السبت، 17 يوليو 2010

( هناك أفلام تتضمن رسائل سياسية لا تخطئها العين مثل فيلم (10000سنة قبل الميلاد الذى يقدم صياغة أسطورية لتاريخ الشعب اليهودى . هذا المقال المنشور فى جريدة روز اليوسف اليومية بتاريخ26/3/2008 يعبر عن معنى الرسالة وأهدافها)

النبوءة أصبحت حقيقة .. والحقيقة تحولت الى أسطورة !

محمود عبد الشكور

طوال مدة عرض فيلم (10000سنة قبل الميلاد ) للمخرج (رولاند إيمريخ) ، لا تستطيع أن تبعد عن ذهنك قراءة الإسقاطات الحوارية أو البصرية التى تعطى للحكاية بعدا آخر، وتكشف عن معانى أبعد من الإبهار فى الصورة أو فى استخدام المؤثرات الصوتية أو فى خدع الكمبيوتر . هناك إسقاط واضح على بداية تاريخ اليهود ، وقصة الصراع بين "موسى " و" فرعون" .. بين شعب من العبيد وحكام من الجبارين ، ولكن القصة تخضع هنا لتحويرات كثيرة لأن البناء بأكمله يحاول أن يمزج بين الواقع والأسطورة ، ولذلك كانت البداية من النبوءة التى ستتحول الى حقيقة ، ثم تصبح الحقيقة أسطورة لتعيش أطول ، ولُتلهم شعوبا أخرى !

" رولا ند إيميريخ"مخرج أفلام كثيرة معروفة ربما أشهرها فيلم ( يوم الإستقلال ) الذى لايخلو من إسقاطات ومعانى تتجاوز كونه أحد أفلام الخيال العلمى وسلسلة حكايات الغزو القادم من الفضاء . اشترك"إيميريح" مع " هارولد كلوزر " فى كتابة (10000سنق قبل الميلاد)، ومنحا لأنفسهما حرية واسعة فى الخيال وصولا إلى هدف وحيد هو : كيف تحول الشعب الذى يحكى عنه الفيلم (أطلقوا عليه شعب الياجال) ، وكيف تحول زعيمه الشاب ( اسمه فى الفيلم داليه) إلى أسطورة؟ .. ويقوم الراوى ( بصوت عمر الشريف المؤثر) ببداية السرد على طريقة شعراء الملاحم ، ثم يتدخل أحيانا للتعليق ، ويختم الحكاية مؤكدا مولد الأسطورة.

الحدوتة تبدو بسيطة فى ظاهرها حيث نتعرف على هذا الشعب ( الياجال) الذى يعيش وسط الجليد معتمدا على الصيد بقتل حيوان ضخم يطلق عليه الفيلم اسم ( المناك) ، وبيدو من حيث الشكل أقرب الى حيوان الماموث المنقرض الذى يعتبر الجد العملاق للأفيال . ولكن هذه الحيوانات تختفى فجأة ، وتحاول الأم العجوز حكيمة الشعب وعرافته أن تفتش عن السبب . فجأة تظهر فتاة صغيرة زرقاء العينين تتوقع العجوز بالنظر الى وجهها أن تكون زوجة لمن سيقود (الياجال) الى البقاء بعد أن يمروا بأزمة مدمرة . الفتاة اسمها " إيفوليت" ، ويقول الراوى إنها تمثل الوعد بالحياة ، ومنذ البداية يحلم الطفل " داليه" بأن يفوز بالفتاة الصغيرة التى تخبرهم أنها فقدت أهلها بعد مذبحة قامت بها شياطين رباعية السيقان ! .. وهكذا يبدأ الفيلم بشعب فى خطر ، وبنبوءة تتحدث عن ماساة قادمة لابد لها من مخلّص بمساندة فتاة تحمل وعدا بالحياة .

يبدو " داليه" إنسانا عاديا بعيدا عن الكمال خاصة أن والده قد ترك الشعب عندما عرف النبوءة المنذرة ، كما أن " داليه" يدعى أنه نجح فى قتل أحد حيوانات " المناك" العملاقة ليفوز بالرمح الأبيض الذى يتيح له الزواج من " إيفوليت" ، والحقيقة أنه كان يفر هاربا من الحيوان .. ولكن "داليه" لديه شجاعة الإعتراف بذلك ، كما أنه لن يتردد فى الخروج مع بعض زملائه لمطاردة جنود العدو الشرس الذى اختطف بعض ابناء ( الياجال) ومنهم " إيفوليت" ، ويتحدث هؤلاء الجنود لغة مختلفة ، ويبدو إصرارهم على اختطاف أبناء ( الياجال) بدلا من قتلهم أمرا مثرا للدهشة . بعد مغامرات أسطورية يواجه فيها " داليه" وزملاؤه نسورا وحشية ، ويقوم هو بإنقاذ نمر من الموت ، يلتقى بشعب من الزنوج يدعى شعب ( الناكو) . من الواضح أنهم أيضا يعانون من العبودية ، ولأنهم يعتقدون أن مخلصهم لديه القدرة على الحديث مع النمر العملاق الذى أنقذه "داليه" ، فإنهم يتوقفون الى حيث جبل الآلهة ، ويعرف"داليه" أن والده الغائب قد اختفى هناك ، ثم يشاهد عن بعد قوارب تحمل أسرى ( الياجال) واسرى ( الناكو) عبر نهر يخترق صحراء شاسعة !

فى الجزء الأخير تبدو الرومز أكثر وضوحا حيث يتضح أخيرا أن الأسرى يسخرو ن تحت ضرب السياط لبناء ما يشبه الهرم العملاق ، وأن التسخير يشمل أيضا حيوانات " المناك " العملاقة ، ومن خلال مجموعة من الكهنة تنقل تعليمات الحاكم الذى يطلق عليه اسم " الجبار" ، والذى يعيش داخل الهرم مستترا ومعزولا ومدعيا أنه إله ، ومن خلال أحد الأسرى يعرف " داليه" أن هذا الملك الإله لايخيفه سوى شخص نقشت على يده علامة محددة كما أخبره العرافون ، وفيما بعد سنعرف أن الشخص المقصود ليست إلا "إيفوليت" ، ولكن من سيقود المعركة هو "داليه" الذى سيطلب من الجبار أن يأخذ معه شعبه ، ورغم أن الجبار يوافق إلا أنه يشترط الإحتفاظ ببعضهم لكى يقتلهم . هنا يسدد إليه "داليه" رمحه ليقتله ، وليثبت للجميع أن الجبار ليس إلها . يقتحم العبيد المكان ويدمرون قمة الهرم باستخدام الحيوان العملاق ، ورغم أن " إيفوليت" تموت بطعنة غادرة ، إلا أن الأم العجوز على بعد آلاف الأميال تعيد بعثها من جديد ، وتعود " إيفوليت" و "داليه" الى الوطن حاملين بذورا أخذوها من شعب ( الناكو) ، ووسط زروع خضراء نامية يحتضن " داليه" حبيبته لتولد اسطورتهما وأسطورة شعبهما إلى الأبد !

حرصت بقدر الإمكان أن أحكى لكم التفاصيل الأساسية للحكاية التى تقدم إسقاطات واضحة عن نبوءة موسى ، وصراعه مع فرعون حتى انتصاره ، والأمثولة هنا ليست متطابقة مع القصة التوراتية أو القرآنية ولكنها تأخذ منها المعنى العام وتدمجه فى عالم اسطورى قادم من عصور سحيقة ، وتتناثر مشاهد هنا وهناك توصل الفكرة ، كما تتم عملية رسم الشخصيات بطريقة موحية تحاول أن تلفت أنظار المشاهد إلى أن هناك أبعادا أخرى وراء الحكاية . وستكتشف فى النهاية أن شعب الياجال قد تحول من صيادين الى محاربين ، وأن "داليه" قد نجح أخيرا فى أن يجعل لشعبه مستقرا تحت الشمس لا يخضع للتقلبات الموسمية ، وأنه تلقى وعدا قدريا بالحياة ممثلا فى فتاة جميلة لا يمكن أبدا أن تموت . نجح "داليه" أيضا فى إثبات أكذوبة الملك الإله ، كما أطلق سراح شعبه من الأسر ، والأمران هما بالضبط ما حققه موسى فى صراعه مع فرعون ، وإن اختلفت الطرق والأساليب .

هناك إشارات تظهر أن "داليه" ليس شخصا عاديا حيث يساعد النمر متوقعا أن يرد له النمر الجميل ، وهذا ما يحدث حرفيا ، وتكون هذه العلامة طريقه للحصول على اعتراف شعب ( الناكو) ، وهناك نبوءة فى أول الفيلم تجعله مخلّص شعبه ، وسيكون عليه أن يحول النبوءة الى حقيقة .. أما مشاهد الجبار فتكاد تصرّح أننا أمام الفرعون الملك الإله بكل تفاصيله وغطرسته وإصراره على استعباد الآخرين ، ولن تظهر ملامحه إلا فى لحظات مصرعه ، وهو يبلغ تعليماته عن طريق كهنته الذين يعقدون أيديهم على صدورهم على الطريقة الفرعونية الشهيرة رغم اختلاف الزى ، ويختار المخرج أن يقدم مشاهد الهرم من أعلى مظهرا آلاف العبيد والحيوانات العملاقة وهى تتحرك تحت ضربات السياط لاستمال البناء ، كما يقدم من أعلى عملية هدم قمة الهرم الذهبية تعبيرا عن نجاح العبيد فى تحقيق النصر بعد أن أطلق "داليه" شعارا مؤثرا هو "العبيد قادمون" .

ولكن فيلم (10000سنة قبل الميلاد ) لا يتوقف عند عودة الأسرى ، وقتل الملك الإله ، وتحويل الصيادين الى محاربين ، وحصول شعب الياجال على الحياة المستقرة ، ولكنه يغلف الحكاية بأملها بغلاف اسطورى بحيث يبدو الإنتصار خارقا للمألوف ، ومتجاوزا للقدرات البشرية ، وكأنه تنفيذ لإرادة عليا قدرت وقررت وحسمت النهاية قبل أن تبدأ مثلما يحدث فى الأساطير الإغريقية ، وهكذا تتطور النبوءة التى قالتها العجوز فى بداية الفيلم الى حقيقة بسبب شجاعة "داليه" وعيون " إيفوليت " الحارسة ، ثم تتحول الحقيقة الى أسطورة مستمرة وخالدة ، وإذا كان الراوى يقول فى أول الفيلم إن الزمن هو الذى سيفرز الأساطير من الحقائق ، فإن المخرج يرى -على ما يبدو- أن الياجال قد جمعوا بين الأمرين فصاروا حقيقة وأسطورة معا .. والمعنى لا يخفى عن الفطن !

تضافر السيناريو والإبهار البصرى والموسيقى التى تبرز قرع الطبول وأصوات آلة الكورنو المنذرة والموسيقى النحاسية الصاخبة والخدع والمؤثرات البصرية ومونتاج " ألكسندر بيرز" فى إيصال الحكاية وما وراءها ، وربما كان أضعف العناصر أداء الممثلين خاصة البطلين ( ستيفن ستريت ) و (كاميلا بيل ) ، فهذه النوعية من الأفلام لا تحتاج مشخصاتية كبار ، وإنما إلى سيناريو وإمكانيات ضخمة ، وإبهار بالصوت والصورة !

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق