الخميس، 29 يوليو 2010




السبت، 24 يوليو 2010

أزمة السينما المصرية فى مؤتمر مع ثروت عكاشة عام 1965




منذ مولد السينما المصرية ، ومنذ عرفنا الأفلام الروائية الطويلة ونحن نسمع ونتحدث عن مصطلح "الأزمة " ، حتى أصبحت السينما المصرية والأزمة كلمتين متلازمتين كالعسل الأسود والطحينة البيضاء ، أو كالجبنة والحلاوة ، وكأن استدعاء أحدهما يستدعى بالضرورة الطرف الآخر !




كنت أقوم بترتيب بعض الكتب ، فعثرت على كتاب ضخم أصدرته وزارة الثقافة المصرية فى عام 1967عن دار الكاتب العرب . يحمل الكتاب الذى تفترب صفحاته من 400صفحة عنوان هو ( 4مؤتمرات) ، ويتضمن النصوص الكاملة لحوارات وزير الثقافة مع المبدعين فى أربعة مجالات هى : السينما والمسرح والكتاب والفن التشكيلى من خلال مؤتمرات متتالية أراد من خلالها "عكاشة" التعرف على المشكلات لوضع سياسات واتخاذ قرارات لحلها . المؤتمر الأول مع السينمائيين كان لمدة يومين فى أكتوبر من العام1966، وحضره مبدعين ومنتجين ومسئولين استمع إاليهم وزير الثقافة السابق وناقش أفكارهم .. وهناك 115 صفحة ممتعة من الكتاب مخصصة لمحضر حوارات عكاشة مع السينمائيين كنت أتمنى أن أنقلها كاملة على هذه المدونة لدلالتها على العصر وعلى آراء أصحابها وعلى تطور فكرة أزمة السينما مع ظهور القطاع العام السينمائى .. ولكن مالا يدرك كله لا يترك كله .. وسأختار هنا بعض الآراء لشخصيات مختلفة أثارت ضجة فى وقتها لأنها قيلت بعفوية وتلقائية وصراحة .. المهم أن " ثروت عكاشة " قال حرفيا بعد نهاية المؤتمر : " الظاهرة الغريبة التى لاحظتها اليوم وأمس أن هناك سوء إدارة فعلا ، والفرص غير متافئة فعلاً ، ويجب أن نولى هذا الموضوع أهمية و ننصف كل الناس بمعدل . لا أقول هذا الكلام كشعار ، ولكن أستعجب لماذا لا يكون تنظيما فيه شئ من العدالة بحيث نرضى أكبر قدر منا سواء عمال أو فنيين ..ليس من الضرورى أن تستحوذ طائفة معينة على كل شئ ويجوع الباقين . إن هذا غير معقول فى مجتمعنا الذى يبنى على عدم استغلال الإنسان للإنسان . " وقال أيضا : " لن أعمل المعجزات ولكن سأعمل ما فى وسعى لتحقيق الأهداف السليمة الصحيحة النقية التى تكلمنا عنها أمس واليوم ." والآن أعرض بعض الآراء التى طرحت منسوبة الى أصحابها بدون تغيير بالحذف أو الإضافة :




الأستاذ فطين عبد الوهاب :




هو لما سيادتكم قلتوا عن الأزمة المالية يا فندم الموجود فيها المؤسسة حاليا أعتقد إن سببها الرئيسى إن السينما المصرية من يوم ما بدأت اعتمدت على 60% إيرادات من الخارج ، 40% من الداخل - ال60% من الخارج دول محددين للبلاد التى تتكلم العربية ..السوق ده دلوقتى لخلافات سياسية بينا وبين هذه البلاد أو معظمها مقفول تقريبا ، ولذلك قلّت الإيرادات فى الوقت الذى زادت فيه التكاليف ، فيه رأى بيقول نخفض التكاليف عشان نوازن بين المصاريف والإيراد . هذا الرأى سلبى ونتيجته حتون إننا نعمل أفلام رديئة - أقصد أردأمن الأفلام اللى احنا نصبو إاليها - فيه رأى ثانى بيقول إننا نخرج من هذا السوق لإن حل المشاكل السياسية دى قد يأخذ وقت طويل جدا ، فعشان نخرج للسوق العالمية ، يجب إننا نعمل أفلام على مستوى عالى جدا ، وفى الوقت نفسه النجوم بتوعنا يكونوا معروفين فى الخارج ، وده بييجى فى دور الإنتاج المشترك ، الإنتاج المشترك لو يجيبوا مثلا بطلته مصرية وبطله أمريكى ، فيلم مثلا بطلته إيطالية وبطله رشدى أباظة يتكلم طليانى ييجى ويمشى ، آجى أنا أعمل فيلم لرشدى مثلا ، وأعمل فيلم بخمسين ألف جنيه فقط ، فهل أقدر أسوّق فى الخارج؟ لازم نبحث عن سوق جديد ، وحتى البلاد الصديقة لها ظروف برضه تمنعها إنها تشترى الأفلام بتاعتنا .السبب لهذا إن إحنا فى المرحلة اللى يجب فيها على القطاع العام بالذات إنه يعمل أفلام اشتراكية وأفلام سياسية ، هذه الأفلام نعلم مقدما إنها مش حيشتروها ، يعنى مثلا فيلم ثورة اليمن مرضيوش يشتروه ، ذنب الشركة المنتجة إيه ؟ هية لازم تنتج بالطبع .. أقصد إنها ستخسر 70ألف جنيه فى خبطة واحدة ، وأنا أقترح إن الإتحاد الإشتراكى ينتج هذه الأفلام على مستوى عالى جدا ، وتتلاءم مع قيمة المواضيع اللى إحنا محتاجينها للتوعية ، الفيلم الثانى مكتوب كويس وموضوع كويس حتى لو كان فيلم استعراضى ، فيه أفلام فيها رقص وغناء ، هذه الأفلام تخدم الناحية الإشتراكية ، حيعمل الفيلم الشرقى يضحك يرقص ليرد على الدعاية اللى بيقولها الإستعمار إن احنا عايشين فى كآبة وفى حرمان وغيره وشكرا .



الأستاذ كمال الشناوى :



كلمتين باختصار بالنسبة لدور القطاع الخاص ، قبل أن ينشأ القطاع العام ، القطاع الخاص كان بيعمل حوالى 60فيلم فى السنة ، هل بيستوعب جميع العاملين من فنانين أو عاملين فى التصنيع السينمائى ، ما كانشى فيه يمكن مستويات كبيرة لكن القلة كانت جيدة ولحد ما قطعا أفلام تعرض فى مهرجانات ، تسوق تسويق خارجى ، وكانت بتجيب معاها عملة صعبة فى خزانة الدولة ، دلوقتى عشان نخلى القطاع العام يعمل ، ويعمل أفلام جيدة ، الأفلام طبعا حتكون جيدة ومش بالعدد الكبير اللى يمكن القطاع العام يقوم بيه ، يعنى نقدر نقول نحدد القطاع العام يعمل 20فيلم فى السنة ، طيب المفروض إن احنا فى بلد إشتراكية فيه جميع العاملين بالسينما الدولة توجد لهم العمل ، ففيه إقتراح لتنشيط القطاع الخاص ، القطاع الخاص ممكن يكون تحت إشراف الدولة من ناحية القصة والإخراج والتصدير ، وفى هذه الحالة نكون فى تعاون مع القطاع العام بمساعدة القطاع الخاص ، دى تتأتى بحاجات كتير جدا . النظر فى الإمكانيات اللى هية موجودة فى السينما زى الإسديوهات .. الأجور عالية فيجب نشوف ليه الأجور عالية ، ليه الفيلم الخام غالى ، ليه دور العرض لا تحاول إنها تعمل نسبة خاصة للقطاع العام عشان يقدر يسهم مع الدولة فى اتجاهاتها ، ولكن كمان للقطاع الخاص إمكانياته ، فى الأول كان بياخد الأستديو والبلاتوه ، ويمضى على كمبيالات ، وكان كل واحد يقدر يدفع إلتزاماته كان بياخد ومكناش بنشتكى شكاوى كثيرة لكن كانت العملية ماشية ، فلو فكرنافى مساعدة القطاع الخاص عشان يمشى دوره ، أعتقد إن ده حل عشان ميكونشى فيه بطالة وشكراً .



الأستاذ حسن الإمام :



إننى أحتج على ما ذكره السيد /السيد صلاح تهامى بأنه لا يوجد وعى اشتراكى بين السينمائيين ، لأن بعضهم أو معظمهم قد تمكن من الحصول على أكثر من عشرة آلاف جنيه ، ويؤسفنى كثيرا جدا أن أقرر أمام السيد الوزير الحقيقة المؤلمة بأن هناك بعض السينمائين الكبار لا يجدون عملا منذ أكثر من عام نتيجة لسوء تنظيم الإدارة ، ولم تمد الدولة لهم يدا بمساعدة مما اضطر هؤلاء أن يبيعوا أثاث منازلهم وحاجياتهم فى المجتمع الإشتراكى الذى يعيشون فيه ، فى حين أن السينمائى المصرى أول من نادى بتطهير أرضنا الخضراء من الإقطاع ، وأول من نادى بالجمعيات التعاونية ، وحث على ضرورة وجود التعاون فى فيلم الخرساء ...إلخ ، وأود أن أقول بأننا جميعا جمال عبد الناصر ، وكلنا ثروت عكاشة لأنه فنان ، وإننى أخاطب فنانا ، ولا أود أن ألقبه بالسيد النائب ، وإنما أقول له زميلى وأخى ثروت عكاشة لأننا نعيش فى مجتمع اشتراكى ، والحل الوحيد إننا ننتشر ، ولا داعى للتضخم الموجود فعلا بين المخرجين و السينمائيين ، وإذا كان لدينا 250مخرجا فكيف تشغلهم الدولة ؟ إن هذا مستحيل ، ولابد من أن ننتشر فى العالم العربى والأجنبى ، فمن بيننا من لديه ثقافة أجنبية كبيرة ، ومنا من درس أصول السينما ، يجب أن يكون هناك وعى بالميزانية والإنتاج والصناعة .. ولا شك أن الإستاف الموجود فى الورش والمعامل و الموظفين يشكلون عبئا على ميزانية الفيلم نفسه فى الوقت الذى لا توجد فيه وسائل مريحة للنوم والجلوس والمشرب بالإستديوهات ، فالوعى السينمائى للإنتاج الجديد غير موجود ، وكما قلت إن القديم كالجارية يقل ثمنها كلما كبرت .. وفى رأيى أن يعاد النظر بالنسبة لتقييم أجور الفنانين و المخرجين والممثلين .. إلخ ، وأتمنى أن يظل باب سيادتكم مفتوحا .



الأستاذ حسن يوسف :



.. أقترح إنشاء بنك للسينما ، وربما أتكلم أكبر من تفكيرى أو عقلى ولكن هذا هو رأيى . نفرض أنه وضعت ميزانية للسينما مليون جنيه ، نأخذ بع مليون تتحكم فيها الدولة لتعمل عيلمين أو ثلاثة على مستوى فيلم ثورة اليمن وغيره من الأفلام التى تخدم الأهداف السياسية مثل قضية فلسطين أو قضية اليمن ، والتى يهمها أن تروجها لخدمة القضايا الوطنية ، يتبقى لدينا ثلاثة أرباع المليون ، أرى إلغاء شركات القطاع العام فى الإنتاج ، والرجوع للمنتجين الذىن يعملون فى مكاتبهم ، وتشكل لجنة لبنك السينما من أشخاص نثق فيهم تقر الموضوعات والسيناريوهات ، ونعطى للمنتجين سلفيات ، ويوضع لهم حد أدنى وحد أقصى ، أى أن لجنة بنك السينما هى التى تحدد ميزانية كل فيلم ، وبعد أن ينتج الفيلم ويكسب منه المنتج ، يعطى للبنك السلفية ونسبة معينة من الأرباح ، ثم يعطى البنك هذا المبلغ لمنتج آخر حتى يرجعها ، وهكذا نجد ال20ألفا مثلا تعمل فى السنة ثلاث مرات .. ويكسب البنك فى كل مرة 15% من كل منتج . ربما يكون هذا الحل تافها ولكن هو رأيى وأشكركم .


الأستاذ رشدى أباظة :


بالنسبة للإنتاج دخلت فى مجال الإنتاج وعملت ثلاثة أو أربعة أفلام ، لم أدخل كتاجر لأننى أساسا ممثل ، وكان عندى إتنين من الموظفين فى المكتب ، كانوا يقومون بالعمل الكافى حتى ينتهى الفيلم ، وفى يوم من الأيام تعلمت من الأستاذ حلمى رفلة شيئا ، قال إن المنتج الناجح ليس من الضرورى أن يكون لديه مكتب ، ويمكن وهو فى القهوة أن يعمل .

وردا على قيل من إن المنتج يشرب القهوة ويخرج ، وما ذكره الأستاذ سماحة ، أود أن أقول إنه أيام القطاع الخاص كان هذا يحدث أيضا ، المهم أن لدينا مديرين إنتاج على الرف ، وأن مساعد إنتاج تجعله مسئولا عن أنتاج الفيلم ، لقد بدأت ب150جنيه ، وكنت أحاول فى كل فيلم أن أزيد ولو عشرة جنيهات حتى وصلت الى ما وصلت إليه ، كان أمامى فريد شوقى وشكرى سرحان ، كنت أجاهد وأحاول أن أكون أحسن منهم ، وإلا لكنت قنعت بشهاداتى ، وعملت فى أىّ شركة ، وكنت قد وصلت الآن الى رئاسة مجلس إدارة أى شركة أحصل على 250جنيه وعربة فيات 2300 .

إن أىّ شخص يدفع للسايس قرشين صاغ ، أما رشدى أباظة فلو دفع أقل من عشرة قروشلبصق عليه السايس ، إنى مضطر لأن يكون عندى عربتين ، عربة عادية وأخرى تبقى فى الخارج 28 يوما كل شهر ولا أركبها إلا ليرانى الناس بين وقت وآخر فيها . هذه كلها تشكل تكاليف . إنى مضطر لأعمل 60بدلة كل موسم لأن أغلب هذه البدل أمثل بكل منها فيلم ثم أتركها .

إن لدينا ظروفا معينة تجعلنا مضطرين لأن نعيش فى فخفخة بالنسبة للسفر الى الخارج الذى تكلم عنه السيد حسن الإمام ، ويدعى البعض أن الحكومة تمنع السفر ، إنى متأكد أن هذا غير سليم ولكن الملاحظ إنه عند سفر أىّ واحد ، نجد إن الصحافة المصرية تشتم فيه ..لماذا ؟ إننى عندما أسافر وأعمل هناك فإنما أمثل بلدى . إنى رشدى المصرى ، إنى سفير غير اعتيادى ، ووأذكر عندما سافرنا الى برلين لحضور المؤتمر كان جيمس ستيوارت معه باسبور على أنه سفير رسمى ، كنت أنا وبدرخان والليثى عندما نذهب الى ( الأفرو) نقسم ثمن التاكسى سويا ، بينما جيمس ستيوارت يجلس فى سيارة مكشوفة فى موكب كبير وراءه عشر عربات وحوله أربعين موتوسيكل . كان لديه إمكانيات .

إننى أتوقع إذا سافرت الى برلين ، وعندى عربة رولزرويس وسواق ومظاهر لأمكننى الرجوع بالجايزة الثالثة .

السينما كما قال توفيق الدقن همبكة ومظاهر وحداقة وليست روتين .. ونحن كمصريين أبو الحاجات دى .

الأربعاء، 21 يوليو 2010




السبت، 17 يوليو 2010

( هناك أفلام تتضمن رسائل سياسية لا تخطئها العين مثل فيلم (10000سنة قبل الميلاد الذى يقدم صياغة أسطورية لتاريخ الشعب اليهودى . هذا المقال المنشور فى جريدة روز اليوسف اليومية بتاريخ26/3/2008 يعبر عن معنى الرسالة وأهدافها)

النبوءة أصبحت حقيقة .. والحقيقة تحولت الى أسطورة !

محمود عبد الشكور

طوال مدة عرض فيلم (10000سنة قبل الميلاد ) للمخرج (رولاند إيمريخ) ، لا تستطيع أن تبعد عن ذهنك قراءة الإسقاطات الحوارية أو البصرية التى تعطى للحكاية بعدا آخر، وتكشف عن معانى أبعد من الإبهار فى الصورة أو فى استخدام المؤثرات الصوتية أو فى خدع الكمبيوتر . هناك إسقاط واضح على بداية تاريخ اليهود ، وقصة الصراع بين "موسى " و" فرعون" .. بين شعب من العبيد وحكام من الجبارين ، ولكن القصة تخضع هنا لتحويرات كثيرة لأن البناء بأكمله يحاول أن يمزج بين الواقع والأسطورة ، ولذلك كانت البداية من النبوءة التى ستتحول الى حقيقة ، ثم تصبح الحقيقة أسطورة لتعيش أطول ، ولُتلهم شعوبا أخرى !

" رولا ند إيميريخ"مخرج أفلام كثيرة معروفة ربما أشهرها فيلم ( يوم الإستقلال ) الذى لايخلو من إسقاطات ومعانى تتجاوز كونه أحد أفلام الخيال العلمى وسلسلة حكايات الغزو القادم من الفضاء . اشترك"إيميريح" مع " هارولد كلوزر " فى كتابة (10000سنق قبل الميلاد)، ومنحا لأنفسهما حرية واسعة فى الخيال وصولا إلى هدف وحيد هو : كيف تحول الشعب الذى يحكى عنه الفيلم (أطلقوا عليه شعب الياجال) ، وكيف تحول زعيمه الشاب ( اسمه فى الفيلم داليه) إلى أسطورة؟ .. ويقوم الراوى ( بصوت عمر الشريف المؤثر) ببداية السرد على طريقة شعراء الملاحم ، ثم يتدخل أحيانا للتعليق ، ويختم الحكاية مؤكدا مولد الأسطورة.

الحدوتة تبدو بسيطة فى ظاهرها حيث نتعرف على هذا الشعب ( الياجال) الذى يعيش وسط الجليد معتمدا على الصيد بقتل حيوان ضخم يطلق عليه الفيلم اسم ( المناك) ، وبيدو من حيث الشكل أقرب الى حيوان الماموث المنقرض الذى يعتبر الجد العملاق للأفيال . ولكن هذه الحيوانات تختفى فجأة ، وتحاول الأم العجوز حكيمة الشعب وعرافته أن تفتش عن السبب . فجأة تظهر فتاة صغيرة زرقاء العينين تتوقع العجوز بالنظر الى وجهها أن تكون زوجة لمن سيقود (الياجال) الى البقاء بعد أن يمروا بأزمة مدمرة . الفتاة اسمها " إيفوليت" ، ويقول الراوى إنها تمثل الوعد بالحياة ، ومنذ البداية يحلم الطفل " داليه" بأن يفوز بالفتاة الصغيرة التى تخبرهم أنها فقدت أهلها بعد مذبحة قامت بها شياطين رباعية السيقان ! .. وهكذا يبدأ الفيلم بشعب فى خطر ، وبنبوءة تتحدث عن ماساة قادمة لابد لها من مخلّص بمساندة فتاة تحمل وعدا بالحياة .

يبدو " داليه" إنسانا عاديا بعيدا عن الكمال خاصة أن والده قد ترك الشعب عندما عرف النبوءة المنذرة ، كما أن " داليه" يدعى أنه نجح فى قتل أحد حيوانات " المناك" العملاقة ليفوز بالرمح الأبيض الذى يتيح له الزواج من " إيفوليت" ، والحقيقة أنه كان يفر هاربا من الحيوان .. ولكن "داليه" لديه شجاعة الإعتراف بذلك ، كما أنه لن يتردد فى الخروج مع بعض زملائه لمطاردة جنود العدو الشرس الذى اختطف بعض ابناء ( الياجال) ومنهم " إيفوليت" ، ويتحدث هؤلاء الجنود لغة مختلفة ، ويبدو إصرارهم على اختطاف أبناء ( الياجال) بدلا من قتلهم أمرا مثرا للدهشة . بعد مغامرات أسطورية يواجه فيها " داليه" وزملاؤه نسورا وحشية ، ويقوم هو بإنقاذ نمر من الموت ، يلتقى بشعب من الزنوج يدعى شعب ( الناكو) . من الواضح أنهم أيضا يعانون من العبودية ، ولأنهم يعتقدون أن مخلصهم لديه القدرة على الحديث مع النمر العملاق الذى أنقذه "داليه" ، فإنهم يتوقفون الى حيث جبل الآلهة ، ويعرف"داليه" أن والده الغائب قد اختفى هناك ، ثم يشاهد عن بعد قوارب تحمل أسرى ( الياجال) واسرى ( الناكو) عبر نهر يخترق صحراء شاسعة !

فى الجزء الأخير تبدو الرومز أكثر وضوحا حيث يتضح أخيرا أن الأسرى يسخرو ن تحت ضرب السياط لبناء ما يشبه الهرم العملاق ، وأن التسخير يشمل أيضا حيوانات " المناك " العملاقة ، ومن خلال مجموعة من الكهنة تنقل تعليمات الحاكم الذى يطلق عليه اسم " الجبار" ، والذى يعيش داخل الهرم مستترا ومعزولا ومدعيا أنه إله ، ومن خلال أحد الأسرى يعرف " داليه" أن هذا الملك الإله لايخيفه سوى شخص نقشت على يده علامة محددة كما أخبره العرافون ، وفيما بعد سنعرف أن الشخص المقصود ليست إلا "إيفوليت" ، ولكن من سيقود المعركة هو "داليه" الذى سيطلب من الجبار أن يأخذ معه شعبه ، ورغم أن الجبار يوافق إلا أنه يشترط الإحتفاظ ببعضهم لكى يقتلهم . هنا يسدد إليه "داليه" رمحه ليقتله ، وليثبت للجميع أن الجبار ليس إلها . يقتحم العبيد المكان ويدمرون قمة الهرم باستخدام الحيوان العملاق ، ورغم أن " إيفوليت" تموت بطعنة غادرة ، إلا أن الأم العجوز على بعد آلاف الأميال تعيد بعثها من جديد ، وتعود " إيفوليت" و "داليه" الى الوطن حاملين بذورا أخذوها من شعب ( الناكو) ، ووسط زروع خضراء نامية يحتضن " داليه" حبيبته لتولد اسطورتهما وأسطورة شعبهما إلى الأبد !

حرصت بقدر الإمكان أن أحكى لكم التفاصيل الأساسية للحكاية التى تقدم إسقاطات واضحة عن نبوءة موسى ، وصراعه مع فرعون حتى انتصاره ، والأمثولة هنا ليست متطابقة مع القصة التوراتية أو القرآنية ولكنها تأخذ منها المعنى العام وتدمجه فى عالم اسطورى قادم من عصور سحيقة ، وتتناثر مشاهد هنا وهناك توصل الفكرة ، كما تتم عملية رسم الشخصيات بطريقة موحية تحاول أن تلفت أنظار المشاهد إلى أن هناك أبعادا أخرى وراء الحكاية . وستكتشف فى النهاية أن شعب الياجال قد تحول من صيادين الى محاربين ، وأن "داليه" قد نجح أخيرا فى أن يجعل لشعبه مستقرا تحت الشمس لا يخضع للتقلبات الموسمية ، وأنه تلقى وعدا قدريا بالحياة ممثلا فى فتاة جميلة لا يمكن أبدا أن تموت . نجح "داليه" أيضا فى إثبات أكذوبة الملك الإله ، كما أطلق سراح شعبه من الأسر ، والأمران هما بالضبط ما حققه موسى فى صراعه مع فرعون ، وإن اختلفت الطرق والأساليب .

هناك إشارات تظهر أن "داليه" ليس شخصا عاديا حيث يساعد النمر متوقعا أن يرد له النمر الجميل ، وهذا ما يحدث حرفيا ، وتكون هذه العلامة طريقه للحصول على اعتراف شعب ( الناكو) ، وهناك نبوءة فى أول الفيلم تجعله مخلّص شعبه ، وسيكون عليه أن يحول النبوءة الى حقيقة .. أما مشاهد الجبار فتكاد تصرّح أننا أمام الفرعون الملك الإله بكل تفاصيله وغطرسته وإصراره على استعباد الآخرين ، ولن تظهر ملامحه إلا فى لحظات مصرعه ، وهو يبلغ تعليماته عن طريق كهنته الذين يعقدون أيديهم على صدورهم على الطريقة الفرعونية الشهيرة رغم اختلاف الزى ، ويختار المخرج أن يقدم مشاهد الهرم من أعلى مظهرا آلاف العبيد والحيوانات العملاقة وهى تتحرك تحت ضربات السياط لاستمال البناء ، كما يقدم من أعلى عملية هدم قمة الهرم الذهبية تعبيرا عن نجاح العبيد فى تحقيق النصر بعد أن أطلق "داليه" شعارا مؤثرا هو "العبيد قادمون" .

ولكن فيلم (10000سنة قبل الميلاد ) لا يتوقف عند عودة الأسرى ، وقتل الملك الإله ، وتحويل الصيادين الى محاربين ، وحصول شعب الياجال على الحياة المستقرة ، ولكنه يغلف الحكاية بأملها بغلاف اسطورى بحيث يبدو الإنتصار خارقا للمألوف ، ومتجاوزا للقدرات البشرية ، وكأنه تنفيذ لإرادة عليا قدرت وقررت وحسمت النهاية قبل أن تبدأ مثلما يحدث فى الأساطير الإغريقية ، وهكذا تتطور النبوءة التى قالتها العجوز فى بداية الفيلم الى حقيقة بسبب شجاعة "داليه" وعيون " إيفوليت " الحارسة ، ثم تتحول الحقيقة الى أسطورة مستمرة وخالدة ، وإذا كان الراوى يقول فى أول الفيلم إن الزمن هو الذى سيفرز الأساطير من الحقائق ، فإن المخرج يرى -على ما يبدو- أن الياجال قد جمعوا بين الأمرين فصاروا حقيقة وأسطورة معا .. والمعنى لا يخفى عن الفطن !

تضافر السيناريو والإبهار البصرى والموسيقى التى تبرز قرع الطبول وأصوات آلة الكورنو المنذرة والموسيقى النحاسية الصاخبة والخدع والمؤثرات البصرية ومونتاج " ألكسندر بيرز" فى إيصال الحكاية وما وراءها ، وربما كان أضعف العناصر أداء الممثلين خاصة البطلين ( ستيفن ستريت ) و (كاميلا بيل ) ، فهذه النوعية من الأفلام لا تحتاج مشخصاتية كبار ، وإنما إلى سيناريو وإمكانيات ضخمة ، وإبهار بالصوت والصورة !

الخميس، 15 يوليو 2010




الجمعة، 9 يوليو 2010

(تحويل الروايات الى أفلام ليس عملا سهلا .. وهذا هو الدليل من فيلم " الحب فى زمن الكوليرا "، والمقال منشور فى روز اليوسف اليومية فى 2/7/2008)



الحب يقهر الموت .. والرواية تهزم الفيلم !



محمود عبد الشكور



لو كنت ممن قرأوا الترجمة العربية لرائعة الروائى الكولومبى الفذ ( جابرييل جارسيا ماركيز ) " الحب فى زمن الكوليرا " ( ترجمها صالح علمانى فى 445صفحة ) .. فستشعر بالإحباط الشديد بعد مشاهدة الفيلم المأخوذ عن الرواية ، والذى يحمل اسمها للمخرج "مارك نوويل "، فرغم أن الفيلم يلخص معظم الأحداث الرئيسية فى الرواية إلا أنه يخلو تماما من سحرها ومن تأثيرها ومن تأملات مؤلفها المبدع عن الحب والحياة والموت والشيخوخة والزمن . إنه بالضبط الفارق بين أن تلخص كتابا وبين أن تصل الى مغزاه ومعناه . الفارق بين أن تكون مهموما بأن يصبح الإبداع الروائى منطلقا لإبداع سينمائى مواز، وبين أن تكون مهموما فقط بالإختصار والحذف ، أما الذين شاهدوا الفيلم ولم يقرأوا الرواية فلا شك أنهم أخذوا فكرة عن ( حدوتة ) الحب فى زمن الكوليرا ، وعرفوا بعض شخصياتها التى لا تنسى ، ولكنهم بالتأكيد لم يعيشوا العالم الذى أبدعه " ماركيز " ، وافتقدوا كثيرا من المشاعر والأحاسيس والمواقف التى سحقتها النظرة السطحية والوقوع فى أسر الحدوتة دون التعمق فى أسرار ما تعبر عنه . إنه فيلم يذكرك بما تفعله "هوليوود" فى الأعمال المأخوذة عن روائع الرواية العالمية، وليس بما تقدمه السينما الأوربية من معادل سينمائى وفهم أعمق لنفس الروائع .



يجب فى البداية أن نعذر كاتب السيناريو " رونالد هاروود " لأن تحويل " الحب فى زمن الكوليرا " الى السينما ليس سهلا ، ولكنه أيضا ليس شيئا مستحيلا ..صحيح أن الرواية مثل أعمال ماركيز ( ولد عام 1928فى أركاتاكا فى كولومبيا وحصل على نوبل عام1982) تزدحم بالشخصيات ، كما أن مؤلفها من أعظم الحكائين على مر العصور ، ولذلك يسترسل فى السرد بسلاسة وننتقل معه من صفحةالى أخرى لنكتشف فى النهاية أننا عشنا عشرات السنوات ، وصحيح أن " ماركيز " - وهو كاتب سيناريو أيضا - كان يعارض تحويل رواياته الى أفلام لأن ذلك يحصر الخيال المحلق الذى تقدمه ، ولكن الصحيح أيضا أن أعمال "ماركيز " - مثل كل روائع الرواية العالمية -تعطى فنان السينما مادة درامية وإنسانية لا حدود لها ، والمشكلة تبدأ عندما يعتقد هذا الفنان أن دوره يقتصر على التلخيص والنقل وليس التفاعل الخلاق مع الرواية والتعبير عنها والتأمل فى أفكارها ومشاعرها ، وإذا كانت المسألة فى أمانة نقل الأحداث والحكايات فإن الأكثر أهمية فى رأييى أن تنقل روح هذا العالم اللاتينى الصاخب والملون الذى يجمع ببساطة بين ، وبدون أدنى شعور بتأنيب الضمير بين إشباع مطالب الجسد والفناء فى أسرار الروح ، والذى يجمع أيضا بين التدين الشديد والإحتفاظ بتقاليد وثنية وبدائية .



روعة" الحب فى زمن الكوليرا "تحديدا فى أنها لا تشبه أبدا الأعمال الرومانسية التى تهرب من الواقع ، ولكنها تحكى عن أشخاص من لحم ودم وبكل نقاط ضعفهم وأمراضهم . الحدوتة فى الرواية والفيلم لا تتغير معالمها ، بل إن الفيلم يبدأ - مع الإختصار والتلخيص فى الحوار - بمشهد وفاة (د خوفينال آربينو ) العبثى عندما يصعد الى الشجرة لإحضار الببغاء الخاص به فيسقط على ظهره ليموت ، ثم ننتقل - مثل الرواية - للإستعدادات الخاصة بجنازة الطبيب الشهير بحضور أرملته العجوز ( فرمنيا داثا ) ، وعندما يسمع " فلورنتينو آرثيا ) بوفاة ( د خوفينال ) يذهب الى أرملته لكى يكشف لها عن حبه ، وعن انتظاره للحظة وفاة زوجها من51عاما ، ولكنها تطرده بقسوة ، ثم تسمح لنفسها بالعودة الى خطابات ( فلورنتينو ) للتتذكر حكاية حبهما فى المراهقة . لا بأس من هذه البداية كحيلة لسرد وقائع الحكاية الغريبة المعقدة بين الأبطال الثلاثة : الزوج (د خوفينال ) والزوجة ( فرمنيا ) والعاشق الأبدى ( فلورنتينو ) ، ولكن المشكلة أن كاتب السيناريو " هاروود " سيقوم تقريبا بتلخيص أحداث الرواية دون أن ينجح فى " تضفير " الوقائع ، ودون أن ينجح فى خلق بناء مواز لعالم " فرمنيا " وعالم "فلورنتينو " ، ولذلك سيتحول الفيلم فى فترات طويلة منه الى ما يشبه الفلاشات السريعة وقصاقيص المشاعر والعواطف ، وسيهبط الإيقاع فى مناطق كثيرة ، وسيفشل المخرج فى اكتشاف العلاقة بين الأحداث المتوازية ، لذلك سيكتفى بالعرض المحايد باستثناءات قليلة مثل توظيفه الجيد لأغنيات بصوت " شاكيرا " الباكى ، وبكلمات عذبة وألحان مثيرة للشجن استخدمت فيها آلة الجيتار ، ومن أمثلة تلك الأغنيات ( آه ياحب .. أريد أن أذوب فيك ) ، وأغنية ( إننى أفكر فيك كل يوم ) ، وأسوأ ما فى هذا السرد التلخيصى للأحداث أنه جعل الإحساس بالزمن شديد الإفتعال، ولولا الشعر الأبيض وانحناءة الظهر لما شعرنا أننا نستعرض حكاية حب طويلة عمورها نصف قرن بين سنوات القرن التاسع عشر ، وبدايات القرن العشرين .


كان " فلونتينو " عامل تلغراف فقير يكتب الشعر . عندما كان فى سن الثامنة عشرة وقع فى غرام الجميلة " فيرمنيا " ابنة أحد تجار البغال السشرسين . كتب لها رسائل حب تبدأ بعبارة ( آلهتى المتوجة ) ، وعزف له الموسيقى على آلة الكمان أسفل منزلها ، وبدأت هى فى الإستجابة له بتشجيع من عمتها التى لم تتزوج . كان حبا أقرب الى المرض استمر أربع سنوات ، ولكن الأب الشرس رفض أن يكون عامل التلغراف زوجا لابنته التى يطمح أن ترتبط بمن هو أكثر ثراء ومكانة . اختار الأب أن يصطحب ابنته الى أقاربهم فى مدينة بعيدة لمدة عام ، ولكن " فلورنتينو " كان يتبادل مع " فيرمنيا " برقيات الحب ، وبعد عودتها كانت نظرتها اليه قد تغيرت . قالت له فى قسوة :" لم يكن حبا.. كان وهما ". وكانت صدمة عمره .


أقسم ( فلورنتينو ) على أن يُخلص ل ( فيرمنيا) الى الأبد ، وصمم على أن تكون قدره ، وأراد أن يصبح ثريا ليكون جديرا بها ، وفى الرواية سيحاول أن يستأجر أحد الغواصين النصابين ليبحث له عن ذهب السفن الغارقة ، وستحاول أمه أن تشغله بأن يعمل فى البواخر التى يمتلكها عمه " ليو" ، وفى أولى رحلاته الطويلة ستتغير حياته ، وسيعرف لأول مرة الحب الجسدى ، وبعد أن كان يكتب رسائله الغرامية فى أحد بيوت الدعارة دون أن يلمس واحدة من العاهرات ، أصبح يجد عزاءه فى الحب الجسدى ، وقرر أن يكتب أسماء عشيقاته حتى وصل عددهن الى 622إمرأة وفتاة ، ولكن كل ذلك لم يستطع أن ينسيه حبه الأول " فيرمنيا" . كان يتابع أخبارها ، وعرف أنها تزوجت من "د خوفينال " الطبيب العائد بعد دراسته فى باريس ، وعرف أنها أيضا أنجبت من زوجها الذى أصبح من مشاهير المدينة لجهوده فى الرعاية الصحية ، وفى تنظيف المدينة الملوثة التى تهدد حياة السكان بالإصابة بالكوليرا فى الوقت الذى يطاردهم فيه شبح الحرب الأهلية على فترات متقاربة . فيرمنيا - من ناحيتها - ستظل خمسين عاما غير متأكدة هل أحبت ( فلورنتينو ) أنه مجرد وهم كما قال لها والدها .. زوجها الطبيب منظم . حياته العلمية تنتقل معه الى المنزل .. فى مرحلة تالية سيخونها مع إحدى مريضاته ثم يعتذرويبتعد عن العشيقة . سيتسرب الملل الى حياتها .. ستكلمه عن الحب فيحدثها عن الإستقرار . فى مرحلة الشيخوخة سيتشاجران لأتفه الأسباب ، ولكنها ستحزن عليه بشدة عند وفاته ، ثم سيظهر ( فلورنتينو ) العجوز فى حياتها ولكن بعد أن أصبح رئيسا لشركة ملاحة بحرية عملاق ورثها عن عمه .


فى الجزء الأخير من الفيلم والرواية أيضا ، سيصطحب (فلورنتينو) حبيية العمى فى رحلة بحرية ، وستتجاوب معه لأول مرة ليمارس معها الحب الجسدى رغم أنهما تجاوزا سن السبعين ، وسيقترح هو على قائد الباخرة ألا يعودا الى المدينة ، ويكون الحل بأن يرفع البحار العلم الأصفر والعلم الأسود دلالة على وجود مريض بالكوليرا معهم .. ترفض السلطات دخولهم فتعود السفينة بهم . تقول له ( فيرمنيا): الى متى سنظل نذهب ونعود بالباخرة ؟ ، فيرد عليها ( فلورنتينو): "مدى الحياة ". وهكذا يفتح موت الزوج الباب أمام حياة جديدة لكل من ( فيرمنيا) و(فلورنتينو)، وهكذا يحمى علم الموت رحلة حب تأخرت أكثر من نصف قرن ، وهكذا أيضا يعبر الحب القرن التاسع عشر الى القرن العشرين عصر التقدم العلمى وثورة الحياة المادية . يقول (ماركيز) فى رائعته : لقد عاشا معا ما يكفى ليعرفا أن الحب هو أن نحب فى أى وقت وفى أى مكان ، وأن الحب يكون أكثر زخما كلما كان أقرب الى الموت ". ولكن الحب لدى (ماركيز) لا يحلق فى الفراغ ..إنه حب يليق بالإنسان كما نعرفه ..حب الروح وحب الجسد أيضا .


لقد تاهت المشاعر والأحاسيس وسط تلك القفزات والأحداث المختزلة والحوارات المبتورة والشخصيات غير المكتملة ، واحتلت قصص (فلورنتينو) مع عشيقاته مكانا بارزا فبدا كما لو كان ملتمسا للعربدة وليس باحثا عن العزاء ، ولولا الأداء المتميز للنجم الأسبانى (خافيير بارديم) الذى لعب دور (فلورنتينو) فى كل مراحله باستثناء سنوات شبابه الأولى ، لما كان هناك شئ يمكن الحديث عنه رغم الإمكانيات الضخمة المتوافرة .. ولكن من الذى قال إن الإمكانيات تستطيع وحدها أن تصنع عملا عظيما ؟!

الخميس، 8 يوليو 2010




السبت، 3 يوليو 2010

(نشر هذا المقال فى 10 يناير2010 ، ويتضمن قراءة لفيلم التحريك ثلاثى الأبعاد (A christmas carol) أو كما عرض تجاريا فى مصر تحت اسم ( أغانى الكريسماس ).

(أغانى الكريسماس ) .. درس خصوصى للرأسمالية المتوحشة !

محمود عبد الشكور

ارتبطت الصور المجسمة عندى بكروت البوستال الثقيلة التى كنا نشتريها فى الطفولة ، والتى كانت تحتوى على مناظر للكعبة متعددة الأبعاد والزوايا ،اورغمذلك لم أتحمس فى بداية التسعينات لمشاهدة ما سمى وقتها بأفلام الهجوم على المتفرجين ، والتى كانت تستخدم لمشاهدتها نظارات خاصة ، فقد كنت وقتها محبطا من السينما عموما بسبب انهيار الفيلم المصرى ثنائى الأبعاد ، وحتى عندما تم الإعلان عن الفيلم ثلاثى الأبعاد ( أغانى الكريسماس ) ، وجدتنى أؤجل المشاهدة أكثر من مرة ، وحتى بعد أن قطعت التذكرة أخيرا متشجعا باسم " تشارلز ديكنز " صاحب القصة الأصلية ، وباسم " روبرت زيميكس " كاتبا للسيناريو ومخرجا ، حتى عندما فعلت ذلك لم أستطع أن أمنع نفسى من الدهشة لمنظر الجمهور كبارا وصغارا وهم يتجهون الى صالة العرض حاملين نظاراتهم السوداء ، وكأننا نتجه الى سرادق عزاء ، ولكن التجربة عموما كانت جيدة لجمال الفيلم القادم من مصنع ديزنى الممتع ، وأضافت التجربة ثلاثية الأبعاد مزيدا من المعايشة والإندماج مما يجعلها مطلوبة فى نوعيات محددة من الأفلام .

نظام العرض البصرى ثلاثى الأبعاد الذى يتطلب طريقة خاصة فى التصوير وفى شاشة العرض وفى النظارات التى نرى الصورة من خلالها لا يصلح مع كل الأفلام ، ولكنه يضيف فعلا للأفلام التى تعتمد على الخيال المحلق ، وعلى السياحة الممتعة فى الزمان والمكان مثل ( أغانى الكريسماس ) . القصة التى كتبها الروائى الإنجليزى "تشارلز ديكنز " تبدو لأول وهلة كما لو كانت مجرد حدوتة تربوية للأطفال تقدم لهم درسا أخلاقيا لكى يكون الإنسان لأخيه الإنسان ، وبألا تصرفه المادة عن الأحاسيس والمشاعر ، بل إن الفيلم والقصة هما التعبير الدرامى عن ذلك البيت الشهير الذى حفظناه فى المدرسة ضمن قصيدة التينة الحمقاء ، والذى يقول فيه الشاعر اللبنانى المهاجر " إيليا أبو ماضى ": " من ليس يسخو بما تسخو الحياة به فإنه أحمق بالحرص ينتحر " ، ولكن لو تأملت فى مغزى الحكاية لوجتها موجهة للكبار أيضا ، والدرس الأخلاقى لبطل الحكاية ( آبينزر سكروج ) هو أيضا درس اقتصادى لكل رأسمالى متوحش خاصة بعد الأزمة الإقتصادية الأخيرة التى تسبب فيها حفنة من الحمقى الجشعين .

لقد عاصر ديكنز توحش الرأسمالية فى بريطانيا ، وانتقد كثيرا صعود دولة المال والمادة فى مقابل تراجع الإحساس بالآخر ، وأفزعه أكثر تحول الإنسان الى آلة لجلب النقود فى حلبة صراع لا مكان فيها للضعفاء أو للمرضى أو لمحدودى المواهب والقدرات ، وكأن الضعف أو المرض ينزع عن الإنسان صفة الإنسانية . صرخة ديكنز فى (أغانى الكريسماس )عميقة بقدر ما هى بسيطة للصغار وللكبار معا : "يا من صنعتم أموالا .. أنتم لم تصنعوها إلا من خلال الناس .. لولا الأخر ستموتون .. ولولا المشاعر والأحاسيس لكان الحجر أكثر قيمة من البشر .. عيد الميلاد ليس مجرد مناسبة للإحتفال وتناول الطعام ، ولكنه فرصة لكى يولد رأسمالى جديد أكثر إنسانية لا يتفضل على الآخرين بشئ لأنه - كما قلنا -لا يفعل أكثر من أن يسخو بما تسخو الحياة به" .

أراد( روبرت زيمكس) أن يحافظ على روح حكاية ديكنز الكلاسيكية ، وأن يقدمها فى شكل معاصر وشديد الإبهار ، ستدخل الكاميرا فى البداية الى كتاب ضخم يحمل اسم قصة ديكنز ، وسنبدأ من اللحظة التى يفقد فيها سكروج صديقه وشريك حياته ( جاكوب مارلى ) ، وسنرى بخل سكروج وهو يرتعش مقدما عملة معدنية صغيرة للقائم على الدفن . الرجل العجوز الدميم خارج الزمن . بعد سبع سنوات الجميع يبتهجون استعدادا للإحتفال بالكريسماس ، إلا سكروج الذى ينتقد حماس الموظف الذى يعمل معه ( بوب كراتشيت ) ، وينتقد حماس ابن أخيه ( فريد ) الذى تزوج عن حب ، والذى يدعو عمه على العشاء ، ولكن العم يرفض ، فالوقت يوزن لديه بالمال ، والحياة فقط عمل ونقود ، وعندما يطلب منه البعض التبرع للفقراء والمشردين يتساءل فى صلف : "أين السجون والجمعيات الخيرية ؟" هذه الشخصية هى بالضبط( التينة الحمقاء) التى تحدث عنها (إيليا) فى قصيدته الشهيرة .

نلاحظ أن ( زيمكس ) يحول الحوارات داخل مكتب ( سكروج ) الى ما يقترب من المشهد المسرحى مع ضوء خافت مقبض ، وحتى دخول وخروج الزوار يشبه الدخول والخروج المسرحى ، وسيتغير ذلك تماما مع ( التجربة ) التى سيمر بها سكروج فى قصره الفارغ . تفتح النافذة بصوت كالرعد على شبح شريكه الراحل ( مارلى ) وقد عاد مقيدا بالأغلال ، وناقلا عذابه بالمال الذى جمعه لزميله سكروج . هذا رأسمالى مضى الوقت لإنقاذه يتدخل لإنقاذ رأسمالى آخر على قيد الحياة لا يفهم مغزى الحياة . ستكون وسيلة مارلى لإنقاذ سكروج هى إرسال ثلاثة أشباح تمثل الماضى والحاضر والمستقبل ، تكشف الأستار ، وتدخل سكروج فى تجربة يكتشف من خلالها حياته الفارغة رغم ثرائه المادى الذى لا حدود له . شبح الماضى سيكشف لحظات من حياة سكروج فى طفولته وشبابه : طفل وحيد يقضى ليلة عيد الميلاد بلا أصدقاء ، له أخت وحيدة أصغر منه تزوره فى ليلة العيد ، تخبره أن والدهما عاد الى المنزل وأصبح أقل شراسة ، يعمل فى إحدى الورش ويتعرف على فتاة جميلة ، فجأة يتحول المال الى معبوده الجديد ، الفتاة تتركه بينما يبرر تكريس حياته لجمع المال بسبب خوفه من الفقر .

شبح الحاضر ينقل إليه صورة لا حتفال الموظف الذى يعمل عنده ( كراتشيت ) بعيد الميلاد مع أسرته الصغيرة . ليس لديهم ديك رومى ولكن مجرد أوزة صغيرة . يلفت نظر سكروج الطفل ( تيم ) المقيد الحركة لإصابة إحدى قدميه بالشلل ، وينقل إليه شبح الحاضر أيضا سخرية ابن أخيه ( فريد ) منه فى حفل العشاء ، أما شبح المستقبل فينقله وسط ندف اثلج التى تحيط قبره المفترض ، والى خادمته وهى تستولى على أغطيته بعد وفاته، ثم يتحول سكروج الى قزم فى حجم فأر يطلب منه الشبح فرصة لكى يصبح رأسماليا طيبا يشعر بالآخرين , هى فى الحقيقة فرصة لكى يسترد إنسانيته . هنا لحظة التحول حيث يجرب سكروج حياة أخرى : يغنى مع المارة .. يتزحلق فى سعادة على الجليد .. يداعب خادمته العجوز .. يحضر عشاء ابن أخيه ( فريد ) ..يستقبل ( كراتشيت ) بحفاوة ويزيد له راتبه رغم تأخره عن العمل .. ويحمل ابنه ( تيم ) على كتفيه ليدخلا من جديد كتاب الحواديت الذى خرج منه كل هذا الخيال النبيل .

أدى استخدام النظارة والعرض البصرى ثلاثى الأبعاد الى جعل الشاشة باتساع العالم ، وأدخل المتفرجين الى تجربة سكروج المدهشة ، لا حدود للزمان ولا للمكان ، الحياة على بساط الريح والكادر باتساع الملكوت ، الكاميرا لم تعد تتحرك ولكنها تطفو وترقص وتصعد وتغوص ، الأصوات التى جسدها ( جيم كارى ) و ( جارى أولدمان ) و( وكولين فيرث ) و( روبين رايت بن) و(روب هوسكنز ) مدهشة فى تعبيرها عن عالم كل شخصية .. الموسيقى تخلنا الى أجواء التجربة الثلاثية من الماضى الى الحاضر الى المستقبل ، الألوان تصبح أكثر سخونة ودفئا كلما عاد سكروج الى إنسانيته المفقودة . عالم كامل من الخيال نجح ( روبرت زيمكس ) وفريق عمله فى تجسيده على الشاشة .. وقطع لنا تذكرة إضافية لكى ندخله بالمعنى الحرفى لاالمجازى .

يوم الكريسماس فى التفسير السياسى للفيلم هو يوم مولد سكروج الرأسمالى الجشع من جديد ، والفيلم أيضا دعوة لكل سكروج فى العالم يكتنز المال لكى يتأمل ويراجع ويعيد التفكير لأن ( الكفن مالوش جيوب ) !

الخميس، 1 يوليو 2010