الجمعة، 18 يونيو 2010

(نشر هذا المقال فى 20أبريل ( نيسان ) من العام 2008، ويحاول أن يضع الفيلم الأمريكى المتميز ( لا وطن للعجائز ) فى إطار أكبر مما قد يراه البعض لأول وهلة كمجرد فيلم آخر عن المخدرات والقتل من أجل حفنة دولارات )



( لا وطن للعجائز ) - ولا للعقلاء أيضاً !



محمود عبد الشكور



يستحق فيلم ( لا وطن للعجائز ) " لمخرجيه الشقيقين ( إيثان ) و(جويل كوين ) الضجة والتقدير اللذين رافقاه فى كل مهرجان عرض فيه لأنه حلة خاصة من سينما التشويق والعنف لا تكتفى بمشاهد القتل والتوتر والتصفية الجسدية ، ولكنها تحاول أن تناقش ما هو أعمق ، وتحاول أن تفشر ما يحدث أو تفلسفه ، ومن هذه الزاوية فإن ( لاوطن للعجائز ) ليس فيلما عن المال والمخدرات أو حتى عن جرائم القتل التى ترتكب على الشاشة بكل بساطة ، ولكنه فيلم عن الشر داخل الإنسان ، عن ذلك الوحش الذى يراه صناع الفيلم أصيلا وراسخا ومستمرا وبلا حدود وغير قابل للهزيمة ، الفيلم أيضا عن البحث شبه العبثى عن الحقيقة والعدالة فى حين تبدو حياة الإنسان تدور فى حلقة مفرغة ، ولذلك نستطيع القول أننا أمام فيلم فيه عالم ( بولا نسكى ) المخرج البولندى الأشهر صاحب النظرة السوداوية عن الإنسان ومصيره ، ولا أشك لحظة فى أن هذا المخرج الكبير كان سيرحب حتما بأن يضع اسمه على ( لا وطن للعجائز ) الذى يحتفظ أيضا بأصالة وبصمة مخرجيه ( إيثان وجويل كوين )



حكاية الفيلم يمكن أن تكون شاهدتها فى أفلام كثيرة سابقة ولكن مسطحة وبدون أى أبعاد : إنه الصراع العبثى على المال والمخدرات ، ولكن الصراع هنا يدور بين ثلاث شخصيات اساسية هى : ( لوبليه موس ) الذى يعمل لحاما ، والذى نعرف أنه حارب فى فيتنام ، ولكن حياته تتغير وهو يصيد الغزلان عندما يكتشف مجموعة من السيارات بداخلها وحولها جثث افراد عصابة قامت بتصفية بعضها البعض ، وتركت حقيبة بها 2مليون دولار ، والشخصية الثانية هى القاتل شبه المعتوه ( أنطون شيوجر ) الذى يمارس القتل بمناسبة وبدون مناسبة ، ونراه يطارد (موس ) من فندق لآخر للحصول على الحقيبة ، والشخصية الثالثة هى المأمور المخضرم الذى يقدمه الفيلم بلا اسم ، ويؤدى دوره النجم ( تومى لى جونز ) ، وهذا المأمور هو الذى يعطى الفيلم عمقه الفلسفى والإنسانى حيث يعلق طوال الوقت على هذه المهزلة الأرضية أثناء مطاردته أيضا ل(موس ) سارق الحقيبة ، ول ( شوجر ) القاتل العشوائى ، ثم تضاف بعد ذلك شخصيتان مساعدتان وهامتان هما : " كارسون ويلز " ( بأداء النجم وودى هارلسون ) الذى يكلف من قبل شخص غامض بتصفية ( شوجر ) ولكن الأخير يقتله بهدوء وثقة ، و( كارلا جين ) زوجة ( موس ) ونقطة ضعفه ، والتى يهربها الى مدينة ( أوديسا ) خوفا عليها ، ولكنها تموت أيضا على يد ( شوجر ) الذى يصفه أحد أبطال الفيلم بأنه الشر الخارق ، ولهذه المطاردة الدموية العبثية ثلاث نهايات متكاملة : الأولى هى مصرع ( موس ) وزوجته ( كارلا ) ، والثانية هى نجاة ( شوجر ) للمرة الثانية من القتل رغم إصابته ، والثالثة هى اعتزام المأمور التقاعد بعد أن مارس عمله فى البحث عن الحقيقة والعدالة ومطاردة الشر بلا جدوى منذ أن كان فى سن الخامسة والعشرين .



مفتاح هذا الفيلم البديع بالتأكيد هو شخصية ( أنطون شوجر ) الذى يرتفع من شخص عادى الى ما يشبه أن يكون تجسيدا ً للشر نفسه ، صحيح أننا نسمع أنه معتوه ، ولكن هذا الوصف يأتى من خلال عيون الآخرين ، أما هو فلديه منطقه وكأنه مكلف بمهمة لا يستطيع أن يتراجع عنها ، ورغم أنه لايحصل على المال ، بل ولا يكاد يهتم به ، فإن لذته المؤكدة فى فعل القتل ذاته ، ونحن لا نعرف- تماما مثل الشر - من أين أتى ؟،كما إنه غيىر قابل للموت أو التصفية ، ونراه فى أحد أقسى المشاهد وهو يستخرج الرصاص من رجله ببراعة ، وفى مشاهد كثيرة يظهر بدون تمهيد حاملا معه الموت ، وفى مشهد آخر هام يقذف يعملة معدنية فى الهواء ممارسا لعبة الموت والحياة مع أحد الخائفين . وفى مقابل هذا الشر القوى القاهر يقف الخير ممثلا فى المأمور وحيدا وتأملا بل وعاجزا ومهتز الإيمان ، ولعل ( لا وطن للعجائز ) من الأفلام النادرة التى تقدم مأمورا يعيش فى الغرب الأمريكى لا يطلق رصاصة ، ويبدو تقاعد المأمور فى النهاية كما لو انه استسلام كامل بعد أن أدرك أن المشكلة ليست فى حفنة من الخارجين عن القانون ولكنها فى الشر المتأصل فى الإنسان الذى لايمكن تغييره ، وفى نهاية الفيلم أيضا نسمع المأمور وهو يحدثنا عن عن نجاحه فى القبض على رجل قتل فتاة فى سن الرابعة عشر ما أدى الى الحكم بإعدامه بالكرسى الكهربائى ، ويحدثنا أن الرجل استقبل الحكم بهدوء ، بل إنه أكد أنه لو ترك حيا سيكرر جريمته مع آخرين لأنه يستمتع بالقتل .



أما بارقة الأمل الوحيدة فى الفيلم فهى فى الحلمين اللذين يحكى عنهمها المأمور لزوجته فى آخر مشهد من الفيلم : فى الحلم الأول يظهر والد المأمور ( وكان مأمورا ايضا ) وهو يحاول أن يمنح ابنه نقودا ولكنه يفتقده ، وفى الحلم الثانى يرى والده وهو يحمل شعلة نار ، ويتأكد عندها أنه عندما أنه عندما سيذهب الى أى مكان سيجد والده فى انتظاره بهذه الشعلة . الحلمان يمكن تفسيرهما ببقية إيمان ، وبأن الأمل فى قهر الشر ممكن ول حتى فى عالم آخر رغم اهتزاز ثقة المأمور فى عالم الروح ، ورغم ما شاهده من قسوة البشر خلال عمله ، ورغم ما يقرؤه لمساعده من خبر منشور حول حادثة مأساوية لعصابة تخصصت فى خطف كبار السن ثم قتلهم من أجل سرقة خطابات الضمان الإجتماعى التى يحصلون عليها ، وقد تساءل المأمور وسط دموع مساعده : " لماذ يعذبونهم قبل قتلهم ؟"، ويتعجب أكثر لأن الجيران لم ينتبهوا إلا عندما شاهدوا عجوزا وحول رقبته طوق كلب ، ولم يلفت انتباههم أبدا عمليات حفر القبور المستمرة للضحايا !

روعة فيلم ( لا وطن للعجائز ) فى نجاح صناعه فى تقديم فيلم تشويقى لا تستطيع أبدا أن تترك مقعدك أثناء مشاهدته ، ولا تستطيع أبدا أن تتوقف - فى نفس الوقت - عن التفكير لقراءة مغزى صوره ورسومه ، وروعة الفيلم أيضا أن شخصياته أمريكية بامتياز تجسد قسوة بيئة وشخوص الغرب الأمريكى ، وهناك إشارات واضحة عن هذه البلد الصعبة على ناسها ، كما أن هناك حديثا عن فيتنام التى حارب فيهلضوءا (موس ) والقاتل المحترف ( كارسون ويلز ) ، ولكن الفيلم يتجاوز ذلك الى أبعاد إنسانية عامة بحواره البديع الذكى والساخر الذى يذكرك : على نحو ما بمسرحيات كتاب العبث الكبار مثل (بيكيت ) حيث يتم التلاعب بالألفاظ والكلمات لإثبات فشلها فى تحقيق التواصل الإنسانى ، وتمتزج الرؤية البصرية للمخرجين ( إيثان وجويل كوين ) لترجمة كل هذه المعانى العميقة ، ولإعطاء صورة مؤلمة عن الشر ومصير الإنسان البائس الذي يرجح أن يكون مصير العجائز الضعفاء بمثابة اسقاط واضح واستعارة معبرة عنه ، ومن أبرز إبداعات هذا الثنائى إضفاء الوحشة بطريقتين مختلفتين على مشاهد الفيلم : فى المشاهد النهارية ذات الأماكن المفتوحة حيث الشمس ساطعة يتم استخدام اللقطات البعيدة لإبراز ضآلة الإنسان وسط النباتات الشوكية والصحراء الواسعة ، وفى المشاهد الليلية سواء فى الأماكن المفتوحة أو المغلقة كالحجرات مثلا يتم التلاعب بالضوء واستخدام اللون الأزرق الذى ينقل إلينا الإحساس بالبرودة والموت ، وهناك تتابعات بأكملها يجب تدريسها تؤكد استيعاب المخرجين لتراث سينما التشويق مثل تتابعات هروب ( موس ) فى الماء أو مشهد انتظاره لغريمه " شوجر" ( لاحظ الدلالة الساخرة للإسم )، وهناك دقة واضحة فى استخدام المونتاج لتحقيق لحظات تحبس الأنفاس مع النجاح أيضا فى منع استغراق المشاهد فى الأحداث بشكل كامل حتى يجد وقتا للتفكير والتأمل ، روبما بسبب ذلك لم نشاهد بعض الجرائم التى ارتكبها (شوجر ) اكتفاء بوصول المعنى ، ولا ننسى الإدارة العبقرية لكل ممثلى الفيلم الذين يمتلكون حضورا وفهما لأدوارهم الصعبة ذات الدلالات .

سينما التشويق والعنف ليس إلا إطار نقول من خلاله أى مضمون بما فى ذلك أعقد القضايا الفلسفية والوجودية ، ولي هناك دليل على ذلك مثل فيلم ( لا وطن للعجائز ) الذى يجمدك فى مكانك من التوتر والقلق ، ولكنك تخرج منه وفى رأسك أسئلة لا نهائية ، لقد سألت نفسى مثلا : ( شوجر ) أصيب بالرصاص ولكنه لايموت ، ونراه يسير فى الشارع بقوة وثقة ، والمأمور سيعتزل نهائيا ً ، فهل يمكن أن يكون المأمور اليائس الضحية القادمة ل ( شوجر ) رمز الشر الخارق ؟!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق