السبت، 19 يونيو 2010

نوستالجيا :




عن الأفلام وصالات العرض السينمائى !




تصنع الأفلام لكى تعرض فى أماكن مخصصة لذلك يطلقون عليها اسم دور الخيالة بالفصحى أو دور العرض السينمائى . كانت هذه العبارة فى حكم البديهيات فى سنوات السينما الأولى رغم أن العرض التجارى الأول للأخوين لوميير كان فى أحد المقاهى ، ولكن السينما سرعان ما صنعت المكان الخاص الذى تعرض فيه بما يصاحبه من امكانيات تتفق مع العرض الجيد ، وبما يصاحبه من طقوس للمشاهدة سواء فى عصر السينما الصامتة أو المتكلمة . فى عصر السينما الصامتة مثلا كان يوجد داخل دار العرض مكان للأوركسترا لعزف الموسيقى المصاحبة خاصة فى الأفلام الضخمة . وفى مصر كان هناك - كما قرأنا - شخص اسمه المفهماتى كان يشرح أحداث الفيلم للجمهور مدعيا أنه يقرأ اللوحات المكتوبة على الشاشة بينما هو يقوم بإعادة تأليفه من جديد مانحا أبطاله اسماء مصرية ، ومطلقا على الشخص الشجاع الذى يضرب الجميع لفظ الشجيع !




ظلت الأفلام تعرض عادة فى دور العرض حتى ظهر التليفزيون فأصبحت هناك نافذة جديدة للمشاهدة ساعدت فى نشر السينما وأفلامها على نطاق واسع ، ولكنها - من ناحية أخرى - لم تقدم الأفلام بجودتها الكاملة كما صنعت سواء من حيث الصوت أو حجم الصورة أوالمؤثرات ، وأتذكر أننا كنا نشاهد طوال السبعينات فيلما ضخما فخما مثل ( الناصر صلاح الدين ) بطريقة بشعة يضيع فيها ربع الكادر مما يجعلك لا تستطيع من خلالها مشاهدة بعض الشخصيات ، وبدا أحيانا كما لو أن صلاح الدين مثلا يخاطب أشباحا لا نراها ؟!ولو كنت مكان يوسف شاهين لرفعت قضية فورا على التليفزيون لأن عدم عرض الفيلم أفضل وأكرم من هذه الكارثة .




فى مرحلة تالية ظهر اختراع جديد اسمه الفيديو الذى أتاح ليس فقط مشاهدة الأفلام القديمة التى يعرضها التليفزيون ليلا ونهارا ، ولكنه يتيح أيضا عرض أفلام أحدث لن يعرضها التليفزيون إلا بعد عرضها السينمائى بشهور ، وبعد الفيديو انتشرت الفضائيات وقنوات الأفلام التى تعرض كل شئ وأى شئ يحمل اسم فيم سينمائى ، ونتيجة لذلك تراجع الفيديو ، وتحولت متاجر عرض شرائط الفيديو الى محلات لأجهزة الكمبيوتر الذى أصبح بدوره النافذة الجديدة للأفلام من خلال الآسطوانات أو عن طريق تحمل الأفلام من الشبكة العنكبوتية وتدمير الصناعة ، ولن أستغرب إذا اصبحت الظاهرة القادمة مشاهدة الأفلام الطويلة مستقبلا على شاشة المحمول أو حتى من خلال ساعة اليد ، أو ربما بالنظر الى طبق المائدة أثناء تناول الطعام .


أعترف طبعا أن هذه النوافذ الحالية أو المستقبلية زادت من جمهور الصناعة وأوجدت مصادر أكبر لتمويل الأفلام وإنتاجها ببذخ لا نظير له ، ولكن المشاهدةالمثالية للأفلام مازالت فى دار العرض ، ورغم أننى لم أدخل هذه الدورعلى نطاق واسع لإسباب سأذكرها حالا ، ورغم أننى شاهدت معظم تراث السينما المصرية والعالمية فى التليفزيون ، ولولاه ما استطعت متابعة هذا الكم الهائل من الأفلام .مع هذا انتهز الفرصة لمشاهدة أى فيلم قديم فى نسخة 35ميللى حتى لوكنت شاهدته من قبل ، ومازلت أتمنى أن أشاهد فيلما مثل ( الناصر صلاح الدين ) فى نسخة سينمائية تعرضها إحدى دور العرض المصرية مثلما فعلت سينما (أوديون ) لسنوات طويلة مع فيلم ( عبد الحليم ) الأشهر ( أبى فوق الشجرة ) الذى لم أشاهده -حتى الآن - على قنوات الأفلام الفضائية ، وأعتقد أنه سيقل كثيرا لأو عرض فضائيا خاصة فيما يتعلق بصورة ( وحيد فريد ) البراقة ، أو حتى فيما سمعته من أغنيات تتردد بصوت فى قاعة مغلقة معزولة عن العالم كله !


قال لى أبى إنه كان يصطحبنى مع الأسرة ، وأنا دون سن السادسة ، الى دار العرض السينمائى ، وأننى كنت أبكى وأفسد عليهم الفيلم تماما . طبعا لا أتذكر هذه المرحلة ، ولكنى أذكر جيدا أمرين : الأفلام الأولى التى شاهدتها فى التليفزيون الأبيض والأسود (ناشيونال 20بوصة ) ، والأمر الثانى : المرة الأولى فى حياتى التى دخلت فيها دارا للعرض السينمائى فى مدينتى ( نجع حمادى ).



كنا - نحن أطفال الأسرة - ننتظر مناسبات محددة للتجمع مثل أيام مباريات الكرة ، وليلة الحفلات وخاصة ليلة حفلات عبد الحليم حافظ التى كنا نحفظ معظمها دون أن نفهم معناها ، ثم أيام عرض الأفلام العربية التى كانت مثل الفاكهة ، وفى ايام محددة من الأسبوع وليس طوال اليوم مثلما نشاهد اليوم على الفضائيات . ما أحلى تلك اللحظات التى كنا نجلس فيها على السجادة الضخمة فى حجرة الجلوس فى حين يجلس الكبار على ( الطقم ) لكى نشاهد معا فيلم السهرة . كل شئ كان جديدا ويدعو للدهشة لأننا نراه لأول مرة : التلفزيون والأفلام وسعاد حسنى ، لن أنسى من الأفلام الأولى فيلم ( حسن ونعيمة ) ، وتلك المرأة الطفلة التى كانت تردد بصوت رفيع (يا سي حسن ) .. ولا أنسى فيلم ( ملاك وشيطان ) الذى حرمنى النوم أياما خوفا وفزعا لأننى كنت فى نفس سن الطفلة التى خطفتها فى الفيلم ، ولن أنسى الإستعراض التى كانت تقدمه نيللى لزوجها فى أحد الأفلام ، وكان يلعب دور الزوج (صلاح ذو الفقار ) .


ولكن متعة المشاهدة التلفزيونية للأفلام الأولى فى التليفزيون لا تقارن مع ذلك بالمرة الأولى التى شاهدت فيها فيلما فى دار العرض . لم يكن أبى ضد السينمابل كان يحكى دائما عن ذهابه مع وفد ضخم أثناء طفولته الى مدينة قنا لمشاهدة فيلم ( عبد الوهاب ) الجديد ( الوردة البيضاء )، ولكنه كان ضد أن ندخل دورعرض الدرجة الثالثة حيث لا صوت ولا صورة ولا جمهور ولا أخلاق ، ولحسن الحظ ، كانت لدينا فى نجع حمادى دار عرض تبتعد عن هذا التعريف اسمها ( سينما النيل ) - يارب تكون مازالت موجودة ، كانت سينما صيفى محترمة قريبة من النيل العظيم ، وتستأثرفى الأعياد بأفلام العرض الأول ، وكنا كأطفال ننتظر اعلان الأفلام الصوتى فى التليفزيون لكى نسمع أن الفيلم الفلانى ستعرضه أيضا ( سينما النيل بنجع حمادى ) ، ورغم أن المدينة لم تعد ريفية منذ أن استضافت - وماتزال - اثنين من أكبر مصانع مصر هما : مصنع السكر ومصنع الألو منيوم ، إلا أنها كانت تحتفظ فى بداية السبعينات بالتقليد الريفى فى الإعلان عن الأفلام المعروضة . لا أنسى مثلا هذا الرجل الذى شاهدته يحمل طبلة معلنا عن ( الفيلم الكبير .. بنت اسمها مرمر ) .. وخلف رجل آخر يحمل أفيش الفيلم الملون ، وحولهما عدد ضخم من الأولاد والبنات يصفقون فى سعادة لا حدود لها .


انتظرت حتى العيد الكبير لأدخل السينما لأول مرة فى حياتى فى سن تمكننى من التذكر ، ربما كنت فى الصف الأول الإبتدائى ، كان معى أخى الذى يكبرنى بثلاث سنوات ، وخمسة أو ستة من الجيران أكبرهم فى المرحلة الثانوية مما جعل أبى مطمئنا على أننا فى أيد أمينة . أذكر جيدا أن قائد الرحلة الأكبر سنا وخبرة اشترى لنا سندوتشات طعمية ساخنة بالطماطم والفلفل الرومى لم أذق حتى الآن ماهو أشهى منها طعما ، ورغم أننى لا أذكر لقطة واحدة من الفيلم المعروض واسمه ( من البيت الى المدرسة ) ، ورغم إننى أعتقد أن أبطال الفيلم أنفسهم مثل نور الشريف لا يتذكرونه ، فإن الدهشة الأولى لرؤية الأطياف الملونة على الشاشة العملاقة لم تفارقنى حتى الآن ، فيما بعد قال لى أخى ضاحكا إننى كنت أصرخ فزعا عندما كانت السيارة المسرعة تملأ الشاشة ، وظل فى ذاكرتى حتى الآن لقطة لأحد الضفادع البشرية أثناء خروجه من الماء ربما كانت جزءا من ( تريلر ) العرض القادم لفيلم أجنبى .


دخلت هذه السينما فيما بعد أكثر من مرة بصحبة أخى الأكبر وفى مناسبة الأعياد لدرجة أن لحظة دخول الأفلام مازالت ترتبط عندى بالبهجة الى هذه الساعة . أذكر أيضا أننا شاهدنا مرة طوفانا من البشر حول سينما النيل لإنها ستعرض فيلم ( السكرية ) . طبعا كان من المستحيل التفكير فى الدخول ، ولكننى دخلت فى أعياد أخرى بعض أفلام العرض الأول الكوميدية الخفيفة مثل ( الى المأذون ياحبيبى ) بطولة صفاء أبو السعود وسمير غانم و فريد شوقى ، وفيلم ( أونكل زيزو حبيبى ) بطولة النجم الطالع وقتها ( محمد صبحى ) .. ومع الأسف انتقل والدى بحكم عمله كمدرس للفلسفة الى مدينة أصغر وذات طابع ريفى . لم يكن فى تلك المدينة دار للعرض فى مستوى سينما النيل رغم وجود سينما بها تحمل اسم سينما الجمال لا علاقة لها إطلاقا بهذه الصفة . طبعا اكتفيت بالرحلات السينمائية الى ( نجع حمادى ) بالإضافة الى حكايات زملاء الفصل عن الأفلام التى يشاهدونها فى سينما الجمال التى ينقطع فيها الصوت أثناء العرض مما يستدعى الصفير والنداء على عامل العرض صارخين :"الصوت يا حافظ ". أذكر جيدا أنهم حكوا لى بالتفصييل فيلم ( الأبطال ) من بطولة ( أحمد رمزى ) و ( فريد شوقى ) . لقد حفظت هذا الفيلم بالمشهد والكلمة تقريبا من زملاء الفصل لدرجة أننى كنت أسمع الحوارعندما شاهدت الفيلم لأول مرة فى الفضائيات . كان الزملاء مبهورين بالفيلم الذى وصف وقتها بأنه أول فيلم كاراتيه مصرى ، وكان عرضه مستمراً فى سينما الجمال كعنصر لا يتغير وسط أفلام البروجرام طوال عدة سنوات لدرجة أنك تستطيع أن تقول سينما الجمال بتاعة فيلم الأبطال مثلما كان يقال سينما ( ديانا ) بتاعة فيلم ( أبى فوق الشجرة ) حيث عرض فيها لمدةعام كامل !


دار العرض ليست مجرد مكان لكى تشاهد الفيلم كما يُراد له أن يُشاهد ، ولكنه حياة بأكملها بكل طقوسها ولحظاتها ومعاناتها وناسها وأفلامها وستائرها ومقاعدها وعمالها ونافذتها التى تسقط شعاع الضوء على الشاشة البيضاء . السينماهى دار العرض التى دخلتها فى كل مكان تقريبا وفى كل درجاتها : مترو وبكاء البنات فى فيلم تيتو . كريم وفرحة الإعجاب ببراعة محسن محى الدين فى فيلم اليوم السادس . سينما راديو المغلقة ومشاهدة فيلم الهروب . سينما أوديون والمشاهدة الأولى لفيلم أبى فوق الشجرة وعشرات الأفلام الأجنبية القديمة فى أسابيع خاصة . سينما بيجال والمشاهدة الثانية لفيلم ( مواطن ومخبر وحرامى ) بعد المشاهدة الأولى فى مترو . سينما ريفولى ومتعة اكتشاف عرق البلح . سينما كايرو بالا س بستارتها الذهبية البديعةالتى خطفت نظرى اثناء مشاهدة ( ملك وكتابة ).سينما التحرير والمشاهدة الأولى لفيلم ( الراعى والنساء ) .


لكل دار عرض حكاية وذكرى أتمنى أن أحكيها لكم كلما سنحت الظروف .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق