السبت، 3 يوليو 2010

(نشر هذا المقال فى 10 يناير2010 ، ويتضمن قراءة لفيلم التحريك ثلاثى الأبعاد (A christmas carol) أو كما عرض تجاريا فى مصر تحت اسم ( أغانى الكريسماس ).

(أغانى الكريسماس ) .. درس خصوصى للرأسمالية المتوحشة !

محمود عبد الشكور

ارتبطت الصور المجسمة عندى بكروت البوستال الثقيلة التى كنا نشتريها فى الطفولة ، والتى كانت تحتوى على مناظر للكعبة متعددة الأبعاد والزوايا ،اورغمذلك لم أتحمس فى بداية التسعينات لمشاهدة ما سمى وقتها بأفلام الهجوم على المتفرجين ، والتى كانت تستخدم لمشاهدتها نظارات خاصة ، فقد كنت وقتها محبطا من السينما عموما بسبب انهيار الفيلم المصرى ثنائى الأبعاد ، وحتى عندما تم الإعلان عن الفيلم ثلاثى الأبعاد ( أغانى الكريسماس ) ، وجدتنى أؤجل المشاهدة أكثر من مرة ، وحتى بعد أن قطعت التذكرة أخيرا متشجعا باسم " تشارلز ديكنز " صاحب القصة الأصلية ، وباسم " روبرت زيميكس " كاتبا للسيناريو ومخرجا ، حتى عندما فعلت ذلك لم أستطع أن أمنع نفسى من الدهشة لمنظر الجمهور كبارا وصغارا وهم يتجهون الى صالة العرض حاملين نظاراتهم السوداء ، وكأننا نتجه الى سرادق عزاء ، ولكن التجربة عموما كانت جيدة لجمال الفيلم القادم من مصنع ديزنى الممتع ، وأضافت التجربة ثلاثية الأبعاد مزيدا من المعايشة والإندماج مما يجعلها مطلوبة فى نوعيات محددة من الأفلام .

نظام العرض البصرى ثلاثى الأبعاد الذى يتطلب طريقة خاصة فى التصوير وفى شاشة العرض وفى النظارات التى نرى الصورة من خلالها لا يصلح مع كل الأفلام ، ولكنه يضيف فعلا للأفلام التى تعتمد على الخيال المحلق ، وعلى السياحة الممتعة فى الزمان والمكان مثل ( أغانى الكريسماس ) . القصة التى كتبها الروائى الإنجليزى "تشارلز ديكنز " تبدو لأول وهلة كما لو كانت مجرد حدوتة تربوية للأطفال تقدم لهم درسا أخلاقيا لكى يكون الإنسان لأخيه الإنسان ، وبألا تصرفه المادة عن الأحاسيس والمشاعر ، بل إن الفيلم والقصة هما التعبير الدرامى عن ذلك البيت الشهير الذى حفظناه فى المدرسة ضمن قصيدة التينة الحمقاء ، والذى يقول فيه الشاعر اللبنانى المهاجر " إيليا أبو ماضى ": " من ليس يسخو بما تسخو الحياة به فإنه أحمق بالحرص ينتحر " ، ولكن لو تأملت فى مغزى الحكاية لوجتها موجهة للكبار أيضا ، والدرس الأخلاقى لبطل الحكاية ( آبينزر سكروج ) هو أيضا درس اقتصادى لكل رأسمالى متوحش خاصة بعد الأزمة الإقتصادية الأخيرة التى تسبب فيها حفنة من الحمقى الجشعين .

لقد عاصر ديكنز توحش الرأسمالية فى بريطانيا ، وانتقد كثيرا صعود دولة المال والمادة فى مقابل تراجع الإحساس بالآخر ، وأفزعه أكثر تحول الإنسان الى آلة لجلب النقود فى حلبة صراع لا مكان فيها للضعفاء أو للمرضى أو لمحدودى المواهب والقدرات ، وكأن الضعف أو المرض ينزع عن الإنسان صفة الإنسانية . صرخة ديكنز فى (أغانى الكريسماس )عميقة بقدر ما هى بسيطة للصغار وللكبار معا : "يا من صنعتم أموالا .. أنتم لم تصنعوها إلا من خلال الناس .. لولا الأخر ستموتون .. ولولا المشاعر والأحاسيس لكان الحجر أكثر قيمة من البشر .. عيد الميلاد ليس مجرد مناسبة للإحتفال وتناول الطعام ، ولكنه فرصة لكى يولد رأسمالى جديد أكثر إنسانية لا يتفضل على الآخرين بشئ لأنه - كما قلنا -لا يفعل أكثر من أن يسخو بما تسخو الحياة به" .

أراد( روبرت زيمكس) أن يحافظ على روح حكاية ديكنز الكلاسيكية ، وأن يقدمها فى شكل معاصر وشديد الإبهار ، ستدخل الكاميرا فى البداية الى كتاب ضخم يحمل اسم قصة ديكنز ، وسنبدأ من اللحظة التى يفقد فيها سكروج صديقه وشريك حياته ( جاكوب مارلى ) ، وسنرى بخل سكروج وهو يرتعش مقدما عملة معدنية صغيرة للقائم على الدفن . الرجل العجوز الدميم خارج الزمن . بعد سبع سنوات الجميع يبتهجون استعدادا للإحتفال بالكريسماس ، إلا سكروج الذى ينتقد حماس الموظف الذى يعمل معه ( بوب كراتشيت ) ، وينتقد حماس ابن أخيه ( فريد ) الذى تزوج عن حب ، والذى يدعو عمه على العشاء ، ولكن العم يرفض ، فالوقت يوزن لديه بالمال ، والحياة فقط عمل ونقود ، وعندما يطلب منه البعض التبرع للفقراء والمشردين يتساءل فى صلف : "أين السجون والجمعيات الخيرية ؟" هذه الشخصية هى بالضبط( التينة الحمقاء) التى تحدث عنها (إيليا) فى قصيدته الشهيرة .

نلاحظ أن ( زيمكس ) يحول الحوارات داخل مكتب ( سكروج ) الى ما يقترب من المشهد المسرحى مع ضوء خافت مقبض ، وحتى دخول وخروج الزوار يشبه الدخول والخروج المسرحى ، وسيتغير ذلك تماما مع ( التجربة ) التى سيمر بها سكروج فى قصره الفارغ . تفتح النافذة بصوت كالرعد على شبح شريكه الراحل ( مارلى ) وقد عاد مقيدا بالأغلال ، وناقلا عذابه بالمال الذى جمعه لزميله سكروج . هذا رأسمالى مضى الوقت لإنقاذه يتدخل لإنقاذ رأسمالى آخر على قيد الحياة لا يفهم مغزى الحياة . ستكون وسيلة مارلى لإنقاذ سكروج هى إرسال ثلاثة أشباح تمثل الماضى والحاضر والمستقبل ، تكشف الأستار ، وتدخل سكروج فى تجربة يكتشف من خلالها حياته الفارغة رغم ثرائه المادى الذى لا حدود له . شبح الماضى سيكشف لحظات من حياة سكروج فى طفولته وشبابه : طفل وحيد يقضى ليلة عيد الميلاد بلا أصدقاء ، له أخت وحيدة أصغر منه تزوره فى ليلة العيد ، تخبره أن والدهما عاد الى المنزل وأصبح أقل شراسة ، يعمل فى إحدى الورش ويتعرف على فتاة جميلة ، فجأة يتحول المال الى معبوده الجديد ، الفتاة تتركه بينما يبرر تكريس حياته لجمع المال بسبب خوفه من الفقر .

شبح الحاضر ينقل إليه صورة لا حتفال الموظف الذى يعمل عنده ( كراتشيت ) بعيد الميلاد مع أسرته الصغيرة . ليس لديهم ديك رومى ولكن مجرد أوزة صغيرة . يلفت نظر سكروج الطفل ( تيم ) المقيد الحركة لإصابة إحدى قدميه بالشلل ، وينقل إليه شبح الحاضر أيضا سخرية ابن أخيه ( فريد ) منه فى حفل العشاء ، أما شبح المستقبل فينقله وسط ندف اثلج التى تحيط قبره المفترض ، والى خادمته وهى تستولى على أغطيته بعد وفاته، ثم يتحول سكروج الى قزم فى حجم فأر يطلب منه الشبح فرصة لكى يصبح رأسماليا طيبا يشعر بالآخرين , هى فى الحقيقة فرصة لكى يسترد إنسانيته . هنا لحظة التحول حيث يجرب سكروج حياة أخرى : يغنى مع المارة .. يتزحلق فى سعادة على الجليد .. يداعب خادمته العجوز .. يحضر عشاء ابن أخيه ( فريد ) ..يستقبل ( كراتشيت ) بحفاوة ويزيد له راتبه رغم تأخره عن العمل .. ويحمل ابنه ( تيم ) على كتفيه ليدخلا من جديد كتاب الحواديت الذى خرج منه كل هذا الخيال النبيل .

أدى استخدام النظارة والعرض البصرى ثلاثى الأبعاد الى جعل الشاشة باتساع العالم ، وأدخل المتفرجين الى تجربة سكروج المدهشة ، لا حدود للزمان ولا للمكان ، الحياة على بساط الريح والكادر باتساع الملكوت ، الكاميرا لم تعد تتحرك ولكنها تطفو وترقص وتصعد وتغوص ، الأصوات التى جسدها ( جيم كارى ) و ( جارى أولدمان ) و( وكولين فيرث ) و( روبين رايت بن) و(روب هوسكنز ) مدهشة فى تعبيرها عن عالم كل شخصية .. الموسيقى تخلنا الى أجواء التجربة الثلاثية من الماضى الى الحاضر الى المستقبل ، الألوان تصبح أكثر سخونة ودفئا كلما عاد سكروج الى إنسانيته المفقودة . عالم كامل من الخيال نجح ( روبرت زيمكس ) وفريق عمله فى تجسيده على الشاشة .. وقطع لنا تذكرة إضافية لكى ندخله بالمعنى الحرفى لاالمجازى .

يوم الكريسماس فى التفسير السياسى للفيلم هو يوم مولد سكروج الرأسمالى الجشع من جديد ، والفيلم أيضا دعوة لكل سكروج فى العالم يكتنز المال لكى يتأمل ويراجع ويعيد التفكير لأن ( الكفن مالوش جيوب ) !

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق