لإنك خايف تترك أولاد يتامى من بعدك ..وانا عندى بنت وخايفة عليها !
- مش ده السبب .. دى علة .. حتعللى بيها دايما رغبتك فى الحياة .. وانا أذكرإن جدتى عاشت الى أن تجاوزت المائة .. وكانت متعلقة فى هذه السن بالحياة .. وكانت دايما تعلل معيشتها بحغيدتها الجميلة بدور ..
- أيوة لكن ياترى الخوف من الموت بينشأ من إيه ؟
- من فرط الحساسية ، ولو بحثت فى نفسك حتلا قى حاجات تانية بتخافى منها زى خوفك من الموت بالضبط !
- فعلا أنا باخاف من العفاريت .. ياترى إنت بتصدق حكايات الناس عنهم ؟
- أنا معلوماتى إن فيه ارواح .. وفيه جان .. لكن مسألة العفريت اللى بيطلع للناس - دى ولو إنى أتحدى العفاريت كلها -لا أستطيع أن أن انفيها أو أؤيدها ، وانا لما كنت طفل وأسمع الناس بتتكلم عن مكان بتسكنه العفاريت .. كنت اروح مخصوص وأبات فى المكان ده .. عشان أثبت لهم إن كلامهم تخريف فى تخريف .
- ياه.. لوحدك ؟.. وما كنتش بتخاف ؟
- كنت أخاف فعلا .. وكنت أفكر: هاعمل إيه لوطلع لى العفريت ؟
- بس ده مش خوف ..ده تحدى !
- شوفى .. أنا عمرى ما خفت من حاجة إلا للفقر لو عرضنى للذل .. ولكن الحمد لله إن ربنا بيترها دايما ..لدرجة أنى لا أقترض أبدا !..
- طيب وغير حكاية العفريت .. بتؤمن بقراءة الكف ؟
- أومن بحاجة واحدة فيه .. أومن بإن كفى ليس له شبه ..هذه حقيقة علمية .. إن مافيش كف إنسان يشبه لكف إنسان آخر .. إذن فأنا أومن بأن هناك إرتباطا بين الكف وشخصية الإنسان .
وكان أستاذنا قد بسط كفه ليثبت هذا الكلام .. فبسطت هند كفها هى الأخرى .. وبدأ يشرح لها ، وهوممسك بيدها صدق هذه النظرية . قالت له هند فى غمار الحديث : لكن يا فندم ده انت إيدك ساقعة قوى . وضحك وهو يقول لها : من الإنفلونزا !
مارلين هى الإغراء!
وقطع هذا الحديث وصول أكواب الليمون ، التى تناول العقاد إحداها من السفرجى وقدمها الى هند وهو يقول : فيه نصيحة منى لك يا أستاذة هند .. أنا عايزك ما تستغرقيش فى أدوارك .. فالفن فى إنك تعرضى ولا تتقمصى .. وأنا باحس إنك بتتقمصى الأدوار اللى بتقومى بيها .. وده فيه خطر كبير عليكى .
وتحمست هند رستم لهذه الحقيقة وقالت فى انفعال : ما اقدرش أمثل إلا بالطريقة دى ..لدرجة إنى بعد ما قمت بدور شفيقة فى نهاية حياتها .. حسيت بعد تمثيلى للدور بشلل كاذب فى أكتافى ..كنت لاأستطيع تحريكها .
قال لها العقاد ، وهو يهز رأسه : فعلا ..لدرجة إنك لما وقعتى .. وقعتى بعط .. وقعتى جد لدرجة إنى حسيت إنك بتعيشى على أعصابك أكثر من اللازم فى أدوارك . وسكت العقاد قليلا ثم عاد الى الكلام قائلا : لكن فيه حاجة بالنسبة لشفيقة أشك فيها .. أنا أشك إن شفيقة كانت بتتعاطى كوكايين ؟
قالت له هند ،وكأنها تتذكر :أظن اللى عودها على المسألة دى كان راجل طليانى ..
قال لها : يجوز .. وربما السبب فى إدمانها هو الفجيعة العائلية الأبوية التى أصابتها .
واندفعت هند لتقول : بس شفيقة خلّفت صحيح ؟
قال لها : ولد من أحد الأعيان .. وليس من زجها الذى تركته !
وهنا قالت له : وشفيقة القبطية كانت مغرية ؟
- شفيقة كانت تحوط تصرفاتها دائما بنوع من الأنفة والكبرياء .. ولم أسمع أنها كانت فى تصرفاتها مع الناس مبتذلة !
- يعنى ما كانتش مغرية ؟
- لا، ليس قصدى .. وعلى كل حال أنا غير متعمق فى حياتها !
- طيب مارلين مونرو فى رأيك كانت مغرية ولاّ ومعبرة ؟
- مارلين مونرو كانت هى الإغراء ..لأنها أنثى ناقصة تكوين .. وأمها مجنونة .. ولذا فكل الذى كانت تفعله عبارة عن تعويض لشعورها بنقص الأنوثة .. فمارلين عبارة عن امرأة عايزة وسائل تجلب بها الأنظار .. وعايزة تثبت أنوثتها بأى طريقة .. لدرجة أنها فى سبيل أن تكون أنثى رضيت برجل يهودى وغيرت دينها وتزوجته .. وأنا رايت لهاصور كثيرة .. وفى الواقع إنها مبالغة جدا فى حركاتها .. وحاسة إنها ما تقدرش تغرى إلا إذا وصلت لهذا الحد .. ولو كانت واثقة من أنوثتها لكان ربع هذا المجهود فى الإغراء يكفى !
- لكن يا أستاذ عقاد ربما ده مش ذنبها .. لكن فيه مخرجين بفرضوا عليها الحركات دى .. والمخرجين عندنا مثلا .. لو شافوا إن هند ناجحة فى الإغراء ..فلازم الممثلات الى ييجوا بعدها لازم يكون شعرها أصفر زى هند ، ويقلدوها فى كل الحركات .. الممثلة بتبقى فى اللحظة دى مسكينة ، ومظلومة من حكم الناس عليها ..
- على كل .. المخرجين اللى بلدنا نوعين : نوع يعمل بافطرة .. وده كويس .. أما النوع الثانى اللى فاكر إنه بيطلع نظريات ولازم يمشى عليها الممثلين فده نوع فاشل لإنه بيفتعل المواقف !
وهنا تدخلت لأقول لأستاذنا العقاد : وهل من الممكن أن نقول على الرجل أنه مُغر ؟!
وأسرعت هند لتنفى هذه الصفة عن الرجل وقالت :لا.. لا يمكن أبداً أن نقول على الرجل إنه مُغر ..
قال لها العقاد : الرجل يغري بإظهار قوته .. وهذا ما كنا نلاحظه فى الأفلام الأمريكية زمان ، فقد كانت تحضر شابا جميلا فيه مظهر الرجل ليمثل دور معبود الجماهير .. أمثال رودلف فالنتينو . واللى باعرفه إن رودلف ما كانش مغرى لكل النساء ، وكذلك رودلف منجو ..الذى كان مغريا للنساء النواضج فقط.
وأسرعت هند لتقول له : يعنى القوة فى الرجل تغرى والعقل لا يغرى ؟
قال لها : القوة هى الإغراء فى الرجل .. أما العقل فهو الحيلة .. ويجوز أن نرى أحدب يحتال على امرأة جميلة بعقله ، ويجعلها تقع فى غرامه !
المرأة والرجل والحيوانات
وغير هذا تناول الحديث بين العقاد وهند رستم أمورا كثيرة .. خرجت منها بأن العقاد ينظر نظرة معيبة لتعدد الزوجات إذا ما ناقش القضية من ناحية العقل .. أما دينيا فهو يعتبر تعدد الزوجات رخصة لمصلحة المرأة إذا طبق كما يجب .. لأن الزوجة أحيانا تكون عقيما .. وحرام أن يطلقها الزوج .. إذن فلابد أن يتزوج عليها واحدة أخرى .
وقال العقاد إن عائلته كلها ليس فيها رجل واحد جمع بين زوجتين !
وقالت له هند رستم : طيب فيه سؤال حساس شوية ..
قال لها : ما هو ؟
قالت له : لو فرض إن استاذنا العقاد دخل جنينة .. ولق فيها زهور وبعض الحيوانات ..ياترى تشبه المرأة بإيه من الحيوانات .. والراجل برضه هتشبهه بإيه ؟
فابتسم وهو يسألها : والجواب عايزة فيه مجاملة ؟
وضحكت وهى تقول : لا ..عايزة صراحة ..مع الإحتفاظ بحقوق المرأة .
واعتدل العقاد ليقول لها : شوفى بقى .. لو أنا مصور باعمل موديل لن أشبه الرجل بالأسد والمرأة بالغزال .. أو أقول إن الرجل نسر وا رأيىلمرأة بلبل .. لكن التشبيهات دى فى رأيى غير صحيحة !
- إزاى ؟
- الرجل فى رأيى هو الشمبانزى ، والمرأة هى الأرنب !
- ياه ..مش معقول !
- الأسد حيوان وبس ..لكن الشمبانزى حيوان حساس .. الأسد قوى وبس ..لكن التانى وليف وممكن يفهمك .. ولو فيه فى حديقة الحيوان عندنا أورنجتان .. يمكن الرجل الطبيعى فى خيالى هو الأورنجتان !
- وله المرأة أرنب ؟
- لأن الأرنب مثل المرأة فى النعومة والتجسس والتحسس والولع بالسراديب
- لكن كتاب كتير بيشبهوا المرأة بالأفعى ؟
- الرجل ممكن يكون أفعى وأكتر منها .. فالمرأة فى رأي ليست أفعى !
- لكن إنت بتدافع عنها قوى رغم إنك قلت إن المرأة لو حكمت العالم ، فإما أن أعلن العصيان أو أنتحر !
- أبدا ..أنا ما قلتش كدة ..لإنى متأكد إن المرأة إذا حكمت العالم ..فإحنا معشر الرجال اللى حنحكم العالم !
والى هنا انتهى حديث هند رستم مع العقاد .. وخرجت لتقول رأيها فىهذه المقابلة فى جملة واحدة : سأرسل باقة أزهار الى العقاد وعليها نفس الكلمات .. نفس المعانى التى شعرت بها : لن أنسى فى حياتى طعم هذه المقابلة !..
كمال سعد

الخميس، 3 يونيو 2010




نوستالجيا :
وحدى قاعد فى السينما ..!
تشير كلمة (نوستالجيا )الى معنى الحنين الى الماضى ، والمدهش فعلا أننى كنت أمتلك هذا الحنين قبل أن يصبح (ليا ماضى ) . كنت وأنا فى سنوات الدراسة الإبتدائية أسمع أبى أستاذ الفلسفة وعاشق الشعر يردد أبياتا من الذاكرة للشاعر الراحل (صلاح عبد الصبور ) يقول فيها : صباى البعيد
أحن إليه
لأيامه الحلوة الطاهرة
لأمى تخوفنى نقمة الآخرة
وتهتف إن أرمد الصيف أجفانية
باسم النبى
حفظت عن أبى هذه الأبيات البديعة دون أن أفهم معناها ، ولكنه كان يشرحها لى ، ويحكى كثيراً عن قريته وصباه وأحلامه حتى تمنيت أن يكون لى مثل ذاكرته . لن أتكلف فى أن أحكى لكم فى حنين واضح الى (صباى البعيد ) ، ولكن حتى لا يبدو أننى عجوز فى التسعين يكتب وصيته ( لست كذلك بالتأكيد ) سأحكى لكم ذكريات أكثر قرباً أشعر حيالها أيضا بالحنين مثل ذكريات الطفولة والصبا .
هذه الصفحة تخص ذكريات طريفة داخل صالات العرض السينمائى الخاوية تقريبا من الجمهور . أفضل عادة الذهاب لمشاهدة الأفلام فى حفلات صباحية حتى استطيع التركيز ثم الكتابة بعد ذلك . لست ممن يكتبون ابداً أثناء المشاهدة ، وأكتفى بتسجيل نقاط سريعة أقرب الى العناصر فى نوتة صغيرة فى أثنا ءالإستراحة رغم اعتراضى الكامل على هذا الإنقطاع الذى يخل بتدفق الفيلم وإيقاعه وأسلوب تلقيه كما أراد صانعوه .المعنى : أنا أحب الحفلات الهادئة ولكنى بالتأكيد ضد الحفلات الخاوية التى تجعلنى( وحدى - تقريبا فى السينما ) على وزن الفيلم الشهير ( وحدى فى المنزل ) !
اللافت أن تجاربى مع الصالات الخاوية لم تكن فى أفلام رديئة ، إنما تقول إيه حكمة ربنا . سأحدثك أولاً عن الفيلم الوحيد حتى الآن الذى شاهدته بالمعنى الحرفى بمفردى .. يعنى - وحياتك - كنت فى عرض خاص بالمعنى المباشر : أنا والصالة والفيلم وعامل آلة العرض يظهر وىختفى داخل الكابينة البعيدة ، وحتى أكون دقيقا ً فقد كانت هناك قطة بيضاء تتجول بين المقاعد الخاوية بكبرياء مدهش جعلها ترفض أى دعوة منى لتشاطر المشاهدة . الفيلم المعروض اسمه ( سيلينا ) -انتاج سورى عن مسرحية فيروز الشهيرة (هالة والملك )، ومن بطولة (دريد لحام ) و(ميريام فارس ) و(باسل خياط ) وإخراج(حاتم على ). أما المكان فهو إحدى صالات العرض فى المول الشهير فى شارع الهرم ، والزمان : حفلة الثالثة والنصف عصراً. ما ضاعف شعورى بالدهشة أن عامل العرض لم ينزعج من وجود مشاهد (يتيم ) وتعامل مع الموقف على أنه يدير الفيلم لآلاف المتفرجين . وعندما جاء وقت الإستراحة أوقف الفيلم مع أننى لم أغادر المكان .. ولكنها الأصول . أعجبنى جداً هذا السلوك الإنجليزى فى التعامل .. ولو كنت فى إحدى سينمات وسط البلد ( معظمها وليس كلها ) لما قدموا العرض لشخص واحد حتى لو كان ( فيللينى ) شخصياً فى الصالة . كنت سعيداً بالهدوء والتركيز ، ولكنى كنت حزينا بسبب هذا الكساد الذى لا يستحقه الفيلم رغم ملاحظاتى الكثيرة على العمل التى سجلتها فى مقال طويل نشرته جريدة (جريدة روز اليوسف ) اليومية ، ولم يفوتنى فى مقدمة المقال تسجيل هذا الحدث التاريخى فى حياتى : أن أكون وحدى بمفردى فى الصالة حرفيا لأول وآخر مرة حتى ساعة تاريخه!
فى مرات أخرى ، كنت وسط أفراد لايزيد عددهم عن ثلاثة وسط صالة واسعة ( يرمح فيها الخيل ). عندما نزلت تحفة الراحل (رضوان الكاشف ) (عرق البلح) قررت أن ألحق اشوف الفيلم قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة . ذهبت قبل حفلة الواحدة والنصف الى سينما (ريفولى ) . لا أذكر هل كان ذلك قبل تقسيمها الى عدة صالات أم بعد قرار التقسيم . ما أذكره جيدا ّ أن عامل شباك التذاكر نظر الى باشمئناط ممتزج بالدهشة ومعجون بالقرف ، وقال لى رداً على طلبى حجز تذكرة لمشاهدة عرق البلح :" حفلة واحدة اتلغت .. ما حدش عايز يحجز للفيلم ) . بدلاً من أن تفتّ هذه العبارة فى عضدى زادتنى حرصاً وفضولا لمشاهدة الفيلم ، بل خالجنى شعور قوى أن هذ المقاطعة لا تكون إلا لتحفة حقيقية !على أقرب مقهى جلست بعد أن اشتريت جريدة اليوم ، ونجحت بحمد الله وتوفيقه فى قتل الوقت حتى موعد حفلة الثالثة والنصف ، .كم كانت سعادتى عندما وافق عامل الشباك على أن يحجز لى تذكرة دون أى ملاحظات رغم أن قناع القرف كان مازال فى مكانه . فلما دخلت الصالة الواسعة اكتشفت أننا ثلاثة متفرجين بالعدد . ونظرا لأن الساحة فارغة فقد انتشرنا على مقاعد متباعدة لدرجة أنك إذا دخلت المكان ستظن أن الصالة خاوية . الحقيقة أن قرارى بالعودة فى حفلة الثالثة والنصف كان من قراراتى الحكيمة القليلة إذ أن الفيلم والبلح والعرق تم رفعهم تماما من (ريفولى ) فى اليوم التالى مباشرة ، وأظن أنهم فى هذا القرار وضعوا فى الإعتبار حالة عامل العرض ذو الوجه العابس والمكفهر .
كنا ثلاثة أيضا عند مشاهدة فيلم ( صياد اليمام ) فى حفلة الواحدة والنصف فى سينما (كريم واحد ) . عرض الفيلم سراً تقريباً وبدون دعاية ، ونجحت فى معرفة مكان عرضه بمساعدة أجهزة استخباراتية قوية . عندما طلبت بصوت خفيض تذكرة من عاملة الشباك قالت بنفس درجة الإشمئناط السابق وصفها :" استنى شوية لما يحجز اتنين كمان .. وبعدين الفيلم اسمه صياد اليمامة مش صياد اليمام !". كنت لحظتها فى حالة إرهاق تمنعنى من الجدل معها بشأن عدد طيور الفيلم أو حتى نوعها . وقفت على جنب أمام السينما فى (انتظار جودو ) وهو فى حالتنا هذه اثنان من الجمهور العشوائى الذى قد يدخل الفيلم من باب الفضول أو قتل الوقت . كنت محظوظا عندما حدث ذلك ، ولكن ما إن استوينا عى مقاعدنا حتى بدأ على الشاشة عرض فيلم آخر . عدنا من جديد الى الخارج بعد أن فشلنا فى إسماع صوتنا لعامل آلة العرض الذى يبدو أنه أدار أقرب بوبينة أمامه ، ثم ترك الكابينة ليصطاد اليمام . بحمد الله نجحت الجهود فى استئناف العرض المطلوب . عند المغادرة كنت فى حالة أفضل مما دفعنى أن أقول لعاملة الشباك :" على فكرة الفيلم اسمه صياد اليمام مش صياد اليمامة !. نظرت الىّ فى ذهول ولم تعلق .
وفى فيلم (ملك وكتابة ) ايضا كنا ثلاثة فى سينما (كايرو بالاس ) فى حفلة الثالثة والنصف عصراً . طبعاً مارست الطقوس نفسها بانتظار العثور على اثنين من المتفرجين حتى تصبح الحفلة شرعية ! لحسن الحظ كان أحدهما عاشقاً للسينما وجاء للمشاهدة مع سبق الإصرار والترصد مثلى ، وقد أمضينا وقتاً ممتعا فى المشاهدة والمناقشة بعد العرض . الحقيقة أن ( ملك وكتابة ) لم يصمد فى دور العرض ، ولكن المخرجة (هالة خليل) قدمت فى فيلمها ( قص ولزق ) تحية عذبة لزميلتها (كاملة أبو ذكرى ) مخرجة (ملك وكتابة )، ففى أحدالمشاهد يذهب أبطال الفيلم الى سينما ( كايرو بالاس ) ، ويخرجون من السينما التى يعلوها أفيش (ملك وكتابة ) ويحيط بهم حشد من الجمهور الذى كان يشاهد العرض . أرادت (هالة ) أن تقدم صورة افتراضية لما كان يجب أن يحدث مع (ملك وكتابة ) . مجرد حلم لم يتحقق فى فيلم يحدث بأكمله عن الأحلام المجهضة .
لا أحب أبدا أن اشاهد الأفلام فى قاعات خاوية . بارب ما تكتبها عليا تانى. وأن كنت سأظل دوما من جمهور الحفلات الهادئة !