السبت، 26 يونيو 2010

( نشر هذا المقال عن فيلم " التكفير " فى جريدة روز اليوسف اليومية بتاريخ 13/2/2008)



عن الحب والحرب والذنوب التى لاتغتفر !



محمود عبد الشكور



يمكنك أن تنظر من أكثر من زاوية لفيلم " التكفير " (The Atonement) للمخرج " جو رايت " : الزاوية النفسية باعتباره محاولة من أبطاله للتكفير عن ذنوب مدمرة ارتكبت فى الطفولة ولا تسقط بالتقادم ، والزاوية الإجتماعية باعتبار أننا أمام حكاية حب عاصفة نشأت فى ظل حرب قاسية ، وبين طرفين بينهما فروق إجتماعية لم تقهرها العاطفة أو التعليم ، والزاوية الإنسانية الشاملة باعتبار الفيلم دراسة عما تفعله الحرب فى الناس ، كما أنه محاولة للإجابة عن سؤال معلق فى كل الحروب هو : ومن يستطيع التكفير عن مآسى الحروب التى تقتل الملايين ، والزاوية الفنية والأدبية باعتبار أن الفيلم المأخوذ عن رواية كتبها " أيان ماكوين " يكاد يرتفع بالفن والأدب الى مرتبة علاج الضمائر المثقلة بذنوب الماضى . هنا حكاية حب مزقها الواقع وخلدها الفن ، وكأننا أمام تنويعة جديدة على فكرة الخلاص والخلود بالأدب والفن .



الحكاية فى " التكفير " بسيطة للغاية ويكن أن تروى فى سطور قليلة : الفتاة الصغيرة ( بريونى تاليس ) ذات الخيال الواسع وقعت فى سن الثالثة عشرة فى غرام ( روبين ) ابن مديرة منزلهم الفقير ، ولكنه كان يعشق شقيقتها الكبرى (سيسيليا)،، وعندما اكتشفت ( بريونى ) علاقتهما لم تتردد فى اتهامه باغتصاب ضيفة كانت تقيم عندهم تدعى ( لولا ) . تندلع الحرب العالمية الثانية فيفضل ( روبى) الذهاب الى الميدان بدلا من البقاء فى السجن ، ويحاول أن يستأنف علاقته مع ( سيسيليا) التى قاطعت شقيقتها وتحولت الى ممرضة متطوعة ، ولكن العاشقين يموتان فى الحرب : هى فى انجلترا وهو فى ( دنكرك ) شمال فرنسا ، ولأن الجرح لم يندمل ، فإن 0 بريونى ) التى أصبحت أديبة مرموقة تقرر فى شيخوختها أن تكتب روايتها الأخيرة عما فعلته من تدمير لعلاقة ( سيسيليا ) و (روبى )، وتطلق على الرواية اسم التكفير .



ولكن " التكفير " الذى كتب له السيناريو والحوار " كريستوفر هامبتون " ليس هو الحكاية ولكنه الشخصيات وتحولاتها وعواطفها ، وقد لجأ السيناريست الى عدة حيل ذكية ومشوقة لتحقيق ذلك خاصة فى النصف الأول من الفيلم أولها أنك تتعرف أولا على النتيجة ثم تشاهد فى المنظر التالى تفسيرا لحدث ، وخاصة عندما نرى الأحداث من وجهة نظر ( بريونى ) المراهقة التى تتسرع فى الحكم ، وقد تكررت هذه الحيلة مع مشهد تلصص ( بريونى ) على شقيقتها و ( روبى ) أمام حوض الماء ، ثم دخولها عليهما وهما فى لقاء حميم داخل المكتبة ، وللمحافظة على عنصر التشويق أيضاً لا نرى المشهد الوحيد الذى تحاول فيه ( بريونى ) جذب انتباه ( روبى ) لينقذها من الغرق إلا فى النصف الأخير من الفيلم ، ومن وجهة نظر ( روبى ) نفسه المتورط فى الحرب فى فرنسا ، ومن أفضل حيل السيناريو أيضا دمج المشهد الذى لم يحدث ولكن تخيلته بريونى فى روايتها عن لقاء بينها وبين سيسيليا وروبى حاولت أن تطلب فيه الصفح منهما دون جدوى ، وقد اعتبرت بريونى هذا اللقاء الذى ابتكرته فى الخيال تعبيرا عن أمنية لم تتحقق ، ثم استبقى هامبتون مفاجأته الأخيرة عندما تظهر بريونى وقد تقدمت فى العمر ( بأداء الممثلة الكبيرة فانيسا ريدجريف ) وهى تتحدث عن روايتها عن الأخيرة الواقعية ، وعن مرضها الذى جعلها تحاول التكفير من خلال الفن والخيال ، ثم تتحدث أخيرا عن موت روبى فى يونيو 1940 بتسمم فى الدم ، وموت سيسيليا فى قصف للطائرات الألمانية فى أكتوبر 1940 ، ويعبر المشهد الأخير عن لقاء روبى وسيسيليا الذى لم يحدث أبدا فى كوخهما على البحر ، كما يعبر عن نجاح الفن فيما لم ينجح فيه الواقع .

ومن أفضل تصرفات هامبتون الحرية التى تعامل بها مع الزمن بحيث تبدأ الأحداث عام 1935ثم يقفز خمس سنوات نعود بعدها شهورا وأ تنسىسابيع الى الخلف وكأته لا يعنيه سوى رصد تحولات شخوصه ، وإن كنت أظن أنه لم يرصد لحظة التحول فى حياة بريونى رغم مشهد تحجر الدموع فى عينيها عند إلقاء القبض على روبى ، كما بدت علاقتها بالجندى الفرنسى الجريح وحبه لها فى لحظات الإحتضار مبتورة وبلا معنى رغم أنها قد تكون على الأرجح من أسباب تحولها ، وشعورها المضاعف بالذنب . وعلى الرغم من أهمية مشاهد الحرب خاصة تلك التى تسجل انسحاب 300ألف جندى إنجليزى من فرنسا عام1940بعد الهزيمة ، إلا أننا أحسسنا أننا خرجنا من الجو الخاص الذى كرسه الجزء الأول من الفيلم ، ومن الواضح أن الضغط على ما حدث فى الميدان ومأساة الحرب هو محاولة لربط فكرة التكفير بمعناها الفردى بفكرة التكفير بمعناها الإنسانى عندما يطرح هذا السؤال : ومن يكفر عن المأساة التى حصدت الملايين مثلما كفرت بريونى عن خطئها فى حق شقيقتها وحبيبها روبى ، كما أن شخصيات أخرى مساعدة ولكنها شديدة الأهمية لم تنل حظها من من التحليل والعمق مثل لولا الفتاة المغتصبة ، وبول مارشال صاحب مصنع الشيكولاتة الذى تزوجها فيما بعد رغم أنه اغتصبها قبل خمس سنوات !

كل العناصر الفنية كانت على مستوى رفيع تحت قيادة ( جو رايت ) الذى أدار ممثليه ببراعة خاصة الممثلات الللاتى قمن بدور بريونى فى مراحل عمرية متفاوتة ، ولم يكن هناك اختيار أفضل من ( فانيسا ريدجريف ) لتعطى ثقلا مستمدا من تاريخها الطويل لشخصية بريونى فى سن الشيخوخة ، وقد جسد ( جيمس ماكفوى ) مشاهد لاتنسى فى الجزء الثانى كجندى وكعاشق يحاول أن يعود الى بريطانيا ليتزوج سيسيليا ليمحو عنها وعن نفسه العار، ونجحت كييرا نايتلى الى حد كبير فى تقديم شخصية الفتاة قوية الشخصية التى تكبت عواطفها المتأججة تحت قناع زائف من الجدية والإستعلاء الطبقى ثم ينهار هذا الجدار تماما بعد سجن حبيبها وإرساله الى الحرب . نجح المخرج ( جو رايت ) أيضا فى تقديم مشاهد الحب والحرب ببراعة واقتدار وكأنهما وجهان لعملة واحدة ، ولا ننسى المشهد الملحمى لا نسحاب الإنجليز من دنكرك ، وهو عبارة عن لقطة واحدة طويلة تتحرك فيها الكاميرا مع روبى واثنين من أصدقائه لتتابع الجرحى والقتلى والمدنيين والسفن والمعدات المدمرة وعجلة الملاهى الضخمة والخيول التى يطلقون عليها النار ، ثم تصعد الكاميرا مع الثلاثة الى حيث يدخلون إحدى الحانات ، وهذا المشهد الطويل يستحق أن يدرس فى معاهد السينما لأنه من أفضل المشاهد التى تجسد كارثة الحرب بطريقة مبتكرة ومؤثرة . ومن المشاهد الناجحة أيضا مشهد روبى الجندى المنهار وهو يدخل سينما بلا جمهور تعرض على شاشتها أحد المشاهد الرومانسية فى يبدأ هو رحلة الهذيان . ونجح المونتاج بامتياز فى تحقيق التشويق خاصة فى الجزء الأول من الفيلم ، وتحديدا فى لحظات كتابة روبى لرسالة الى سيسيليا بها لفظ فاضح ، ثم تغييره لها برسالة اعتذار ، وأخيرا وصول الرسالة عن طريق الخطأ الى يد بريونى ، واستخدامها فيما بعد لإدانة روبى باغتصاب ضيفة العائلة ، ورغم أن الإيقاع سيهبط بعد القبض على روبى والقفز خمس سنوات الى الحرب العالمية الثانية ، إلا أنه يعود الى التماسك مع ظهور بريونى كممرضة متطوعة تطلب الغفران فى سن الثامنة عشرة ، وقد ساهم شريط الصوت بدرجة واضحة فى التعبير عن مشاعر هذه الفتاة بالمزج بين صوت البيانو ودقات الآلة الكاتبة الت سنسمعها بسرعات متفاوتة سواء فى بداية الفيلم وهى تكتب مسرحيها الأولى " محاكمة أرابيلا " ، أو فى مشاهد عملها بالمستشفى ، وبالمثل يمكن الحديث عن براعة التصوير فى التعبير عن مشاهد رقة الحب ومشاهد قسوة الحرب .

فيلم ( التكفير) يتحدث عن الإنسان الذى لا نعرف عنه إلا القليل ، وهو فيلم عن العواطف الداخلية المعقدة ، وعن قدرة الفن على تحرير صانعيه ، وقدرته على تخليد الواقع وتغييره للأفضل ، بل إن كلمة الواقع نفسها تبدو مضللة وغير دقيقة لأننا أمام واقع افتراضى ومراوغ . لقد شاهدنا على الشاشة طريقة صنع رواية خطوة بخطوة ، وساهمنا نحن بخيالنا فى استكمالها بالموافقة على نهايتها الإفتراضية السعيدة ، ثم إن ( التكفير ) يثبت ما نكرره دائما من أن أكثر الأفكار عمقا يمكن أن تنقلها الحكايات البسيطة والعواطف الصادقة والمواهب الإستثنائية .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق