الاثنين، 31 مايو 2010






نوستالجيا :
أن تشاهد " مارلون براندو " فى دور " مارك أنطونيو " !
هناك أفلام قليلة لا تمل مشاهدتها مرارا وتكرارا ليس على سبيل شغل وقت الفراغ ولكن لأنك تكتشف فى كل مشاهدة شيئا جديدا ،وتستعيد خبرة المشاهدة السارة والإكتشاف الأول ، وقد ارتبط فيلم (يوليوس قيصر) (1953 ) بحفنة من المباهج الملونة ليس أقلها أننى أكتشفت من خلاله لأول مرة النجم الفذ ( مارلون براندو ) والشاعر والكاتب المسرحى الأعظم (ويليام شيكسبير ) وشخصية (يوليوس ) نفسها المليئة بالمتناقضات ومناطق القوة والضعف .
كنت فى الصف السادس الإبتدائى طفلا شغوفا بمتابعة ما تعرضه قناتا التلفزيون المصرى الوحيدتان ( الأولى والثانية ) ، وكانت خبرتى عما يطلقون عليه الدراما لا تتجاوز أفلام نادى السينما المدهشة الذى يستحق حديثا خاصا ، وبعض الأفلام الأجنبية فى سهرات القناة الثانية ، وطوفانا من المسلسلات العربية والأجنبية من (كوجاك ) الى (منزل صغير فى البراري ) ومن (الساحرة ) بطولة (اليزابيث مونتجمرى ) الى المفتش (كولومبو ) بطولة ( بيتر فولك ) ومن ( رجل بستة ملايين دولار ) الى ( المرأة الخارقة ) الى (مهمة مستحيلة ) الى( ملائكة تشارلى ) الى (بارنابى جونز ) و( ملائكة تشارلى ). بل اننى شاهدت مسلسلات قديمة جدا كان يعيدها التليفزيون مثل ( الهارب ) بطولة ( ديفيد جونسون ) والقديس ) بطولة ( روجر مور ) و( بيتون بليس) و( عائلى بيركلى ) بطولة الرائعة ( باربرا ستانويك ) ، وتحتفظ الذاكرة أيضا بمسلسلات أخرى مثل ( هارت تو هارت ) و(دكتور كوينسى ) ، وأعمال عن نصوص أدبية مثل ( الحرب والسلام ) و( رجل غنى .. رجل فقير ) و( الجذور ) وغيرها من روائع أعمال السبعينات ، وبالطبع كان التليفزيون يتحفنا من وقت لآخربفيلم عربى نتحلق لمشاهدته حامدين شاكرين مسرورين مهللين .
فى ذلك اليوم الذى لا أنساه ،كنت جالسا على مقعد بجوار التليفزيون مستغرقا فى القراءة ، فى الغالب كنت أقرأ كتاب الناقد والمعلق الكروى الراحل ( محمود عفت ) عن (المجرى مصطفى عبده ) . كان التلفزيون مفتوحا على فيلم يرطن أبطاله بالإنجليزية ويشكل مايشبه المؤثر الصوتى فى هامش الشعور . ما تعرفش هل زهقت من القراءة أم أردت الذهاب لإحضار كوب من الماء , المهم أننى مررت أمام الشاشة فى تلك اللحظة التى يعرض فيها أهم مشاهد فيلم يوليوس قيصر الفيلم والمسرحية معا . مار ك انطونيو ( مارلون براندو ) يحمل جثمان يوليوس قيصر ( جون جيلجود ) ويمدده أمام شعب روما فى ساحة واسعة فى حين يراقبه قتلة القيصر وعلى رأسهم بروتس ( جيمس ميسون ) . وقفت متسمرا ومذهولا لا أعرف بالضبط ما الذى أشاهده ولكنى لم أستطع العودة الى مقعدى حتى نهاية الفيلم ، فلما انتهى جريت الى صحيفة اليوم لأسمع وأقرأ لأول مرة عن مسرحية شكسبير ( يوليوس قيصر ) وعن البطل الوسيم الذى اكتسح الجميع بخطبة الساحة الرائعة ( مارلون براندو ) ، وعن مخرج الفيلم ( جوزيف مالكوفيتش ) .
يقول الراحل العظيم ( محمد عبد الوهاب ) انه عندما استمع لأول مرة فى طفولته لمونولوج سيد درويش الشهير ( أنا المصرى كريم العنصرين ) أصابته هزة وجدانية أفقدته صوابه فجعل يجرى محتبس الأنفاس حتى وصل الى منزله دون أن يعرف أو يعى لماذا يجرى على النحو وكأن وحشا يطارده . ما وصفه عبد الوهاب أقترح أن نطلق عليه ( هيبة الجمال ) وسطوته . فى هذه الحالة يصبح جهاز الاستقبال لدينا أقل من أن يستوعب جرعة الجمال التى تعرض لها رغم احساسه بوجودها . حاجة كدة أشبه بطفل صغير ألقيته فى محيط هائج فأخذ يضبش ويشرق ويلقف أنفاسه لأنه لا يحتمل هذه الطاقة رعم اعترافه بوجودها وسطوتها ، لايستطيع استيعابها ولا يفهم لماذا فعلت به الأفاعيل . شئ قريب من ذلك حدث لى عندما شاهدت براندو يبدع ويمتع ويصول ويجول فى دور مارك أنطونيو رغم أنه قبل مشهد الخطبة الشهير لم يظهر إلا فى لقطات معدودة كان فى أحدها يمر - مجرد مرور- بصحبة يوليوس قيصر أمام بعض المتآمرين ، أحببت الفيلم ولم يحدث أبدا أن عرض دون أن أشاهدة ثم أتوقف طويلا أمام روعة مشهد الساحة كتابة وأداء وإخراجا . الطريقة التى ينظر بها براندو . استخدامه لجسده . اسلوب الإلقاء الذى يحتمل المعنى المزدوج . التوظيف الرائع للمكان . المشهد مسرحى بامتياز :خطبة أمام جمهور فى ساحة ومع ذلك لاتفقذ أبدا احساسك أنك تشاهد منظرا سينمائيا من خلال تلك القطعات الذكية على الوجوه ، والتوظيف المدهش للقطات رد الفعل ، وقد تتاح الفرصة لكى أنقل لكم تحليلا لأداء براندو فى هذا المشهد من نص أحنبى مترجم عُنى مؤلفه خصوصا بلقطات رد الفعل ، ودورها فى التأثير النهائى للمشاهد الناجحة دراميا وسينمائيا .
بسبب هذا الفيلم أيضا بدأت البحث عن شيكسبير وترجمات أعماله المتعددة حيث كنت أجمع المسرحية الواحدة بأكثر من ترجمة، وأحاول فى مرحلة تالية المقارنة بينها ، ومازلت أومن برأى أحد نقاد الدراما الكبار الذى قال إن مفاتيح الدراما عشرة يمتلك شكسبير وحده تسعة منها ! يكفى أن تقرأ يوليوس قيصر لتعرف كيف يتم بناء الشخصية ، وكيف يتم التعبير عن عالمها الداخلى وكيف تعبر عن منطقها لدرجة أنك تتفهم مبررات بروتس للمشاركة فى اغتيال قيصر بنفس الدرجة التى تتفهم مبررات أنطونيو ( الإبن الروحى لقيصر ) للأخذ بثأره ، وتحريض شعب روما على الثورة ضد المتآمرين .
كنت أتمنى أن أقدم لك ترجمة دكتور محمد عنانى الكاملة الرائعة للمسرحية الصادرة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب ، ولكنى لظروف المساحة سأكتفى بنشر ما تيسر من مشهد الخطبة ( المشهد الثانى من الفصل الثالث ) . الحقيقة أن المشهد يبدأ من نقطة سابقة وهى دخول أنطونيو على القتلة فى الكابيتول وأمامهم جثته .. يحاولون استمالته الى صفهم بوعد أن يكون له دور فى عالم ما بعد قيصر ، ولكنه يوهمهم بالموافقة بشرط أن يسمحوا له بأن يحمل جثة أبيه الروحى الى ساحة الكابيتول لتأبينه بما يليق بالرجل الذى حقق المجد لروما . يوافق المتآمرون ويبدأ المشهد الثانى بخطبة من بروتس يبرر بها لماذا شارك فى قتل قيصر من أجل روما وليس لأسباب شخصية ،ثم يأتى دور أنطونيو فيدخل حاملا الجثمان ، وينطلق مارلون براندو العظيم فى تشخيص ليس كالتشخيص وتجسيد ليس كالتجسيد ، بل إن أنطونيو نفسه ما كان يستطيع أن يدافع عن قيصر مثلما كتب شيكسبير وأبدع براندو ( الإقتباسات بتصرف)
أنطونيو : بالأمس فقط كانت كلمة واحدة من فم قيصر
تتحدى العالم كله
أما الآن فهاهو الآن طريح الثرى
وأحقر الحقراء أرفع من أن ينحنى احتراما له
أيها السادة لو أنى جئت لأشحذ عقولكم
وأستثير قلوبكم حتى تثوروا وتغضبوا
لأسأت الى بروتس ، وأسأت الى كاشياس
وهما -كما تعرفون -رجلان شريفان
وإذن لن أسئ الى أى منهما ، بل إنى أوثر
أن أسئ ألى الموتى ، وأسئ الى نفسى ، بل وأسئ
إليكم أنتم ،
على أن أسئ لمثل هؤلاء الشرفاء !
ولكن فى يدى ورقة مختومة بخاتم قيصر
وجدتها فى غرفة مكتبه . إنها وصيته!
أرجو العذرة فلن أقرأها أمامكم
إذ لوعرف الأهالى ما فى هذه الوصية
لارتموا على قيصر ، يقبلون جراحه بعد موته
( و قبل أن يلقى أنطونيو بوصية قيصر بمنح كل رومانى 75 درهما مع التنازل للشعب عن كل البساتين والحدائق يستثير عاطفتهم بالحديث المؤثر عن أبيه الروحى حتى يشعل الثورة على المتآمرين )
أنطونيو : إن كان لديكم دموع فاستعدوا للبكاء
تعرفون جميعا هذا الوشاح
واذكر أول مرة ارتداه قيصر
كان ذلك مساء يوم من أيام الصيف فى خيمته
فى اليوم الذى قهر فيه جيش الترقيين الأشرس
انظروا! من هذا الشق .. اخترق الوشاح خنجر
كاشياس
وانظروا الشق الذى شقه كاسكا الحقود!
وهنا طعنة بروتس.. الذى أحبه قيصر كل الحب !
وعندما انتزع خنجره اللعين
تدفق الدم فى إثره هنا .. انظروا..
لكأنما خرج من الباب مسرعا ليتأكد
إن كان بروتس حقا هو الذى طرق هذه الطرقة
النكراء !
إذ أن بروتس -كما تعلمون -كان كالملاك فى عين
قيصر!
واشهدى أيتها الآلهة
كم كان قيصر يحبه ويعزه!
كانت تلك أقسى الطعنات جميعا !
إذ عندما شاهده قيصر النبيل وهو يطعنه
أحس بالجحود يقهره..
فالحجحود أقوى من أسلحة الخونة..
وعندها انصدع قلبه الجبار
وسقط قيصر العظيم ، وعلى وجهه هذا الوشاح ،
على قاعدة تمثال بومبى
الذى أخذ ينزف الدم بلا توقف.
ما أبشع تلك السقطة يا أبناء وطنى..لقد سقطت عندها وأنتم! سقطنا جميعا عندها!
بينما تباهت الخيانة الدامية فوق رؤؤسنا
آه! إنكم تبكون الآن وتشعرون كما أرى
بلذعة الأسى! ما أكرم عبراتكم !
أيها الرحماء الأبرار! أتبكون لرؤية الجروح
التى مزقت رداء قيصر؟ انظروا إذن !
هاهو قيصر نفسه وقد مزقه الخونة
( ملحوظة أخيرة : لم تقرر علينا طوال المرحلة الثانوية أى مسرحية لشيكسبير إذ كانت وزارة التربية والتعليم مشغولة بأن نتعرف على الروائع الحقيقية فى الأدب العالمى مثل روايات (المزور ) و( المرأة التى اختفت ) و (السيدة التى توحّمت ) !!!)

السبت، 29 مايو 2010







الجمعة، 28 مايو 2010

نوستالجيا:





"بوند " فى الفضاء .. ولقطات ساخنة فى قلب الزلزال !





عندى اهتمام خاص بالطريقة التى تؤثر بها الأفلام على الجمهور ، ومن دفتر الذكريات عندى هناك واقعتان تتصلان مباشرة بهذا التأثير. فى الأولى نجح الفيلم الذى شاهدته فى الإبتعاد بى تماما من حالة انعدام الوزن التى رافقتنى عند الدخول ، وفى المرة الثانية فشل الفيلم فى إحداث أى تأثير رغم أنه كوميديا صارخة ، وسنحاول معا التأمل والتفسير .










بعد التخرج فى كلية الإعلام -قسم الصحافة بتقدير جيد جدا مع مرتبة الشرف ، قررت النزول الى بلاط صاحبة الجلالة حاملا المرتبة ولكن بدون أى كروت واسطة. بدون تفصيلات تعثرت التجارب كلها بطريقة عجيبة لدرجة أننى استيقظت ذات صباح فلم أجد فقط مكتب جريدة ( الأنباء ) الكويتية التى كنت أعمل بها بالقطعة ، ولكنى لم أجد الكويت نفسها التى يتبعها المكتب بعد أن قام "صدام حسين " بغزوها فى أغسطس 1990 . المهم أن "الكارير" المهنى كان يتعرض لانتكاسات متكررة. وبسبب ذلك كان شعار الحياة اليومى هو عنوان فيلم (فاتن حمامة ) المعروف ( يوم مرّ.. يوم حلو ). فى إحدى هذه الأيام المرة الغائمة قررت تجربة أحد أفلام ( جيمس بوند ) القديمة كوسيلة لتغيير المود وكانت النتيجة رائعة لدرجة أن كل صديق يعانى من (انحراف المزاج )كنت أنصحه فورا بفيلم للعميل 007 ، ويفضل أن يكون بطولة ( شون كونرى ) أو ( روجر مور )، وبعدها (ح يخفّ )ويدعى لى !





كنت أتسكع فى وسط البلد عندما وجدت نفسى أمام سينما ( مترو ) الأسطورية قبل أن يتم تقسيمها الى أربع صالات صغيرة ،فجأة شاهدت أفيش الفيلم المعروض يتوسطه (روجر مور ) فى زى رائد فضاء وحوله (الجروب ) المعتاد من الحسناوات . سألت نفسى بفضول :"إيه اللى جاب مستر بوند لأفلام الفضاء؟ بل إننى اكتشفت أن الفيلم اسمه (moonraker )؟!لو سألتنى الآن ما قصة الفيلم ؟ وكيف وصل مستر بوند الى الفضاء ؟ لن تجد عندى إجابة لأن أفلام الجاسوس الأول بامتياز تأخذك بعيدا عن الدنيا وعن كل مشاكلك حيث تعيش فى عالم متسع فسيح بطول وعرض الكرة الأرضية ، ولكن هذا العالم يتبخر تقريبا بعض خروجك من السينما ، وقد ظلت مشكلتى مع أفلام ( جيمس بوند ) حتى الآن أننى يمكن أن أتذكر مشهد ما ولكنى لاأعرف فى أى فيلم بالتحديد من السلسلة .المهم أن الفيلم أخرجنى من لحظات الكرب التى يعانى منها أى عاطل عن العمل ، وربما كان تركيزى الشديد لمعرفة كيف أصبح بوند فى الفضاء سببا فى تقليل الإنشغال بالنفس وهمومها .. ربمالا أعرف !


ولكن المتاعب ليست بدرجة واحدة ، ووصفة مشاهدة الأفلام كعنصر مساعد لنسيان المشاكل لا تفلح فى كل الحالات . مرت عدة سنوات لأكتشف هذه الحقيقةوسط ظروف عصيبة هى أيام الزلزال المشئوم .كنت وقتها قد ألقيت عصا التسيار -كما يقولون - فى مجلة (أكتوبر)، وكُلّفت ضمن كل الصحفيين تقريبا بتغطية وقائع الأيام التالية بعد الهزة الأولى التى شاهدنا فيها برج القاهرة الراسخ وهو يتمايل يمينا ويسارا فشر (سامية جمال )فى أفلام (فريد الأطرش ).. وقد ساهمتُ فى التغطية بالذهاب الى المستشفيات الكبرى التى تضم عشرات المصابين ( القصر العينى القديم-أم المصريين- المنيرة العام-أحمد ماهر ) ،ثم استكملت التغطية فوق أنقاض عمارة مصر الجديدة التى جعلها الزلزال كومة تراب ، وكنت أتنقل معظم اليوم بين الأنقاض ومستشفى (هليوبوليس ) الذى كانت تنقل إليه الجثث إن وجدت . ما اطولش عليك لتنام منى ..المهم أننى أحسست ببوادرإكتئاب من هول ما سمعت ورأيت ، فاقترح على صحفى كبير ساخر أن أذهب فى حفلة المساء الى سينما كريم ( وكانت ماتزال محافظة على رونقها ومكانتها ) لمشاهدة فيلم يضحك الحجر اسمه (hot shots 2 ) أو(طلقات ساخنة - الجزء الثانى ). لم أترددفى تنفيذ النصيحة ، ولكن -على عكس ما حدث مع فيلم بوند _ لم أستطع التركيز مع الفيلم الأقرب الى اسكتشات المحاكاة الساخرة . لم أضحك مرة وأحدة رغم أن البعض كانوايضحكون أحيانا، كان هناك جو كابوسي يخيم على المكان والناس ، بل إنه فى منتصف الفيلم تقريبا اهتزت القاعة بسبب أحد (التوابع )، وانطلق الأطفال فى الصفوف الأولى وسط صيحات الفزع. الغريب أننى أبتسمت لأول وآخر مرة عندما خطر لى أننى يمكن أن أموت فى سينما كريم ، وأتحول الى أحد ضحايا (توابع) الزلزال وليس ضحايا الزلزال نفسه .رأيت على شاشة الخيال أن جنازتى ستخرج من السينما وهى نهاية تليق بأحد عشاقها المخلصين . ألا يوصى نجوم المسرح وعشاقه بأن تخرج جنائزهم من المسرح القومى؟!


انتهى الفيلم ، وخرجت من المكان محزونا كما دخلته. أعتقد أن الفيلم لم يكن رائعا ولكنه أيضا -فيما أظن - لم يكن بشعا . كان مجرد نقطة ماء لا يمكنها أن تغسل جبالا من الأحزان .




(هذا المقال الذى نشرته فى مجلة (أكتوبر ) القاهرية فى 18 أبريل ( نيسان ) فى العام 2004 له مقدمات تستحق أن تروى . فقد ذهبت لمشاهدة فيلم ( ميل جيبسون ) المثير للجدل ( آلام المسيح ) ، وعشت تجربة مؤلمة بكل المقاييس جراء متابعة عملية التعذيب والصلب التفصيلية لشخصية أحبها وأراها من عظماء الإنسانية . المسيح عيسى بن مريم العذراء سيدة نساء العالمين . عيسى الجليل الذى أقام مملكة الضمير فى النفوس كما قال عنه بحق ( عباس محمود العقاد ) . خرجت ممسكا قلبى من الوجع خاصة أننى شاهدت سيدات تبكين أثناء المشاهدة . قبل أن أكتب عن الفيلم أعدت قراءة الإنجيل الذى اعتمد عليه الفيلم ، واستقرت فكرتى على التأكيد على قسوة الفيلم ، والإشادة بالتنفيذ الإحترافى له مما جعله قوى التأثير ، ولكن فى أثناء الكتابة انطلقت الى أفكار كثيرة لم تكن فى الحسبان عن دلالة الموقف كله ، وهكذا لم أكتب عن الفيلم بالطريقة التقليدية ، وإنما تركت حشد الأفكار يتدفق ، وجاء المقال الذى لم أغير فيه حرفا على هذا النحو :)
فيلم (آلام المسيح ).. عندما يتعذب الجسد وتنطلق الروح !
محمود عبد الشكور
(1)
حينئذ قال يسوع لتلاميذه :" إن أراد أحد أن يأتى ورائى فلينكر نفسه ويحمل صليبه ويتبعنى ،فإن من أراد أن يخلّص نفسه يهلكها ، ومن يهلك نفسه من أجلى يجدها ،لأنه ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه ؟ أو ماذا يعطى الإنسان فداء عن نفسه؟
( متّى16 :24-27 )
(2)
فيلم ( آلام المسيح ) للمخرج ( ميل جيبسون ) هو أحدث الأعمال الدرامية التى تستلهم حياة السيد المسيح ، وهو أيضا أجد أكثر الأعمال تأثيرا فى المشاعر والقلوب ربما لأنه يتضمن أطول مشاهد التعذيب فى تاريخ السينما . باستثناء مشهد البداية للمسيح وسط تلاميذه قبل دقائق من القبض عليه ، وباستثناء بعض مشاهد العودة الى الماضى السريعة والذكية فإن هناك تقريبا ساعتين من اللكمات والركلات والصفعات والضرب بالسياط بل والطعن بالحراب فى مشاهد متتالية أشبه بالكابوس .. أو كأنها تجربة التجارب وذروة البلاء .
تزيد أهمية الفيلم كذلك بالنظر الى الهجوم العنيف الذى تعرض له من قبل بعض المنظمات اليهودية الأمريكية مما أجبر ( ميل جيبسون ) على حذف العبارة التى قالها اليهود تحريضا على صلب المسيح :( فلما رأى بيلاطس أنه لا ينفع شيئا ، بل بالحرىّ يحدث شغب ، أخذ ماءً وغسل يديه قدام الجمع قائلاً:"إنى برئ من دم هذا البار ! أبصروا أنتم " ، فأجاب جميع الشعب وقالوا:"دمه علينا وعلى أولادنا ". ( متّى 27 :24 -25 )
من المستحيل تقريبا أن نتوقف عند كل الأعمال الدرامية التىاستلهمت حياة السيد المسيح وإلا احتجنا لمئات الأرانب ، يكفى فقط أن نقول أن الإسناد الى الإنجيل ونصوصه كان متفاوتا ، كما أن صورة المسيح والحواريين ( ويهوذا الخائن تحديدا ) بالإضافة الى بلاطس البنطى ومريم الجدلية ..إلخ ، كانت شديدة التباين والإختلاف ، فالمسيح فى الفيلم التلفزيونى الطويل ( حوالى ست ساعات ونصف الساعة ) وعنوانه ( يسوع الناصرى ) للمخرج الإيطالى ( فرانكو زيفريللى ) (1977) يختلف تماما عن صورة المسيح الثائر فى فيلم ( بيير باولو بازولينى) الأشهر (إنجيل متّى) ،لا يمكن لمن شاهد الفيلم الأخير أن ينسى كيف حوّل ( بازولينى ) موعظة الجبل الى بيان تحريضى جدير بأن يلقيه ( أرنستو جيفارا ) فى مناسبة جماهيرية صاخبة !
الجدير بالملاحظة أن الفيلمين يعتمدان بشكل مباشر على الإنجيل فى سرد حياة المسيح ، ولكن أفلاما أخرى أطلقت العنان للخيال فأثارت جدلا عاصفا ، ويأتى على رأس تلك الأفلام ( الإغراء الأخير للمسيح ) فيلم ( مارت سكورسيزى ) المعروف (1988) الذى اشعل مظاهرات الغضب لأنه يفترض أن السيد المسيح قد راوده هذا السؤال الدنيوى على الصليب :" ماذا لو أنه ظل شخصا عاديا ؟ وماذا لو أنه قررأن يتزوج وينجب بدلا من تحمل أهوال العذاب من أجل رسالته ؟!
ومن أغرب الأعمال الفنية التى تناولت حياة المسيح المسرحية البريطانية ( المسيح أسمى النجوم ) للمؤلف (تيم رايس )التى قدمت فى بداية السبعينات من القرن العشرين ،وشاهدتها أيضا فى معاجة سينمائية ،هناك استلهام لوقائع حياة المسيح كما وردت فى الإنجيل ولكن مع تحويل كل المشاهد الى أغنيات حديثة تعزف على إيقاعات موسيقى الروك ورقصة التويست ، بل غن كل شخصيات القصة ترتدى ملابس (مودرن ) باستثناء المسيح نفسه .
فى أفلام أخرى يتم استلهام قصة حياة ورسالة المسيح بشك غير مباشر، وذلك بالتركيز على أثر هذه القصة على نفوس أشخاص آخرين ، واشهر نماذج هذه المجموعة فيلم (الرداء ) الذى أنتج فى الخمسينات من القرن العشرين ، وهو أول فيلم بتقنية السينما سكوب فى تاريخ السينما ، وفكرته المؤثرة حقا فى رمز رداء المسيح الذى حصل عليه جندى رومانى وثنى ، وكيف تغيرت حياته إثر ذلك ، وانتقل تدريجيا الى المسيحية مضحيا بحياته احتذاء بتضحية المسيح من أجل البشرية .
من هذه النوعية ايضا فيلم ( مسيح مونتريال )للمخرج الكندى ( دنيس راكان )الذى يرصد كيف يؤدى تمثيل حياة المسيح اتجاهات مجموعة من الممثلين الضائعين والمطحونين فى مواجهة متطلبات الحياة المادية .
ولا ننس بالطبع فصة الأمير ( بن هور ) الأمير اليهودى المعاصر للمسيح الذى انتجت هوليوود حكاته مرتين : الأولى فى فيلم صامت عام 1925 يحمل اسم ( بن هور ..حكاية المسيح ).. والثانية فى الفيلم ذائع الصيت الذى أخرجه ( ويليام وايلر ) فى عام 1959 بعنوان (بن هور ) ، وحصد الفيلم - كما يعرف الكثيرون -11جائزة من جوائز الأوسكار .
من المفهوم هنا أن اليهود لم يحتجوا على هاتين النسختين اللتين تهمشان قصة المسيح لصالح أمير يهودى يتحدى الرومان ، ولم يحتجوا ايضا على فيلم ( سكورسيزى )، ولكنهم -والحق يقال -هاجموا بضراوة مسرحية ( المسيح أسمى النجوم ) لنها تظهر دور اليهود فى التحريض على صلب المسيح حتى لو كان ذلك من خلال الأغانى .
(3)
نعود الى فيلم (آلام المسيح ) بتوقيع ( ميل جيبسون ) فنقول إنه من أهم الأفلام التى تناولت بشكل حرفى وقائع الإثنى عشرة ساعة الأخيرة من حياة السيد المسيح ، فما يوجزه إنجيل متّى مثلا يستمله الفيلم من إنجيل يوحنا وهكذا ..، ويصل تحرّى الدقة الى حدإنطاق شخوص الفيلم بالآرامية والعبرية واللاتينية بدلامن الإنجليزية ، ولكن ذلك لا يعنى ان (ميل جيبسون ) لم يضف مايدعم هدفه النهائى من نقل تجربة عذابات المسيح القاسية التى تجعله - من وجهة النظر المسيحية- مخلّص البشرية الأكبر، وأبرز تلك الإضافات تفجير صراع سافر بين المسيح والشيطان الذى يظهر مجسدا طوال مشاهد التعذيب حتى يعلن استسلامه وفشله بصرخة هائلة فى النهاية ، ثم بناء علاقة جدلية بين ماضى المسيح داعية التسامح والحب ، وحاضره المؤسى الذى يتمثل فى تجربة جسدية عنيفة ، ومن خلال مشاهد ( الفلاش باك ) -التى كان يمكن التوسع فيها بما يحقق توازنا أفضل - ينتقل المونتير الفذ (جون رايت ) بسلاسة بين اللقطات ليضاعف التاثير العاطفى الى حدود مذهلة خاصة مع اللجوء الى الحركة البطيئة فى مشاهد كثيرة . على سبيل المثال : ننتقل من االنجار الذى يعد خشبة الصليب للمسيح ( فى الحاضر) الى المسيح نفسه ( فى الماضى ) وهويعمل نجارا ليعد مائدة (رمز الخير والعطاء ) ليستخدمها أحد الأغنياء ، أوننتقل من مريم الأم وهى تهرع بالحركة البطيئة لإنقاذ ابنها الذى اسقطه التعذيب ارضا الى مريم الأم ( فى الماضى ) وهى تقوم بنفس الحركة استجابة لاستغاسة ( عيسى ) الطفل .
يواصل السيناريو الكابوسى ضغطه العاطفى لكى يصل مباشرة الى قلب المشاهد فيقدم مناظر لم يذكرها الإنجيل ولكننا لم نشعر ابدا أنها دخيلة على السياق مثل قيام العذراء مريم ومريم المجدلية بمسح دماء المسيح بعد أن جلد 39 جلدة أذابت لحمه وكشفت عظامه ، ولأن وقائع التعذيب صادمة الى درجة القسوة فإن ( جيبسون )اعتمد لمسات تحاول التخفيف من الموقف . محور هذه اللمسات هو استخدام لغة العيون ونظراتها والتعبير بالإيماءة بين الممثلين خاصة بين المسيح ( جيم كافيزيل فى دور شديد الصعوبة يعتمد بشكل شبه كامل على لقطات رد الفعل ) وتلاميذه خاصة ( بطرس )الذى أنكره ثلاث مرات ، ويهوذا الذى قام بتسليمه مقابل عدة قطع من الفضة ، وتستمر لغة الإيماءت والنظرات ( كما لو كنا فى مسرحية طقسية صامتة ) بين المسيح ووالدته (مريم ) التى لعبت دورها ( مايا مورجنستون )، ومريم المجدلية بحضور واضح من ممثلة الدور نجمة الإغراء الإيطالية المعروفة ( مونيكا بيللوتشى ). وفى مشاهد كثيرة نكاد نلمس أجواء التراجيديات الإغريقية العظيمة حيث لا فرار من القدر إلا إليه ، وحيث لا اختيار إلا مواجهة التجارب بشجاعة الرجال .
وتستكمل الصورة لتحقيق أقوى تأثير عاطفى من خلال الموسيقى التى أمتزجت بأصوات الطبول والكورال الفازع ، ولا يتردد ( جيبسون ) - وهوهنا فى أفضل حالاته كمخرج - فى تقديم تكوينات لا تنسى تذكرك بلوحات ( دافنشى ) و( رافييل ) و( كارافاجيو ) . وهل كان يمكن أن يتجاوز الذين أعادوا الحياة الى زمن المسيح فى سنوات النهضة الخالدة ؟
(4)
والآن الى السؤال الأهم :لماذا ركز جيبسون على آلام المسيح وعلى هذا الإنتهاك البشع للجسد الإنسانى ؟ الإحابة ليست صعبة بالنظر الى أن الفيلم يعبر عن وجهة نظر صانعيه - كما تقول اللوحة التى وضعتها الرقابة المصرية قبل عرض الفيلم ، ويعنى ذلك ببساطة أن الفيلم يعبر عن وجهة النظر المسيحية التى ترى فى آلام المسيح المثل الأعلى لافتداء البشرية والتكفير عن خطاياها وخاصة الخطيئة الأولى ، ولكننا نظلم الفيلم كثيرا إذا تعاملنا معه كمجرد فيلم دينى مسيحى إذ أن ما شاهدته يمكن ان يثير أفكارا لا حدودلها فى ذهن أى متفرج مهما كانت ديانته .
الفيلم يعتبر تجربة شاقة تجعل مشاهدها يعيد التأمل والنظر فى كثير من الأمور . هناك مثلا مغزى الصبر على المكاره فى صورته القصوى . لنتذكر أن الفلاسفة الرواقيين كانوا يعتبرون الصبر فضيلة الفضائل ، فإذا اتفقنا ايضا على أن كل إنسان يحمل صليبا على ظهره ( ليس خشبيا بالضرورة )، وأنه يسير فى طريق الألآم لمسافة ما مكابدا ضربات الأيام (ليس شرطا ان تكون الضربات بالسياط أو بالسيوف ) ، فإننا سنتفهم - عندئذ-درس المسيح الجليل الذى تنيأ بمصيره وعرفه فلم يهرب أو يتراجع وكأنه قبل أن يسير الى معمودية الدم حيث الخلاص الأخير بعد أن عمّد بالما ءقبل ذلك .
لاحظ أيضا كيف واجه المسيح هذا الطوفان من الخذلان والتآمر ، وتذكر أن كثيرا من النماذج البشرية قد تقابلها تجارب مماثلة . لقد واجه المسيح الشر المجسد ( الشيطان ) ، والشر الأحمق الذى يجسده الجنود الرومان الذين يمارسون التعذيب بتلذذ وسادية مقززة رغم أنهم وثنيون وليسوا يهودا ، وهناك كذلك نموذج الحاكم الرومانى (بيلاطس ) الذى يعرف الحق ولكنه غير مستعد للدفاع عنه أو التضحية من أجله .هذا النموذج موجود حتى اليوم ,إنه بالضبط الشيطان الأخرس الساكت عن الحق .
لا تنس أيضا كهنة اليهود من الفريسيين والمرائين الذين يتغلون النصوص للفتك بمخالفيهم فى الرأى أو العقيدة ، وتبقى أخيرا معاناة المسيح من خذلان تلاميذه ( وبعضهم أنكره أكثر من مرة ) ومن خيانة( يهوذا ) له مقابل المال .
هذا الفيلم يقول بوضوح إنه قد لا يكون هناك مفر أحيانا من أن يتعذب الجسد لكى تنطلق الروح . إنه فيلم عن سلاح الإيمان الذى تحدث عنه المسيح كثيرا :"فلما رأى التلاميذ ذلك تعجبوا قائلين : كيف يبست التينة فى الحال ؟ فأجاب ( يسوع ) وقال لهم : الحق أقول لكم إن كان لكم إيمان ولا تشكّو، فلا تفعلون أمر التينة فقط ، بل إن قلتم ايضا لهذا الجبل : انتقل وانطرح فى البحر يكون . وكل ما تطلبونه فى الصلاة مؤمنين تنالونه). (متّى 21 :20-22 )
هو ايضا فيلم عن الفرد فى مواجهة القوة الغاشمة . ترى من ينتصر : التعصب فى حدوده القصوى أم التسامح فى حدوده القصوى ؟ الحكمة أم الجنون ؟ السوط أم الكلمة ؟كما إنه - من قبل ومن بعد - فيلم عن تلك التى تأخذ من الجسد لكى تضيف الى رصيد الروح . تجارب مؤلمة حقا ولكنها تستحق لأنه :" ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه ؟".
وإنه سؤال - لو تعلمون - عظيم .

الخميس، 27 مايو 2010


فى الحفاظ على الذاكرة : تحية مستحقة الى ( السينما والتاريخ )
أول ما خطر على ذهنى وأنا أفكر فى نشر مدونة أن تكون هناك مساحة ( بقدر الإستطاعة وبقدر توافر المادة ) لإعادة نشر وثائق ونصوص أرشيفية تتصل بالسينما وبنجومها وبأزماتها وبمناختها المتقلبة ،وارتبط هذا الخاطر عندى بتحية أردت تقديمها من خلال هذه الفكرة الى الناقد الكبير " سمير فريد " ، وكتابه غير الدورى ( السينما والتاريخ ) الذى توقف - مع الأسف - منذ سنوات .
كان الكتاب - وهو مجهود فردى من ناشره الناقد الكبير -يعيد نشر وثائق ونصوص شديدة الأهمية والطرافة أذكر منها مثلا مقالاً نقدياً للرئيس الراحل ( أنور السادات ) فى تحليل مسرحية ( ريا وسكينة ) التى عرضتها الراحلة ( نجمة إبراهيم ) فى بورسعيد فى نهاية الخمسينات من القرن العشرين ، ونص إعلان أكثر طرافة يعلن فيه الشاب ( أنور السادات ) عن هوايته للتمثيل ، ورغبته فى المشاركة فى فيلم سينمائى ، ونُشرت وثائق أخرى كثيرة مثل النصّ الكامل لتقرير النيابة العامة بحفظ التحقيق فى قضية خسائر القطاع العام السينمائى فى مصر ، ومثل نصّ المقال الأول عن العرض السينمائى الأول فى مصر فى صحيفة ( المؤيد ) ، ومثل أول مقال عن السينما فى مجلة الهلال القاهرية للسيد حسن جمعة فى العام 1929 ..إلخ
سأحاول - مجرد محاولة - أن أستعيد هذا الإهتمام الذى تبنّاه الكتاب فى بحثه الجاد فى تاريخ السينما وفى السينما والتاريخ ، وأرجو من الأستاذ سمير أن يعيد طبع ما صدر من هذه المطبوعة الفريدة فى مجلد واحد أو مجلدين ، وأتمنى أن يقوم أيضا بإعادة طبع الأعداد الثلاثين من جريدة ( السينما والفنون ) التى صدرت وتوقفت فى السبعينات من القرن العشرين ، وهى التجربة التى رصد كواليسها الناقد الكبير ( أمير العمرى ) فى كتابه الممتع ( حياة فى السينما ) .
لن أتوقف كذلك عن المطالبة بإعادة نشر مجلدات نشرة نادى السينما العظيمة التى تناثرت أعدادها المليئة بالدراسات السينمائية الجادة على سور الأزبكية .
لا يليق أبداً ترك هذه المطبوعات- التى أصبحت جزءاً من الذاكرة السينمائية -على الأرصفة فى حين تصدر كتب تتحد ث زوج الفنانات وطلاقهن وتورط بعضهن فى شبكات الآداب !
أتمنى أن يساهم ما سأنشره فى استعادة ولو سطر واحد من الذاكرة الضائعة ، وأتمنى أن أُحشر مع الذين زرعوا ( فسيلة ) كانت بايديهم يوم أن قامت القيامة !





الاثنين، 24 مايو 2010

( كتبت كثيرا عن فيلم ( بابل ) ليس فقط بسبب براعة السرد ، ولا لذكائه فى المعالجة ، ولكن لأنه من أفضل الأفلام التى تحدثت عن العولمة من منظور إنسانى عام وليس من منظور إقتصادى ضيق أو منظور إعلامى مكرر . يقول الفيلم البديع إن العالم واحد لأن الإنسان واحد فى مشاعره وأحاسيسه وإحباطاته . حتى تبلبل الألسنة لن يكون عقابا ما دمنا نشعر بآلام بعضنا البعض . هنا تفصيل هذه القراءة للفيلم من خلال مقال نشرته على صفحات مجلة ( أكتوبر ) القاهرية فى الأول من أبريل ( نيسان ) من العام 2007 ).



(بابل ) .. عندما تصمت الكلمات وتتحدث المشاعر!



محمود عبد الشكور






ليس هناك فن كالسينما بإمكانه ان يطوف بك الدنيا على بساط الريح مع أنك تجلس على مقعدك لترى الإنسان بصورة اعمق وأكثر اختلافا .. وليس هناك فيلم يمس المشاعر ويؤكد على هذه المعانى مثل الفيلم الرائع (بابل) الذى فاز مؤخرا بجائزة الكرة الذهبية فى الدورة الرابعة والستين لجوائز رابطة الصحفيين الأجانب فى هوليوود .



وحتى لو تجاوز الأوسكار فيلم ( بابل ) لمخرجه المكسيكى الموهوب ( أليخاندرو جونزاليس إينيراتو ) فإن جائزة هذه الملحمة السينمائية الحقيقية فى تأثيرها الطاغى على كل من يشاهدها حيث تمتزج الحرفة مع الفكرة المبتكرة للتأكيد على أن الإنسان واحد مهما اختلفت الأماكن والأزمنة و الألسن ، ولترجمة معنى العالم كحجرة واحدة ( لم يعد قرية صغيرة فقط ) ما يحدث فى شرقه يؤثر على غربه ، ولو ألقيت حجراً فى شماله لسقط بالضرورة على شخص ما فى جنوبه .



الأهم من الفكرة هو تحويلها الى دراما . البداية من عنوان الفيلم ( بابل ) الذي يعود بنا الى أصل تعدد اللغات وفقا لرؤية التوراة المعروفة حيث فكر الإنسان فى بناء برج ليصل الى السماء فعاقب الله البشر بأن بلبل ألسنتهم حتى لايفهموا بعضهم البعض ، وهنا فقط توقف بناء البرج الذى أُ طلق عليه برج بابل . هذا هو النص التوراتى من سفر التكوين : ( وقالوا: هلم نبنى لأنفسنا مدينة وبرجا رأسه بالسماء. ونصنع لأنفسنا اسما لئلا نتبدد على وجه كل الأرض .فنزل الرب ينظر المدينة والبرج اللذين كانا بنو آدم يبنونه. وقال الرب : هو ذا شعب واحد ولسان واحد لجميعهم و هذا ابتداؤهم بالعمل . والآن لا يتنع عليهم كل ما ينوون أن يعملوه . هلم ننزل ونبلبل هناك لسانهم حتى لا يسمع بعضهم لسان بعض .فبددهم الرب من هناك على وجه كل الأرض . فكفوا عن بنيان المدينة ، لذلك دعى اسمها ( بابل ) لأن الرب هناك بلبل لسان كل الأرض . ومن هناك بددهم الرب على وجه كل الأرض ).



مبدعو فيلم ( بابل ) يترجمون هذا التبلبل فى الألسنة من خلال تقديم أربع قصص متشابكة تدور بين ثلاث قارات وبخمس لغات مختلفة هى : العربية والإنجليزىة والفرنسية والإسبانية واليابانية ، ويمكن أن تضيف الى ذلك لغة البربر التى يتكلمها بعض المغاربة فى الفيلم .هذا التعدد اللغوى - مع ذلك- لن يشكل حاجزا مستحيل العبور لأن المشاعر الإنسانية هى التى ستنوب عنه . بمعنى آخر يقول الفيلم العبقرى إنه حتى إذا تعددت اللغات فالمشاعر واحدة والإنسان واحد: بضعفه وبقوته .. بغرائزه وبرغباته .. بهذا الجانب الذى يجذبه الى طين الأرض ، وبتلك النفحة الإلهية التى ترفعه الى عنان السماء . حتى إذا تعطلت لغة الكلام سيتواصل الإنسان عن طريق المشاعر . شخوص من لحم ودم ستترجم هذا المعنى بكل اللغات ، وسنلهث معها فى برج بابل جديد بعرض الكرة الأرضية واتساعها ، وبعمق رغبات الإنسان ومخاوفه وحبه للحياة وللتواصل مع الآخر . سيحكى الفيلم من خلال سيناريو مذهل البناء حكاية بسيطة ومركبة معا : بسيطة لآنها تندأ بإطلاق رصاصة عشوائىة فى قرية مغربية ، ومركبة لأن تلك الرصاصة ستقودنا الى الولايات المتحدة واليابان لتعرّي نفوساً ، ولتكشف أسراراً، ولتجعلنا نرى الإنسان كما لم نره من قبل .



سيناريو مركّب

قصة بابل البسيطة يمكن صياغتها على النحو التالى :فى قرية مغربية معزولة تراهن طفلان من الرعاة على التصويب ببندقية جديدة أحضرها الأب لحراسة أغنامهم . أطلق الطفل الصغير الرصاص عشوائيا فأصاب سيدة أمريكية فى أوتوبيس سياحى . عندما نقلها زوجها الى قرية مغربية لإنقاذها اتصل بسفارته وهنا اعتبر الحادث إرهابيا .انقلبت الدنيا فى حين لم يكن الزوج مهتما إلا بإنقاذ زوجته وبالإطمئنان عيى طفليه اللذين تركهما بصحبة مربية مكسيكية . المربية قررت حضور فرح ابنتها فى المكسيك ، واضطرت الى اصطحاب الطفلين معها ، ولكن عند العودة منعت من الذخول من جديد الى أمريكا لأنها مهاجرة غير شرعية ، وبينما تنقذ الزوجة فى المغرب ، يتم القبض على الطفلين سبب الأزمة ووالدهما ، ويصبح مصير الشخص الذى باع البندقية للراعى معلقا بشهادة رجل يابانى أكد على كلام صديقه بأنه أهداه البندقية فى رحلته السياحية الى المغرب .

حكاية كهذه يمكن روايتها سينمائيا بطريقة تقليدية جدا خاصة أنها تحتوى على كل التيمات المعروفة فى الأفلام الهوليودية ( حب وهروب ومطاردة وعقد نفسية وإرهاب ..إلخ )، ولكن المخرج المكسيكى الذكى وكاتب السيناريو ( جييرمو أرباجا ) الذى كتب النسخة الأولى من النص قدما سردا شديد التركيب والتداخل ، وابتعدا عن السرد التقليدى ليس من باب خاف تعرف ، وإنما لكى يؤكدا فكرة التداخل والتعدد الإنسانى بل وفكرة الغموض التى لن تمنعنا من اكتشاف ارتباط المصائر ، أى أن السرد السينمائى هنا هو المعادل الدرامى لفكرة برج بابل : ألسنة متعددة ولكن البرج/ العالم واحد ، وهذا هو الفيلم نفسه : حوادث متشعبة لا رابط بينها سرعان ما ستقودنا فى النهاية الى أغلاق الدائرة .

كنت أتمنى لو تمت ترجمة سيناريو فيلم ( بابل )، ولكنى- فى سبيل توضيح الفكرة السابقة - سأحاول - مجرد محاولة - أن أنقل لكم الإنتقالات الذكية بين المشاهد مع الإستدراك بأن بابل أيضا من الأفلام التى يصعب روايتها.. ولكنها للمشاهدة فقط.

(1) المغرب : تاجر السلاح المغربى يبيع بندقية حديثة لراع فى منطقة جبلية مقابل مبلغ من النقود وعنزة صغيرة . ابنا الراعى يجربان البندقية لاختبار مداهاالذى يصل الى ثلاثة كيلو مترات.الإبن الأصغر يوسف يطلق النار عشوائيا . يتوقف أوتوبيس سياحى فجأة . الولدان يهربان من المكان خوفا وفزعا .

(2) الولايات المتحدة :مربية مكسيكية تتحدث مع طفلين لا نعرف من هما بالتحديد . الحوار بالإنجليزية والإسبانية .تتلقى تليفونا من شخص لا نعرفه يطالبهابأن تبقى مع طفليه ، وألا تذهب الى حفل الزفاف . ابن أخيها المكسيكى يزورها ويقنعها بالذهاب معه لحضور عرس ابنتها . تضطر لاصطحاب الطفلين معها .

(3) اليابان :فتاة مراهقة صماء بكماء تلعب كرة السلة . إنها تبدو شديدة الشراسة فى المشاجرة مع زميلاتها . والدها ينتظرها . تستقل السيارة معه . من خلال لغة الإشارة معه نعرف أنها تفتقد اهتمام والدتها المتوفاة .

(4) المغرب : عودة قليلا الى الوراء من خلال حوار عاتب بين زوج أمريكى (براد بيت ) وزوجته (كيت بلانشيت )فى أحد المقاهى . نراهما بعد قليل فى الأوتوبيس السياحى. فجأة تخترق رصاصة الطفل يوسف الزجاج فتصيب الزوجة . هرج ومرج وصرخات داخل الأوتوبيس بالإنجليزية والفرنسية . المرشد السياحى المغربى يعرض نقل المرأة المصابة الى قريته.فى مكان آخر الراعى يعود الى أسرته ليخبرها أن الإرهابيين هاجموا أوتوبيسا سياحيا وقتلوا سيدة أمريكية كما تقول وسائل الإعلام . الطفلا يشعران بالذعر الشديد.(5) اليابان :الفتاة المراهقة البكماء تدخل أحد النوادى الليلية مع صديقاتها . الشباب يتجاهلون النظر إليهن . إحدى الصديقات تقول لها : إنهم يعاملونك كالوحش . تحاول الفتاة إغواء الشباب بتعرية جسدها بطريقة مبتذلة .

(6) المكسيك :المربية والطفلان وابن شقيقها فى القريةالتى سيقام فيها العرس . دفء فى الإستقبال . الطفلان بلعبان . مشاهد متنوعة لحياة صاخبة وفقيرة.بائعات الهوى فى شوارع المدن .شريط الصوت لأغنيات راقصة ولموسيقى مكسيكية.

(7)المغرب :السائحة الأمريكية تتألم فى منزل مغربى فقير . لاتوجد عربة إسعاف . يستدعون طبيبا بيطريا لتخييط الجرح ومنع النزيف إنقاذا للموقف . عجوز مغربية تقرأالقرآن كمساعدة روحية للسائحة . زوجها يثور على رجل بوليس مغربى وصل الى المكان .يتعارك الزوج أيضا مع سائق الأوتوبيس الذى يريد أن يرحل ببقية السائحين .الأوتوبيس يرحل بالفعل تاركا السائح مع زوجته فى القرية الفقيرة .

(8)اليابان : المراهقة اليابانية فى عيادة للأسنان . تبدو شديدة البراءة ولكن فجاة تحاول إغواء الطبيب الذى يطردها من العيادة . من الواضح أنها تحاول التواصل مع الآخر بشتى الطرق والوسائل.

(9) المكسيك : فرح ابنة المربية . الجميع يشربون . المربية ترقص فى سعادة . تلتقى صديقا قديما ماتت زوجته وتستعيد معه لحظات عاطفية . تطعم الطفلين وتقبّل ابنتها استعدادا لرحلة العودة .

(10) المغرب :المرشد السياحى المغربى يصلى . يسأل زوج السائحة عما إذا كان له أبناء . يخرج له صورة الطفلين الللذين شاهدناهما مع المربية المكسيكية . فى مكان آخر ، البوليس المغربى يقتحم منزل تاجر السلاح . يعذبه ويعامله بشراسة . يقول التاجر دفاعا عن نفسه إنه حصل على البندقية من سائح يابانى كان يزور المغرب ، والتقط معه صورة تذكارية . التاجر يبوح أيضا باسم الراعى الذى اشترى البندقية . فى طريق البوليس الى منزل الراعى يلتقى بالطفلين دون أن يعرفهما . الطفلان يضللان الشرطة .يعودان الى المنزل .يعترفان للأب أنهما وراء حادث السائحة الأمريكية .

(11)اليابان :الفتاة المراهقة تعود الى منزلها .رجل بوليس يزورها ليسأل عن والدها . تقول له بالإشارة إنه غير موجود . الضابط يرد بالإشارة أنه أراد فقط الإستعلام منه عن شئ . تصطحب صديقتها للخروج مع بعض الشباب . تذهب الى أحد الملاهى . يدور بها المكان تحت تأثير الخمر والمخدر .

(12) المكسيك :فى السيارة العائدة الى الحدود الأمريكية نشاهد المربية والطفلين وابن شقيقها الشاب . ضابط الحدود يستوقف السيارة . يشتبك معه الشاب ، ويهرب بالسيارة وسط ظلام الصحراء . الطفلان يصرخان والمربية فى ذهول .

(13)المغرب : الراعى المغربى يصفع ولديه بعد اكتشافه أنهما سبب المشكلة . يستقر رأيه على الهروب معهما . إنه مازال يعتقد أن السائحة قتلت وفقا لوسائل الإعلام . رجل البوليس المغربى الشرس يقتحم المنزل فلا يجد فيه سوى الزوجة -أم الطفلين - والإبنة . يضرب الأولى ويأخذ الثانية كرهينة!

14) المكسيك : الشاب المكسيكى يتخلى عن عمته المربية والطفلين ويهرب بالسيارة . الجوع والعطش ينهك الطفلين فيبكيان . يبيتان مع الربية فى الصحراء حتى الصباح . عندما تشرق الشمس تتركهما المربية للبحث عن سيارةأو طائرة إنقاذ . يكتشفها بوليس الحدود . يقيد يديها . يقودها الضابط لكى تدله عن مكان الطفلين .

(15)اليابان : المراهقة تقرر الذهاب الى البوليس .تطلب منهم أن يزورهم فى الشقة رجل البوليس الذى سأل من قبل عن والدها . تقول لهم بالإشارة إن لديها معلومات مهمة .

(16) المغرب : سيارات الشرطة تطارد الراعى الهارب وابنيه . تطلق عليهم النارفتصيب الإبن الأكبر .يتهور الإبن الأصغر فيرد باستخدام البندقية ليصيب أحد رجال البوليس . يستمر أطلاق النار . فجأة يصرخ الإبن الأصغر مستسلما لإنقاذ أخيه المصاب . يستسلمون جميعا للشرطة .

(17)المكسيك :قوات الحدود تستجوب المربية البائسة. إنها فى نظر القانون متسللة بشكل غير شرعى الى أمريكا رغم أنها أقامت فيها لمدة 16عاما . تقول فى كلمات مؤثرة أنها لم تفعل أكثر من حضور فرح ابنتها .

(18)اليابان : الفتاة المرهقة تستقبل الضابط . تتفاهم معه بالإشارة. نعرف منها لأول مرة أنها شاهدة على انتحار أمها من البلكونة ، وأن والدها لا علاقة له بالأمر . الضابط يتملكه الذهول لأنه جاء فى موضوع آخر هو سؤال الأب عما إذا كان يعرف رجلا مغربيا حصل منه على بندقية . صورة الأب مع الرجل المغربى تحسم الإجابة. تحاول المراهقة إغواء الضابط ولكنه يرفض التجاوب معها .

(19)المغرب : الهليوكبتر وصلت أخيرا الى القرية لنقل السائحة الأمريكية مع زوجها . المرشد الغربى يرفض أن يتقاضى أى نقود من الزوج . يتصل الزوج من المستشفى بطفليه على الحدود المكسيكية . يبكى من التأثر .

(20)اليابان :الفتاة تعطى الضابط ورقة مكتوبة ومطوية . يودعها . يقابل الأب عند عودته . الأب يؤكد أنه يعرف الرجل المغربى . وأنه منحه بندقيته عرفانا وتقديرا . يتطرقان الى موضوع الزوجة المنتحرة . يقول الأب أن زوجته انتحرت بإطلاق النار على راسها وليس بإلقاء نفسها من البلكونة .الأب يعود الى منزله يقترب من ابنته . الضابط فى أحد البارات يفتح الورقة التى قدمتها له الفتاة . لانعرف ما فيها . ينتهى الفيلم والأب يحتضن ابنته وهى عارية فى البلكونة وكأنهما يتفقان على إخفاء سر جديد ربما يكون أيضا له علاقة بتلك الرصاصة التى انطلقت عشوائيا فى المغرب لكى تؤرق فتاة مراهقة وأبيها الغامض فى اليابان !

لغة الأحاسيس
من هذا البناء الفذ للسيناريو نكتشف أن الفيلم المكتظ باللغات والجنسيات تعامل مع اللغة تماما كما تعامل مع إشارات الفتاة اليابانية . إنها مجرد وسيلة للإتصال قد تنجح وقد لا تنجح ولكن الأهم أن يعود البشر الى إنسانيتهم، وأن يتعيدوا الإحساس بالآخر، وفى كل الأحوال ، الإنسان هو الإنسان . هناك أخيار وأشرار فى كل الجنسيات ، فالمرشد المغربى الخدوم يقابله الضابط المغربى الشرس ، والمربية المكسيكية الطيبة يقابلها ابن أخيها الندل الذى يتركها فى الصحراء ، والشباب اليابانى الغارق فى المخدرات يقابله رجل البوليس الذى يرفض انتهاك جسد الفتاةالمراهقة التى يرفضها الجميع .الإنسان بداخله كل الرغبات الشريرة والخيرة وإن كان الفيلم ينتهى الى الثقة فى الخير بداخل الإنسان ، بل ويراهن على أنه سيتخذ الموقف الصحيح ، وحتى الشا ب المكسيكى الهارب يمكن أن تفهم موقفه خاصة أن الفيلم يقدمه من خلال صورة لطيفة ومؤثرة ، بل إنه أفرب الى شاب طائش منه الى فتى شرير، أما النهاية الغامضة فهى تؤكد على رفض فكرة إعطاء اليقين المطلق فيما يتعلق بالإنسان ، ورفض فكرة أن تقدم الدراما نهايات مريحة .
قامت خطة المخرج المتمكن "أليخاندرو جونزاليس " على استخدام الكاميرا المحمولة فى معظم مشاهد الفيلم مما أعطى الفيلم طابع الفيلم التسجيلى أو الإخبارى ، ومنح ذلك المخرج حرية التقاط أدق المشاعر والتعبيرات وحركة الأيدى . استخدم المخرج أيضا اللقطات القريبة ( الكلوزات بأنواعها )لأنها أكثر اللقطات حميمية وأكثرها قدرة على الكشف عن المشاعر فوق الوجوه . الفيلم حافل بالمشاهد المؤثرة التى لاتنسى مثل مشهد المربية المكسيكية مقيدة اليدين وهى تقود الشرطة للبحث عن الطفلين دون الإهتمام بمصيرها ، ومشهد الفتاة اليابانية وهى تبكى بعد أن رفض الضابط الإقتراب منها ، وقد ساعد على نجاح هذه المشاهد إدارة المخرج المذهلة لخليط متنافر من الممثلين المختلفين من حيث الجنسيةواللغة والخبرة .مثلا هناك نجمان محترفان مثل " براد بيت " و"كيت بلانشيت "فى دورين مؤثرين ،واليابانية الرائعة "رينكو كيكوشى " فى دور صعب وفى دورمركب أدته باقتدار ، و" جايال جارسيا برنال "فى دور الشباب المكسيكى المغامر ، والممثلة القديرة " أبريانا برازا " فى دور المربية الطيبة ، بل إن هناك ممثلين مغربيين صغيرين لعبا دورى طفلى الراعى هما " أبو بكر آيت القاضى " و" سعيد طرشانى ، والجميع أن كل ممثل من هؤلاء يشخص بلغته فيمتع ويؤثر ، وقد يدفع بالدموع الى العيون .
وهناك نجوم آخرون وراء ملحمةبابل السينمائية مثل شريط الصوت الذى امتلأ بموسيقى متنوعة عربية وأسبانية بالإضافة الى التوظيف المدهش للحظات الصمت خاصة فى مشاهد المراهقة اليابانية الصماء والبكماء، وهناك المونتاج الذى نجح الى حد كبير فى تحقيق الإنتقالات من صحراء المغرب الى صحراء المكسيك ،ومن شوارع اليابان الىحجرات القرى الجبلية المغربية ، وإن كنت أشعر ببعض التطويل والإستعراض المونتاجى المجانى فى مشهد المراهقة اليابانية وهى تحت تأثير المخدر ، ولكن هناك -بالمقابل - انتقالات شديدة الذكاء من الطفلين المغربيين بعد إصابة الأوتوبيس الىالطفلين الأمريكيين وهما يجريان داخل منزلهما مع المربية ، والإنتقال اللافت من صراخ السائحة الأمريكية بسبب تخييط الجرح الى الصمت الكامل وإلغاء شريط الصوت تماما تعبيرا عن الحدث من وجهة نظر اليابانية الصماء ، ومن أذكى مشاهد المونتاج الرجوع بالزمن الى ما قبل إطلاق النار على الأوتوبيس رغم أننا كنا قد شاهدنا الحادث من زاوية موضوعية فى بداية الفيلم ، وهذا البناء المونتاجى يبعد ذهن المتفرج عن الأفلام الهوليودية التقليدية التى كان يمكن أن تولّف مشهدا مماثلا بالقطع المتوازى التقليدى بين خارج الأوتوبيس وداخله من وجهتى نظر مختلفتين .
قدم مدير التصوير دراسة خاصة للنور والظل فى أجواء متباينة وعلى شخصيات متنوعة ، وبرع بشكل خاص فى المشاهد الليلية مثل مشهد هروب المربية مع الطفلين فى صحراء المكسيك ، كما يلفت الإنتباه إضفاء واقعية خشنة على الصورة فى مشاهد القرية والصحراء المغربية بدرجة جعلتها أقرب الى المشاهد الإخبارية المصورة فى مناطق الحروب والكوارث .
فيلم (بابل ) ملحمة سينمائية رائعة شكلا ومضمونا . يقول الفيلم لكل مشاهد : تكلم أى لغة..واعتنق أى دين ..وانشد أى أغنية .. فقط تذكر شيئا واحدا هو أنك إنسان .. وتصرف بما تقتضيه هذه الكلمة من تصرفات .
وىا عينى على السينماالجميلة عندما تُطلق هذه الأفكار البديعة !

الأحد، 23 مايو 2010




نوستالجيا :
من الدرجة الثالثة الى مركز الثقافة السينمائية !
أول مرة ذهبت فيها الى سينما درجة ثالثة مازالت محفورة فى الذاكرة مثل أول مرة ذهبت فيها الى مركز الثقافة السينمائية القابع فى وسط البلد (35 ش شريف ) ، والذى يعرف كل عشاق السينما فضله وأياديه البيضاء رغم أنه مجرد شقة فى عمارة عتيقة !
كنا خمسة أو ستة طلاب جامعيين ( زى الورد ) يعانون ملل ما بعد تناول العشاء فى المدينة الجامعية التابعة لجامعة القاهرة ذات ليلة شتوية باردة . لا أذكر من تحديداً الذى اقترح أن نقتل الملل بأن نذهب ( بربطة المعلم ) الى سينما الدرجة الثالثة الشهيرة الكائنة فى قلب ميدان الجيزة العامر.الشئ المؤكد أننى لم أكن صاحب الإقتراح رغم شهرتى كأحد دراويش السينما ولكنى كنت اشترط أن تكون الأفلام معروضة فى صالات الدرجة الأولى لأن سمعة الصالات الأخرى ( مش ولابد ) . ولكن التردد العابر سرعان ماتلاشى تماما عندما قال أحد الخبثاء إن " البروجرام " حافل ودُرّته هذا المساء فيلم ( المذنبون ) الذى طبقت حكايته مع الرقابة الآفاق ، والذى أختير فى تلك الفترة ( منتصف الثمانينات تقريبا ) ضمن قائمة نشرتها مجلة ( آخر ساعة ) عن أفضل عشرة أفلام مصرية حتى ساعة تاريخه.
توكلنا على الله ، وكان منظرنا مهيبا حقاً ونحن نتجاوز البوابة الكبرى للمدينة كعصبة من أولى القوة يبدون كما لو أنهم ذاهبون لمؤازرة زميلهم الفالح فى دفاعه المشهود عن أطروحته للماجستير أو الدكتوراة . ولأن المسافة ليست بعيدة الى ميدان الجيزة فقد قررنا أن نقطعها مشيا على الأقدام ، وأصر أحد أفراد الجروب ( بمصطلحات الفيس بوك ) أن نذهب عن طريق تمثال نهضة مصر الشامخ لكى يكرر طقسا ً وثنيا فيما أظن وهو أن يُسمعنا قصيدة ( ثورة الشك ) إلقاءً ونحن ممددين على النجيل أسفل التمثال . حرصاً على تماسك الجروب وافقنا على تحمل صوت صاحبنا الأجش الذى يثير أكبر ثورة شك فى نفس أى دورية شرطة راكبة أو مترجلة . بعدها قفزنا مسرعين لاستكمال الرحلة حتى ظهرت السينما من بعيد تعلوها أفيشات باهتة ويتحلّق أسفلها بعض بائعى اللب والسودانى . أبرز ما لفت نظرى أن الأفيشات الأربعة المتجاورة لم يكن بينها أفيش ( المذنبون ) ، ولكن صديقنا ( أبو العُريف ) أفتى بأن ذلك لايعنى شيئا فى هذه الصالات التى تعتمد على المفاجآت على طريقة (جورج بوش ) فيما بعد فى الصدمة والترويع .
اخترنا أن نحجز( لوج)تحت وطأة تضخم شعورنا الطبقى ، ولا أعتقد بأى حال من الأحوال أن كل هذا الجيش قد دفع أكثر من عشرة جنيهات ، ولأن العرض مستمر ، فقد أخذنا نتخبط وسط الظلام الدامس يقودنا "بلاسير" قصير وله كرش ضخم ويشبه بصورة ملحوظة ممثلا تيفزيونيا قديما راحلا اسمه ( مصطفى الكواوى ). المدهش فعلا أن الرجل لم يتوقف من إلقاء التعليمات :" خش يمين ".. "إرفع رجلك " .."إفرد الكرسى وصللى ع النبى " .."إمسك ايدين اخوك " مع أنه لا يحمل معه إلا مشروع بطارية مرتعشة الضوء وعلى وشك النفاد . كان حتمياً أن نصطدم بالأقدام والأرجل ، والحقيقة أن ألفاظ جمهور اللوج لم تكن أفضل حالا - فيما أظن من جمهور الصالة ، بل إننا اكتشفنا أن حائطا واطئا يفصل بين الجمهورين بحيث يبدو الفصل الطبقى نظريا وافتراضيا . أما الشاشة فكانت تتراقص عليها خيالات باهتة فشلت فى تبين ملامحها ، وأفاد أقرب متفرج أننا نشاهد الآن فيلما (شديدا) بعنوان ( امرأة ورجل ) بطولة رشدى أباظة وناهد شريف ، والحقيقة أن شريط الصوت كان يصدر ( حشرجة ) تؤكد فعلا أن المشهد (شديد) حقاً ولكن الصورة غائبة ، أو فلنقل أن الخيال لابد أن يلعب دوره على أساس أننا فى ( دار الخيالة ) !
طبعا لا تسألنى عن الأفلام لأننى تقريبا لم أشاهد ولم اسمع شيئا ، ولكن فى منتصف العرض تقريبا ( لست متأكدا لأننى فقدت الإحساس بالزمن ) حدثت واقعة لا تنسى حيث انفجر هرج ومرج واختلطت الأصوات والصرخات ، واندفعت فى برهة من الزمن تحت ضغط المندفعين لأجد نفسى عابرا للحائط الواطئ وفى قلب الصالة ، وبنفس السرعة عدنا الى أماكننا وكأنك أعدت شريطا سينمائيا الى الوراء . من بعيد جاء صوت البلاسير عاتبا "معقولة ياافنديات تجروا كدة عشان واحد اتخانق فى الصالة ؟!" ،بل إن الأخ الكواوى سأل أحد زملائنا عن كُليّته ، فلما عرف أنه يدرس الحقوق ضرب كفا بكف مستغربا أن يصدر هذا التصرف الأرعن فى الجرى والقفز من شخص يدرس الحقوق . انفجرنا ساعتها فى ضحك هيستيرى لم يتوقف حتى بعد خروجنا سالمين ، وكان أفضل ما حدث لنا فى طريق العودة أن زميلنا بتاع ( ثورة الشك ) لم يجرؤ على أن يسمعنا قصيدته تحت التمثال العظيم وإلا أسمعناه - تحت ضغط القهر وخيبة الأمل - قصيدة " أيها الراقدون تحت التراب " !
ولكن ذكرى الذهاب لأول مرة الى مركز الثقافة السينمائية أفضل حالا بكثير وإن كانت قد بدأت ايضا من المدينة الجامعية بعد العشاء وفى ليلة شتاء باردة ! كنت عائدا الى حجرتى عندما قابلت صديقى الجميل وزميل الدفعة ( إبراهيم عيسى ) - وهو نفسه رئيس تحرير جريدة (الدستور)حاليا. سألنى بصوته المميز وبعبارات تلغرافية تختصر المسافات : " فاضى نروح نشوف فيلم ؟!" رددت بسرعة وبنفس الحماس الإبراهيمى :" ولو مش فاضى ياراجل ..يللا بينا ". لم أسأل عن الفيلم أو المكان فقد كنت أعرف ولع إبراهيم -مثلى - بالسينما ، بل أتذكر أنه وقتها كان مشغولا بكتابة فيلم بطله ملاكم شاب ، ولا أعرف مصير هذا المشروع الآن . ركبنا أوتوبيسا مكتظا يصدر حشرجة لا تختلف كثيرا عن صوت سينما الدرجة الثالثة بالجيزة ، ورغم ذلك لم نشعر بالوقت لأننا فتحنا موضوع فيلم كنا منبهرين به عندما عرضه برنامج (نادى السينما ) فى تلك الفترة وهو فيلم ( فرانسيس ) الذى يحكى عن صعود وسقوط الممثلة المغمورة ( فرانسيس فارمر ) . كنا مبهورين بالطريقة التى لعبت بها الرائعة ( جيسكا لانج ) دور ( فرانسيس ) ، وبالطبع كنا مبهورين أكثر بجمالها الباذخ . وصلنا الى مركز الثقافة فى شارع شريف ، وكان أول ما لفتنى عند دخول الشقة الواسعة تلك الدواليب الضخمة(الى اليسار)والتى تراكمت فيها أعداد نشرة نادى السينما العظيمة . كان متاحا أن تأخذ منها ما تشاء ، وهو ما فعلناه دون تردد . داخل قاعة العرض الصغيرة جلسنا فى الصف الأخير لنشاهد فيلما عراقيا روائيا طويلا اسمه ( المنفذون ) يتناول بشكل ركيك تنفيذ عملية عسكرية عراقية داخل الأراضى الإيرانية ! لم نستطع الصمود إلا لدقائق هربنا بعدها من القاعة . عند الخروج شاهدت الناقد الكبير الراحل سامى السلامونى يدخل الى المركز بصحبة المخرج الكبير الراحل كمال الشيخ . عدنا بالأوتوبيس المهتز ، وأظن أننا فتحنا هذه المرة حواراً عن أحد أفلامنا المفضلة وهو رائعة (كل هذا الجاز ) . الشئ المؤكد أننى عدت بعد ذلك الى مركز الثقافة السينمائية وشاهدت أفلامه وشاركت فى ندوتى الأحد والأربعاء . وفى كل مرة أتمثل شابين لايتوقفان عن الحديث عن ( جيسيكا ) الجميلة وعن ( بوب فوس ) ساحر السينما .

السبت، 22 مايو 2010






الجمعة، 21 مايو 2010

( لولا الحماس الذى أكتب به عن الأفلام التى أراها مختلفة ما كتبت شيئا عن السينما ، فلا يروقنى أبدا دور حفار القبور للأفلام الرديئة وما أكثرها ، ولكن يروقنى جدا أن أكون عرابا للأفلام الجميلة . وفى سبيل الأمل بوجود فيلم رائع أو متميز أبدو مستعدا لاحتمال عشرين فيلما رديئا - أكثر أو أقل حسب القدرة على التحمل ! وهذا المقال عن فيلم ( العطر - قصة قاتل ) نشر لى ضمن ملف خاص أعددته بعنوان نساء على الشاشة البيضاء يوم الأحد 15 يوليو ( تموز ) فى العام 2007 فى مجلة ( أكتوبر ) القاهرية، ويمثل المقال لحظة حماس لفيلم أحببته مأخوذ عن رواية عشقتها )امرأة فى زجاجة من العطر ! محمود عبد الشكور
(1)أنا اللى بالأمر المحال اغتوى

شفت القمرنطيت لفوق فى الهوا
طلته ما طلتوش أيه أنا يهمنى
وليه .. ما دام بالنشوة قلبى ارتوى
عجبى !
" صلاح جاهين "
(2)
تذكرت هذه الرباعية البديعة للراحل الكبير " صلاح جاهين " مرتين : الأولى عندما قرأت الرواية الإستثنائية ( العطر - قصة قاتل ) للروائى المتميز ( باتريك زوسكيند ) ، والتى جعلته أديبا عالميا بعد طباعتها بأكثر من عشرين لغة ، والمرة الثانية عندما شاهدتها فى فيلم جديد عرضم}خرا بذات العنوان ( العطر - قصة قاتل ) للمخرج الألمانى ( توم تيكفر ) ، وقد حقق الفيلم نجاحا مستحقا ، وحصد أرباحا لشركة " كونستانتين " البافارية للإنتاج السينمائى تقدر بحوالى خمسين مليون يورو .







الرواية والفيلم حدثان مهمان مهما اختلفت حولهما الآراء والتعليقات ، وبطلهما شاب خرج من الواقع القاسى ليحلم بالأمرالمحال - على حد وصف جاهين - وليحققه أيضا ، ثم ليدفع فى النهاية الثمن من روحه وجسده بعد أن ارتوى قلبه بالنشوة الأبدية ، وهكذا أصبح " جان باتيست جرنوى" - وهذا هو اسمه رمزا للإنسان الذى يبحث عن المطلق ، ويسعى وراء فكرة ، ويهب نفسه لتحقيقها مهما كانت العواقب ، وكان حلم " جرنوى "أن يصبح أعظم صانع للعطور فى العالم بعد أن وهبه الله أنفا استثنائيا يشم ادق الروائح فيعيد تحليلها وتركيبها وكأنه مصنع للعطور ، وبعد أن تيقن أن العطر هو روح الأشياء استحوذت عليه فكرة أن يختزل الإنسان فى قارورة عطر ، وبدأ فى سبيل تحقيق هذا الأمر المحال سلسلة من جرائم قتل فيها 25 فتاة ليحصل على رائحة أجسادهن ، وليحاول أن يحتفظ بهذه الرائحة الى الأبد .







فكرة الرواية - والفيلم تقريبا يحافظ على معظم أحداثها - مذهلة فى بساطتها وتعقيدها فى آن واحد ، فالإنسان قد يكون كلمة أو موقف كما يقول الوجوديون ، أو قد يكون بصمة كما يراه خبراء الجريمة ، وكان الموسيقار " محمد عبد الوهاب " يقول عن نفسه " أنا مجرد اذن كبيرة " ، ولكن أن يصبح الإنسان رائحة فهو امر مثير يفتح آفاقا واسعة للتأويل والتفسير ، والقول بأن العطر هو روح الأشياء يكاد يدفعنا دفعا للربط بين ( الروح ) أو "ما به حياة الأجساد " - كما يعرفها المعجم الوجيز ، وبين الرائحة " وتعنى النسيم طيبا أو نتنا وفقا لذات المعجم " ، وما اشبه العطرتحديدا " وهو الرائحة الجميلة " بالروح : كلاهما يبعثان الحياة ، وكلاهما يتبخران سريعا فيفسحان المجال للموت .





النجاح المدوى للرواية التى طبعت لأول مرة عام 1985 ، واعتبرها الكثيرون من علامات الرواية فى القرن العشرين ، يرجع فى رأييى الى أنها تتعامل مع حلم الإنسان بالمحال ، وتترجم أفكارا فلسفية عميقة من خلال حدوتة شائقة لا يمكن أن تتركها دون أن تعرف نهايتها ، ومثل كل الأعمال العظيمة هناك مستويات مختلفة لهذا العمل الإبداعى : المستوى الواقعى الذى ينقلنا الى القرن الثامن عشر بكل تفاصيله وحروبه ومشاكله ( المؤلف درس التاريخ بجامعة ميونيخ لمدة ست سنوات ) ، ثم الدراسة الدقيقة لعالم صناعة العطور ووسائل استخراجها ، وهناك أيضا المستوى النفسى حيث ترسم الرواية - والفيلم كما سنرى -حالة من الهوس لدى انسان مهمش ومنبوذ من المجتمع يدفع حياته ثمنا للبحث عن الإعتراف والحب ، وهناك ثالثا المستوى الأسطورى حيث تبدو الرواية بأكملها وكأنها صياغة حديثة لأسطورة برومثيوس الإغريقية : ذلك الفتى الجسور الذىسرق النار ( رمز النور والمعرفة ) من أجل البشر ، فغضبت عليه الآلهة ، وانتقمت منه بتسليط جوارح الطير عليه لتنهش كبده ، ثم تعيد الآلهة خلقها من جديد ، ويستمر النهش والخلق فى سلسلة جهنمية لا تنتهى من العقاب ، وسنرى فى الرواية أن "جرنوى "يسرق الجمال ويضعه فى زجاجة عطر ، ثم يأكله البشر حرفيا فى نهاية الأحداث ،ويقول " زوسكيند " فى روايته (ترجمة نبيل الحفار -دارالمدى ) : لقد أنجز - يقصد " جرنوى " - الفعل البروميثيوسى ، الشرارة الإلهية ، هذه الشرارة التى لم يحققها لنفسه إلا بعناده ومكره الدائمين وبمهارته ، هذه الشرارة التى يحصل عليها الآخرون مجانا منذ ولادتهم ، واتى حجبت عنه من دونهم جميعا ، لقد حقق أكثر من هذا !، إنه هو الذى زرع هذه الشرارة فى نفسه بنفسه ، فهو إذن أعظم من " برومثيوس " !





برو مثيوس سارق ، وجرنوى قاتل ، فالرواية والفيلم يتعاملان معه تماما مثل الشخص الذى قطف زهرة فقتلها طلبا لروحها ولرائحتها ، أو كأنه كيميائى عصرى يستخدم أعقد العمليات لكى يعيد الإنسان الى جوهره الإلهى النبيل ، لكى يحول قطعة الطين الى أثير أو ( أسنس ) وهو تعبير مزدوج لجوهر الأشياء ولأصل العطر المركز . بكل هذه المعانى نحن أمام رواية صعبة ، لها مظهر حواديتى بسيط وشائق، ومخبر فلسفى عميق ، والعنصران يمتزجان بصورة معقدة على صفحات الرواية المكتوبة ، وأىّ خلل فى المقادير ( على اعتبار أننا نتحدث عن صناعة العطور ) كفيل بتحويل رواية من الوزن الثقيل الى فيلم تشويقى ساذج عن شاب يقتل الجميلات .





(3)





من أجل ذلك قال مخرجون كبار مثل " مارتن سكورسيزى " إن العطر رواية رائعة ولكن من المستحيل تحويلها الى فيلم سينمائى، وكان منطقهم مقبولا بالنظر الى صعوبة نقل المعانى الفلسفية بالإضافة الى أن محور الرواية هوحاسة الشم التى يستحيل للصورة أن تنقلها للمشاهد ، كما أن هناك فقرات شاعرية فى الرواية تجسد العالم الداخلى لبطلها ، وكأنها تعبر عن حياته الروحية مثل هذه الفقرة الوصفية ص 148 : " كان قلبه قصرا أرجوانيا فى صحراء صخرية ، متداريا وراء كثبان ومحاطا بواحة مستنقعية ، خلف سبعة جدارات حجرية ، وما كان ممكنا الوصول إليه إلا جوا. كان يشتمل على ألف حجرة وألف قبو وألف صالون فاخر بالإضافة الى كنبة أرجوانية يضطجع عليها " جرنوى " الذى لم يعد الآن ذاك " جرنوى " العظيم ." هنا - كما فى فقرات أخرى كثيرة - رحلة داخل الروح من الصعب أن تجد السينما لها معادلا بصريا بنفس تأثير الكلمات ، ولا شك ان الكلمة المكتوبة تطلق الخيال فى حين أن الصورة تقيده .



ولكن المخرج " توم تيكفر " - الذى بهرنا من قبل بفيلم ( إجر لولا ..إجر ) تصدى للمهمة المستحيلة وكأنه اغتوى - على حد تعبير " صلاح جاهين " برواية العطر ، وقد ترجم إعجابه بالرواية فى صورة المحافظة تقريبا على معظم أحداثها إلا ما احتاجه التكثيف والإيجاز الدرامى ، كما أنه أراد أن ينقل التعبير عن الجوانب النفسية للأشخاص ( وخاصة جرنوى بالطبع )، فاستخدم صوت الراوى بأداء الممثل الكبير " جون هارت "، وحاول باستخدام قطعات المونتاج أن بترجم بصريا بالصورة واللون انتقال الرائحة من أنف الى أخرى ، وابتعد قدر الإمكان عن أصعب فصول الكتاب ، وهو الجزء الثانى من ص133 الى ص 185 رغم أهميته البالغة فى ترجمة الرحلة الروحيةل " جرنوى " وصولا الى قراره بأن يهيمن على الروائح ليسيطر على قلوب البشر( ص 178 )ثم نجاحه فى ذلك بعد إقامته مع المركيز دولا تيلاد- إسبيناز ، وهى شخصية لا أثر لها فى الفيلم ، ويبدو أن المخرج حاول المحافظة على إيقاع فيلمه ومظهره التشويقى حيث تنتهى الأحداث نهاية مفاجئة بالفعل لمن لم يقرأ الرواية ، والواقع أن من لم يقرأ الرواية قبل مشاهدة الفيلم سيشعر بمتعة أكبر مقارنة بمن قرأها ثم شاهد الفيلم ، ولكن " توم تيكفر " نجح فى رأيى فى أن يثبت إمكانية تحويل العطر الى فيلم جيد ، بل إن من لم تتح المقارنة بين الفيلم والرواية المأخوذ عنها قد يرى فى الفيلم عملا رائعا وأصيلا .



بعض النقاد قد يرون فى التزام السيناريو السينمائى بأحداث الأصل الروائى عيبا خطيرا ، والرأى عندى أن الإلتزام بالأصل الى درجة النقل ، أوعدم الإلتزلم كليا ليس خيرا ولا شرا فى ذاته ، إنما ينبغى القياس الىمدى نجاح السيناريو فى ترجمة الأصل الأدبى الى لغة سينمائية مما يجعل المشهد المكتوب فى الرواية كأنه كتب للسينما ، وبهذا المعيار فإن فيلم العطر قد نجح بامتياز فى جعلنا نشعر بذلك ( قارن بين مشهد تنفيذ الحكم فى جرنوى بين الفيلم والرواية ) ، ويغيب عن النقاد عادة أنه ليس كل مشاهد للفيلم سيذهب لشراء الرواية وقراءتها للبحث والفحص ، فإذا أتقنت السينما تجسيد العالم الروائى أو المسرحى على الشاشة تكون تكون قد أسدت معروفا عظيما للذين لا يقرءون ، وهذا ما حدث بالفعل فى الأعمال السينمائىة التى نقلت بأمانة أعمال تولستوى أو شيكسبير ,صحيح أن الإبتكار والرؤية الخاصة لهذه الأعمال أمر رائع ولكن النقل الأمين لها ليس شيئا هينا ، والمشاهد - فيما أظن -فى حاجة للنوعين معا .



(4)






سيناريوفيلم العطر جيد وناجح فى التعبير عن عالم الرواية التى أخذ عنها وإن لم يستطع بالطبع أن يترجم كل أبعادها الفلسفية ، وفى المقابل نجح الفيلم فى تشويق المتفرج ، والسيطرة على اهتمامه حتى المشهد الأخير ، وبدا صوت الراوى أحيانا و كأنه صياغة حديثة للكورس فى الدراما الإغريقية الذى كان يتولى مهمة الشرح والتفسير والإختزال والتعليق على الأحداث .





بداية الفيلم ذاتها جديرة بعمل تشويقى متميز حيث نبدأ من حيث انتهت الرواية : المتهم الشاب " جرنوى" فى الظلام داخل زنزانته. يضاء وجهه تدريجيا فيبرز أنفه فى مقدمة الكادر . يقتادونه أمام الجماهير الغاضبة . يقرأ أحدهم منطوق الحكم عليه: " يوضع على الصليب ورأسه الى السماء . يضرب 12 ضربة تهشم مفاصل يديه وقدميه ".


الكاميرا تقترب من أنفه ليملأ الشاشة ثم تدخل دهاليزها المظلمة ، وهنا ينزل عنوان الفيلم : (العطر) .. فى المشاهد التالية سيدخل صوت الراوى لينقل عبارات بأكملها من الرواية ، سيحدثنا عن " جرنوى " منذ مولده حيث سيظهر كشخص استثنائى يذكرنا على نحو ما بشخصية " أوسكار " فى رائعة الألمانى ( جونترجراس ) " الطبلة الصفيح " .ولد جرنوى فى أقذر مكان فى باريس .. أمه بائعة السمك القذرة وضعته فى قلب السوق .. كان مشهورا عنها التخلص من أطفالها أو تركهم للموت ، ولكن جرنوى صرخ ففضح محاولة أمه للتخلص منه ، وهكذا كان أيضا سببا فى محاكمتها وشنقها . فى انتقالات سريعة يذهب الوليد الى ملجأ لليتامى . الأطفال يحاولون قتله ولكنهم يفشلون . فى سن الخامسة يبدو عاجزا عن الكلام ، ولكنه يكتشف فجأة قدرات أنفه الخارقة ، هنا تبرع الكاميرا وقطعات المونتير فى نقلنا الى كل الروائح التى يشمها : التفاح العطن .. الماء البارد ..الحجر الصلد ..الفأر الميت !


يباع جرنوى الى صاحب مدبغة للجلود بشع الوجه يدعى جريمال . بعد سنوات من العمل معه يتاح ل"جرنوى " أن يصطحب سيدة الى المدينة ، وهنا يبدأ فاصل جديد من السياحة البصرية بالكاميرا الذكية التى تترجم انبهار جرنوى ، أو بمعنى أدق انبهار انفه بما تشمه من روائح . يقوده أنفه الى نت صانع عطر شهير يدعى بليسييه ابتكر عطرا أطلق عليه اسم (الحب والروح ). انف جرنوى يحتفظ برائحة العطر ويطارد فتاة رائعة الجمال .. يحاول أن يتشممها .. تصاب بالفزع .. يحاول أن يكتم صوتها . يكتشف أنها ماتت دون قصد .. يبدو حزينا ونادما .. يمزق ملا بسها محاولا الإحتفاظ برائحتها . عندما يعود الى سيده يعاقبه بالضرب ، ولكنه فى نفس الليلة يكتشف أنه جاء الى الحياة من أجل شئ واحد فقط هو أن يحتفظ بالرائحة الى الأبد .


يبدأ فصل جديد من الأحداث بظهور شخصية " بالدينى " بأداء النجم الأمريكى " داستين هوفمان ". إنه صانع عطور كسدت بضاعته بعد أن اكتسح عطر ( الحب والروح ) السوق بأكمله ، وفى مشهد بديع يحاول أن يستخدم منديله فى التعرف على مكونات هذا العطر " هل هو مصنوع من زهر الليمون والقرنفل والقرفة ؟!" . فوتو مونتاج وأداء متمكن وتعبيرلا ينسى على وجه هوفمان يساهم فى تكثيف اللحظة . نعرف أيضا انه يحاول أن يصنع عطرا لأحد النبلاء يتجاوز عطر " بليسييه ".


جرنوى يطرق باب بالدينى حملا جلود مدبوغة أرسلها إليه جريمال .. يتشمم معمل العطور بكل قواريره الزجاجية .. يندهش بالدينى عندما ينجح جرنوى فى التعرف على رائحة ( الحب والروح ) داخل ملابسه ، ثم يذهله بعرض تقديم مكونات هذا العطر واحدة تلو الأخرى ، بل ويقترح على بالدينى أن يصنع له عطرا أفضل .

هذا المشهد المنصل يكثف صفحات عديدة من الرواية ، كما ينجح المخرج فى تجسيد التأثير الساحر للعطر الذى ابتكره جرنوى يدويا على بالدينى حيث ينتقل صانع العطور الى عالم آخر رائع بالألوان ، ويتلقى قبلة يترجم القدير هوفمان نشوتها بإغماض عينيه . يشترى بالدينى " جرنوى " لكى يعمل لديه ، ويحاول أن يعطيه خبرته ويأخذ منه قدرته على تمييز الروائح وتحليلها . جرنوى يقول له إنه يمتلك أفضل أنف فى فرنسا. نتابع جهودهما لاستخراج قدر ضئيل من العطر من 10 آلاف زهرة حمراء . ينبهر جرنوى بفكرة الإحتفاظ بالرائحة كما حدث فى العطور التى انبعثت من مقابر قدماء المصريين . فى مرحلة تالية يعمل جرنوى بقوة ولكنه لايحصل على شئ . يشعر باليأس فصيبه المرض .يعاجه بالدينى وينصحه بالسفر الى( جراس ) حيث يستخدم أسلوب نقع الزهور بدلاً من تقطيرها .

يمر الفيلم سريعا على رحلة جرنوى الى جراس التى ستستغرق فى الرواية سبع سنوات، وإن كنا سنتوقف عند تجربته الروحية داخل الكهف ، والتى سيكتشف جرنوى من خلالها أنه قادر على شم كل الروائح إلا رائحة جسده ، وكأنه يفقد نفسه تدريجيا فى سبيل تقطير الإنسان والجمال واختزاله فى زجاجة عطر . المخرج ومدير التصوير يقدمان هنا مشاهد باذخة الجمال للحقول والزهور فى الطريق الى جراس حيث سيعمل جرنوى فى أحد معامل العطور ، وهناك سيتعرف على طريقة استخدام الدهن الحيوانى لامتصاص العطر من الزهور فتموت كأنها تنام . هكذا يقولون له ، وهكذا سيحاول أن ينقل نفس الفكرة من الزهور الى النساء .

لن يتوقف جرنوى عن الشم . تبهره رائحة حسناء تدعى لورا تعيش مع والدها النبيل أنطوان ريتشى . تبدأ تجاربه بقتل إحدى الفلاحات ووضعها فى إناء زجاجى ضخم يستخدم لاستخلاص الرائحة من الزهور ، تتوالى الضحايا لتصل الى 24 امرأة يضربهن على الرأس بعصا غليظة .. يحلق شعورهن .. ويغطى أجسادهن بدهون الحيوانات لاستخلاص الرائحة .. لا يغتصبهن ولا يشوه أجسادهن .
النبيل ريتشى يهر ب بابنته الى قلعة بعيدة . جرنوى يستخدم أنفه فى متابعتهم رغم تنكر لورا فى زى فارس . يقتحم حجرتها ويقتلها بذات الطريقة . تكشف الشرطة بقايا شعور وملابس ضحاياه فى المكان الذى يعمل فيه . يقبض عليه ويعذب . يسأله انطوان : " لماذا قتلت ابنتى ؟" يرد "جرنوى ":" لأنى كنت أحتاج إليها ".
نعود الى مشهد البداية :جرنوى فى السجن يمسك فى يده زجاجة عطر . الحراس يضربونه ويقتادونه الى ساحة تنفيذ الحكم . الآلاف يجتمعون فى الساحة : فلاحون وفلاحات ورجال دين ونبلاء ، وصليب ضخم يتوسط الساحة أمامه جلاد عملاق يمسك بعصا غليظة . ينزل جرنوى مرتديا حلة زرقاء أنيقة ، يبدو أنه وضع العطر فى ملابسه ، يفسحون له الطريق بانبهار . يتقدم الى الصليب فيجثو الجلاد بين يديه . يصرخ فى نشوة : " إنه برئ .. برئ ".جرنوى يحمل منديله المضمخ بالعطر ويحركه أمام الجموع التى تتمايل بنشوة لا يمكن السيطرة عليها . تحريك رائع للمجاميع وكأننا نشاهدمسرحية طقسية . فجأة يبدأ الجميع فى ممارسة جماعية للحب دون أى تفكير . مشهد يذكرنابمشهد مماثل فى فيلم أنطونيونى المعروف ( نقطة زابريسكى ). الراوى يحدثنا عن براءة جرنوى وإلصاق التهمة برئيسه فى معمل العطور ، ويحدثنا عن احتفاظ جرنوى -سارق الجمال - بزجاجة تجعله محبوبا فى كل مكان يذهب اليه ، ولكنه يختار الذهاب الى سوق السمك حيث ولد . هناك سيهاجمه المشردون القذرون ، وسيلتفون حوله ليمزقونه فى شهوانية وشبق . فى الصباح لن يتبقى منه سوي ملابسه يتخاطفها الأطفال . تهبط الكاميرا الى الأرض لتملأ الكادر زجاجة عطر فارغة .
الى درجة كبيرة ينجح فيلم العطر فى تجسيد عالم الرواية حيث مأساة شاب خرج من قلب القبح والرائحة النتنة ليصنع أعظم العطور . أليس هذا هو الإنسان حرفيا الذى خرج من ماء مهين لكى يصنع الجمال ويتذوقه ؟ كل العناصر الفنية فى الفيلم على مستوى رفيع : الإضاءة مثلا على وجه جرنوى تقسمه الى قسمين مضئ ومظلم ترجمة لتنازع الخير والشر لروحه ، والمونتاج الخلاق يحافظ على إيقاع متدفق وشائق ، كما أن مشاهد الفوتومونتاج تكثف الأحداث ببراعة وتنقلنا بسلاسة بين ازمنة وأمكنة متعددةاستخدام المخرج البارع للقطات المقربة ( الكلوز أب )كان متميزا ومؤثرا خاصة فى تركبزه على العيون والأجساد والأنوف كما جاء توظيفه لإمكانيات الكمبيوتر جيدا للإيحاء بسرعة حركة الكاميرا ( مشهد هروب لورا ووالدها الى القلعة ) بالإضافة الى براعة استخدام الألوان ودرجات الإضاءة بين الأقبية المظلمة والحقول المفتوحة .
أما أداء الممثلين فقد كان رائعا بشكل عام خاصة الممثل الإ نجليزى ( بن ويتشاون ) فى دور جرنوى الصعب الذى يعتمد على الأحاسيس الداخلية المتناقضة والتى يجب أن يترجمها الوجه ، وقد وصلت براعة هذا الممثل الذى ظهر بجسد هزيل الى درجة التمثيل بأنفه ، بمعنى أنه نجح فى أن ينقل إلينا نشوته المطلقة بالروائح التى يتشممها فى كل مكان . بالطبع لاجديد فى الحديث عن أداء داستين هوفمان الذى منح شخصية بالدينى حيوية فائقة فى حين لم تمثل الأدوار النسائية سوى جمالا باذخا ولافتا يثير النشوة الروحية ، وهذا بالضبط ما حققته جميلات الفيلم !

الخميس، 20 مايو 2010






الأربعاء، 19 مايو 2010

(أفضل دفاع عن الأفلام هى الأفلام نفسها . لا الجوائز ولا شباك التذاكر ولاحتى كلمات الثناء تستطيع أن ترفع من مستوى فيلم عادى أو متوسط . وقد جاء فيلم ( المليونير المتشرد ) مدعوما باكتساحه لجوائز الأوسكار ، ولكن عندما دخلت الى صالة العرض لم يستطع الفيلم أن يدافع عن نفسه ، ولا أن يبرر هذا التقدير المبالغ فيه ، وقد كتبت تعبيرا عن ذلك فى هذا المقال الذى نشرته فى روز اليوسف اليومية فى عدد الأول من مارس عام 2009 . )
" المليونير المتشرد " .. ميلودراما ساذجة هندية فى علبة" قطيفة" إنجليزية !
محمود عبد الشكور
لست من هواة العبارات الإنشائية ، وأجتهد قدرالمستطاع أن يكون الحديث عن الأفلام التى أكتب عنها محددا بكلمات لاتتحمل معايير مزدوجة ، ولكنى لم أجد عنوانا أفضل من عنوان هذا المقال لتلخيص الرأى فى فيلم (slumdog millionaire ) أو ( المليونير المتشرد )الذى اكتسح جوائز الأوسكار فى دورتها الحادية والثمانين حيث حصل على 8 جوائز دفعة واحدة ، وكانت المفاجأة أنه انتزعأهم الجوائز ، فقد اختاره اعضاءأكاديمية فنون وعلوم السينما الأمريكية ليفوز بألقاب : أحسن فيلم ، وأحسن مخرج ، وأحسن تصوير ، وأحسن مونتاج ،وأحسن مكساج ،وأحسن سيناريو مقتبس ، وأحسن موسيقى تصويرية ، وأحسن أغنية ، بل تستطيع القول أن هناك حمى عالمية فى الإنبهار بهذا المليونير المتشرد بدأت من جوائز الكرة الذهبية وجوائز " البافتا " البريطانية ثم جوائز الأوسكار الأكثر شهرة وأهمية . ومع احترامنا لأعضاء الأكاديمية ، ولكل الذين يقيمون الأفلام فى كل مسابقات الأفلام ، فإن ذلك لا يعنى أن نقول لهم "آمين ، وأفضل دفاع عن الأفلام هى الأفلام نفسها لا كلمات النقاد ولا عائدات شباك التذاكر ولا حتى الجوائز التى تحصل عليها ، والمؤسف حقا أن فيلم ( المليونير المتشرد ) الذى تكلف 14 مليون دولار وأخرجه البريطانى " دانى بويل "لا يستحق كل هذا الإنبهار لأنه ليس فيلما عظيما بأى حال من الأحوال ، ولا يطاول لا شكلا ولا مضمونا فيلما منافسا آخر هو " الحالة الغريبة لبنيامين بوتون " الذى يمكن أن تكتب عنه دراسة ضخمة .
فى ( المليونير المتشرد) عناصر جيدة ومتميزة فعلا خاصة السيناريو والمونتاج ، ولكن فيه أشياء شديدة السذاجة على طريقة السينما التجارية الهندية ، حيث ميلودراما المصادفات ، وحيث لاتبرير من أى نوع لكثير من الأحداث والتحولات ، بل إن المخرج يحتفظ بكثير من مفردات مخرجى هذه الأفلام من حيث استخدام زوايا الكاميرا المنخفضة ، واستخدام الكادرات المائلة تعبيرا عن الإنحراف وسيطرة الأشرار ، وتقسيم الكادر بين نصف وجه الإنسان مكبرا وعناصر أخرى فى العمق ، كما يحتفظ المخرج بأغنية واستعرض راقص فى نهاية الفيلم يؤديه الأبطال مع المجاميع ،وهناك أيضا أداء ركيك من معظم ممثلى الفيلم باستثناء الأطفال ، والممثل الذى قام بدور مقدم البرنامج .


يعنى ببساطة أنت أمام فيلم هندى ملفوف فى قطعة من القطيفة الإنجليزية البراقة ، وتفسير هذه الكلمات الإنشائية بعبارت محددة أن المظهر خادع ومركب واكثر إتقانا مما هو معتاد فى الأفلام التجارية الهندية ، ولكن المضمون ساذج وتقليدى . قد يرى البعض ان إنجاز مخرج الممليونير المتشرد الأكبر فى استيحاء عناصر الفيلم التجارى الهندى لإنجاز فيلم فنى يحصد أهم الجوائز ، ولكن الأمر لم يكن مجرد استيحاء شكلى ولكنه انتهى الى درحة التأثر الشامل لدرجة تجعلك تعتقد أن العمل مجرد فيلم هندى بعيون مخرج إنجليزى مندهش من هذا العالم الشرقى الغريب ، وأرجو ألا تنخدع فى التلاعب بالزمن وفى السرد وفى براعة التصوير فى شوارع " بومباى " الخلفية ، كلها عناصر إحترافية مهمة تشكل معنى تعبير القطيفة الإنجليزية ، ولكن هذه العناصر ليست معلقة فى الفراغ حيث يفترض أن تكون فى خدمة دراما تديرها شخصيات يمكن تصديقها . هنا تحديدا لا يمكن الدفاع عن الفيلم . قد تكون هناك سيطرة من المخرج على بعض المشاهد التى تحتمل المباغة والإنفعال العنيف ، وقد يكون هناك نوع من الإبهار الأسلوبى أو السردى ، ولكنه يفشل فى النهاية فى إقناعك بتصديق ما تشاهده ، والأغرب أن الفيلم الذى بدأ بطريقة أوربية تماما تحاول البحث عن اسباب تفوق شاب فى الإجابة عن اسئلة برنامج من سيربح المليون سينتهى بطريقة هندية تماما ، حيث كل شئ مصنوع وحيث النهايت حتمية لأن المخرج عايز كدة ، وحيث لا معنى للسؤال لأن كل شئ مكتوب " واللى انكتب ع الجبين لازم تشوفه العين ".


أقول بوضوح أن مخاولة المزج بين رؤية إنجليزية وعناصر مستمدة من تقاليد الفيلم التجارى الهندى لم تنجح ، فلا أنت لديك منطق الفيلم الهندى ، ولا انت لديك كلاسيكية ومنطقية وتماسك البناء فى الفيلم البريطانى ، والتناقض صارخ أيضا بين برنامج تليفزيونو شهير يفترض أن هناك جوابا كل سؤال وبين فيلم لايجيب عن كثير من الأسئلة بحجة المقدر والمكتوب ، والتناقض فج كذلك بين حدوتة ساذجة تستطيع السينما التجارية الهندية أن تقدمها بصورة أكثر إمتاعا وتأثيرا فى زمن ثلاث ساعات ، وبين بناء سردى يدعى التعقيد ليقول فى النهاية ما يمكن قوله ببساطة ، يعنى حاجة كدة مثل الشاعر الذى أراد أن يقول أننا كنا نجلس فى مكان وسط الماء فقال هذا البيت العجيب : كأننا والماء من حولنا قوم جلوس حولهم ماء ؟! والأكثر من ذلك أن محاولة استيحاء عناصر الفيلم الهندى التقليدى فى فيلم أوربى ليست جديدة فقد شاهدنا فى مهرجان القاهرة الأخير فيلما سويسريا يستوحى هذه العناصر بما فيها الأغنيات والإستعراضات الراقصة ، ولكن هذا الفيلم الذى فاز بإحدى جوائز المهرجان كان خفيفا وأقرب الى الكوميديا ، كما كان فى بساطته أقرب الى روح الأفلام الهندية الطويلة ، وكان أيضا أقل ادعاء من المليونير المتشرد .


إجابات وذكريات


ومن المقدمة التى طالت قليلا الى التفاصيل ، هناك مجهود لاشك فى كتابة المليونير المتشرد المأخوذ عن رواية كتبها الهندى فيكاس سوارب عنوانها ( س وج )، وشارك سوارب فى كتابة السيناريو " سايمون بيفوى " ، بالطبع لم أقرأ الرواية ولكن من الواضح أن السرد باستخدام تكنيك العودة الى الماضى كان يستهدف إختزال الزمن وتكثيفه ، والإبتعاد قدر الإمكان عن الأزمنة الدرامية الضعيفة ، والأهم من ذلك الربط بين حياة بطل الفيلم ( جمال مالك )الذى لعبه ( ديف باتيل ) وبين إجاباته عن الأسئلة التى يرد عليها فى برنامج ( من سيربح المليون )فى نسخته الهندية ، وهناك ثلاثة أزمنة وفقا لهذا البناء المركب : الزمن الحاضر حيث يتعرض جمال للتعذيب على أيدى رجال الشرطة الهندية لإجباره على الإعتراف بأنه قد غش وتحايل فى الإجابة التى قربته من الفوز بعشرين مليون روبية ، والزمن الثانى هو الماضى القريب حيث يقطع المونتير المحترف بذكاء كبير الى إجابات جمال فى البرنامج ، والزمن الثالث هو الماضى البعيد حيث يتم الربط بين أسئلة جمال عن إجابات المحقق تارة ، وإجابات عن أسئلة مقدم البرنامج تارة أخرى ، وبين أحداث قديمة تتعلق بحياته كمتشرد فى بومباى مع شقيقه سليم ، وعلاقتهما بفتاة متشردة ثالثة هى " لاتيكا"التى لعبتها ( فريدا بنيتو )، وتتداخل هذه الأزمنة معا حتى نعود فى النهاية الى الزمن الحاضر ببراءة جمال بعد التحقيق معه ، وعودته الى البرنامج ليفوز بجائزة العشرين مليون روبية . ألم أقل إننا أمام قطعة قطيفة إنجليزى معتبرة ؟!


لا يكتفى السيناريو المركب بذلك ، ولكن يحاول أن يجعل من الفيلم وموضوعه سؤالا كبيرا إجابته من عدة أختيارات حيث يظهر على الشاشة سؤال عن أسباب تفوق جمال فى إجات ابة الأسئلة ، ومن الإختيارات كلمات محددة مثل : " بسبب الغش " أو " بسبب المكتوب".. إلخ . هنا بداية تليق بفيلم أوروبى يحاول أن يربط كل شئ بمسبباته، وحتى فكرة القدر والمكتوب - وهى فى صميم الدراما الإغريقية - لا تترك هكذا فى الأعمال الأوربية القديمة والحديثة بل تتم منطقتها لدرجة أنك فى عمل فذ مثل إلياذة هوميروس يتحدد مصير معركة طروادة وفق صراع على الأرض يخوضه البشر ، وصراع فى السماء تخوضه آلهة الأوليمب ، كل شئ إذن يجب تفسيره دراميا حتى الأمور الغيبية ، وليس هذا هو الحال فى الأعمال العظيمة المقبلة من الشرق مثل " ألف ليلة وليلة " والأساطير الشرقية عموما التى تصنع عالما يكاد يكون من وراء العقل ، ولذلك سنجد أن كاتبى السيناريو وقعا فى مازق واضح: فالشكل يقوم على البناء المنطقى المركب حيث توجد إجابة عن كل سؤال ، اما المضمون فهو حكاية تسيرها الأقدار والصدف ، ولذلك أيضا لم يكن غريبا أن يبدأالفيلم -بسبب هذا التناقض- بطفل عشوائى متشرد ، وينتهى بمليونير عشوائى يحصل على الحب والمال معا . كل شئ إذن عشوائى باستثناء السيناريو المركب !

لم يكن غريبا - وقد انفصل الشكل عن المضمون - أن يبدأ الفيلم واقعيا شديد الخشونة وهو يستعرض عملية تعذيب رجال الشرطة ل " جمال " بتعليقه وباستخدام الكهرباء ، وينتهى نهاية رومانسية شديدة السذاجة عندما يلتقى جمال مع حبيبته " لاتيكا "فى محطة القطار فى " بومباى" فى الساعة الخامسة . بدت المشاهد الأولى العنيفة كما لو انها منتزعة من فيلم واقعى عن عمليات تعذيب الشرطة للمتهمين فى حين بدا الشمهد الأخير والأغنية الإستعراضية الأخيرة بعد العناوين كما لو أنها منتزعة من فيلم هندى ، وستجد ايضا التنافر واضحا بين المشاهد شبه التسجيلية فى شوارع " جوهو" فى بومباى ، وهو المكان الذى عاش فيه جمال ، والمشاهد التمثيلية المفتعلة خاصة مع ظهور الأشرار على طريقة أفلام "أميتاب باتشان ". هناك دائما فى هذه الخلطة الأنجلو- هندية ما يبدو واقعيا من الممكن تصديقه ، ولكن ما أن تقترب من التصديق حتى يدهمك مشهد يذكرك بأنك تشاهد فيلما هنديا مسليا ، وهكذا لا يحقق المليونير المتشرد صدق وتأثير فيلم عن أطفال الشوارع مثل " سلام بومباى " ، ولا يحقق متعة أى فيلم هندى ملحمىتعرضه سينما درجة ثالثة لنسف الوقت فى أيام القاهرة الطويلة !

هناك أيضا ودائما مجال لثغرات درامية واضحة . ضابط البوليس مثلا الذى يقوم بتعذيب جمال بطريقة بشعة فى بداية الفيلم سيتحول فى النهاية الى الإقتناع ببراءته من تهمة الغش فى الإجابات مع أن جمال لم يقدم الكثير من التبريرات المنطقية لأن هناك إجابات " جاءت معه بالبركة " . الحكاية كلها لم تكن تستدعى التحقيق لأن المتسابق يمكن أن يعتمد على حظه كثيرا ، كما أن الإحتجاج بأن المتشد يمكن أن يكون غشاشا ليس مقنعا بدرجة كافية ، لأنه كان يمكن عدم قبول المتسابق من الأساس ، ولكن بدا بوضوح أن تحقيق البوليس مجرد حيلة درامية لسرد قصة حياة " جمال " وصرعه ضد الفقر والتشرد ، صحيح أن عملية الربط بين الإجابات ومشاهد العودة الى الماضى كانت جيدة بل وذكية فى أحيان كثيرة ، ولكناه كانت ساذجة ومفتعلة فى مناطق أخرى .

مأساة أسرية

ينتمى " جمال " وسليم " الى أسرة مسلمة . لن نعرف لهما والدا . الأم فقيرة ولن نعرف أيضا عنها الكثير مثل معظم الشخصيات . حياة الطفلين بائسة ، وظهورهما الأول يكون وهما يتعررضان لمطاردة الشرطة ، وتقوم الأم بحمايتهما وإدخالهما الى الفصل ليستعرض " جمال " قصة الفرسان الثلاثة ل" ألكسندر دوماس ". فى كثير من أجزاء رحلة الطفولة تقترب الصورة فى واقعيتها من صور الأفلام الإخبارية أو الوثائقية ، وهناك مساحات معتبرة للظلال وللون الأسود ، بل إن هناك مشهد ا شديد الفجاجة والخشونة عندما يخرج " جمال " مغطى بالفضلات البشرية لكى يحصل على توقيع نجمه المفضل أميتاب باتشان على صورته ، ويقوم شقيقه "سليم " ببيع الصورة لعامل آلة العرض فى دار سينما فقيرة .

هذه الحادثة ستكون سببا لتذكر " جمال "لاسم أحد افلام " أميتاب " فى البرنامج ، وسيكون هناك سؤال عن الأشياء التى تحملها الآلهة الهندوسية " راما " ، وبسبب ذلك سنعود الى الماضى لنشهد مذبحة ارتكبها الهندوس ضد " جمال " وغيره من المسلمين ، بالطبع لن تعرف شيئا عن سبب المذبحة ، ولكن الهدف منها أن تفسر هذه الحادثة سبب نجاح " جمال " فى معرفة سؤال الآلهة " راما "، كما أنها ستكون وراء تشرد " جمال " و" سليم " فى الشوارع ، واحترافهما التسول بعد أن احترقت الأم التى تلعب دورا محوريا فى الأفلام الهندية بالحضور أو بالغياب
يتواصل السرد مع مشاهد العودة الى الماضى ، فالشقيقان المتشردان يلتقيان مع المتشردة الصغيرة " لاتيكا "، ويعتقد " جمال " أن الطفلة التى أعجب بها من النظرة الأولى تستكمل فكرة الفرسان الثلاثة ، ويظهر لأول مرة الشرير الهندى الذى يغير حياة الأطفال ، اسمه " ماما " وهو رجل أنيق احترف اصطياد أطفال الشوارع لإعدادهم ليكونوا متسولين محترفين ، وفى مشهد خشن آخر نرى هذا الشرير وهو يأمر بإخراج عين أحد الأطفال حتى يصبح شحاذا على طريقة " زيطة " صانع العاهات فى ( زقاق المدق )، ولكن " سليم " ينجح فى إنقاذ نفسه وشقيقه من هذا المصير فى حين تبقى " لاتيكا " فى قبضة الشرير .
بالمصادفة ايضا - والمصادفات فى الفيلم كثيرة -سيكون هناك سؤال فى البنامج عن مؤلف أغنية هندية كان " جمال " يغنيها مع الأطفال وهم تحت سيطرة " ماما "، وسيكون هناك سؤال عن المسدس لنعود الى المضى ونشاهد سليم وقد كبر هو وجمال، ولكن الأخ الأكبر سليم يقتل "ماما " بالمسدس ، ويهرب من بيت الدعارة الذى تقيم فيه "لاكيتا "بعد محاولة لتحريرها من الأشرار الهنود ، وسنشاهد أيضا مشاهد من طفولة جمال وسليم وهما يسطحان فوق القطارات ويبيعان البالونات بداخلها ، وتلصصان من نوافذ القطار وهما معلقان فى الهواء على أشخاص يأكلون بشراهة فى الداخل . هذه لقطات قوية ومعبرة قدمت فى " فوتو مونتاج " شديد السلاسة وبمصاحبة موسيقى مؤثرة وسريعة ، وما أن تصدق الحكاية حتى يستعيد " جمال " حكاية فيها الكثير من الإستظراف عندما يقتحم مع شقيقه "تاج محل "، ويحصلان خلسة على أحذية السياح ليقوما ببيعها . الى هذا الحد يبدو المشهد مقبولا حيث بدت الأقدام الحافية فى مقدمة الكادر الذى يشغل " تاج محل " عمقه صورة رمزية تعبر عن الفيلم كله ، وتصلح كأفيش له ، ولكن المشهد يمتد الى مبالغة أقرب لمبالغات الأفلام الهندية عندما يقوم جمال بدور المرشد الشياحى ، ويزعم للزوار أن صاحبة المقبرة ماتت فى حادث سيارة !!
سيتأرجح السرد بين الذكاء والسذاجة ، وسيتأرجح إيقاع الفيلم صعودا وهبوطا ، وسينجح الربط بين الإجابات والذكريات ثم يتعثر ، وسيظهر شرير هندى جديد هو " جافيد " رجل العصابات وعدو " ماما"المأسوف على شبابه . سليم سينضم للعمل تحت رئاسة " جافيد "، وسيبتعد جمال الذى نراه عملا فى محل للإتصالات كل دوره أن يقدم المشاريب والطلبات أو ما يطلق عليه " شايللا"، وسنجد أن مقدم البرنامج يسخر فى البداية من مهنة جمال ، ولكنه الشاب الذى يحلم بالثروة ، والذى لم يتوقف عن متابعة " لاتيكا ". سينجح فى العثور على شقيقه الذى ينفذ كل أوامر "جافيد ". لابد أنك تسأل الآن عن " لاتيكا "؟ إنها الآن فى قصر الشرير الهندى حيث تعمل طباخة ، وكما لابد أن توقع سيتحول جمال الى غسل الصحون ليلتقى يها ، وسيطلب منها أن تقابله فى محطة قطارات بومباى التى يسافر عبرها الملايين فى الساعة الخامسة ، وعندما تصل إليه يطاردها الأشرار لاستردادها .
مع اقترابنا من النهاية تطغى تماما التأثيىرات التقليدية للأفلام الهندية التقليدية : جمال يقوم فجأة ودون مقدمات بتهريب لاتيكا من الأشرار فيدفع الثمن ، ولاتيكا تخرج لمتابعة عودة جمال الى البرنامج بعد إعلان براءته من تهمة الغش ، وعندما يطلب الإستعانة بصديق هو شقيقه سليم للإجابة عن سؤال العشرين مليون روبية ، ترد هى على الموبايل وتطمئنه أنها بخير ، ويجيب جمال عن الؤال عشوائيا فتكون الإجابة صحيحة ،وافرحى وزغردى ياشبه القارة الهندية ، وفى محطة بومباى التى تبدو فارغة مثل الأفلام الساذجة يلتقى الشتيتان فى الساعة الخامسة ، وتدخل فرق الرقص للإحتفال بهما مثل نهاية " خللى بالك من زوزو "لينتهى أحد أكثر الأفلام سطحية وسذاجة، ويكون التفسير الأخير لكل ذلك هو أنه قدر ومكتوب ، ولو قال صناع الفيلم أن المخرج والمؤلف عايزين كدة لكانوا أكثر صدقاً وذكاءً !