الخميس، 3 يونيو 2010

نوستالجيا :
وحدى قاعد فى السينما ..!
تشير كلمة (نوستالجيا )الى معنى الحنين الى الماضى ، والمدهش فعلا أننى كنت أمتلك هذا الحنين قبل أن يصبح (ليا ماضى ) . كنت وأنا فى سنوات الدراسة الإبتدائية أسمع أبى أستاذ الفلسفة وعاشق الشعر يردد أبياتا من الذاكرة للشاعر الراحل (صلاح عبد الصبور ) يقول فيها : صباى البعيد
أحن إليه
لأيامه الحلوة الطاهرة
لأمى تخوفنى نقمة الآخرة
وتهتف إن أرمد الصيف أجفانية
باسم النبى
حفظت عن أبى هذه الأبيات البديعة دون أن أفهم معناها ، ولكنه كان يشرحها لى ، ويحكى كثيراً عن قريته وصباه وأحلامه حتى تمنيت أن يكون لى مثل ذاكرته . لن أتكلف فى أن أحكى لكم فى حنين واضح الى (صباى البعيد ) ، ولكن حتى لا يبدو أننى عجوز فى التسعين يكتب وصيته ( لست كذلك بالتأكيد ) سأحكى لكم ذكريات أكثر قرباً أشعر حيالها أيضا بالحنين مثل ذكريات الطفولة والصبا .
هذه الصفحة تخص ذكريات طريفة داخل صالات العرض السينمائى الخاوية تقريبا من الجمهور . أفضل عادة الذهاب لمشاهدة الأفلام فى حفلات صباحية حتى استطيع التركيز ثم الكتابة بعد ذلك . لست ممن يكتبون ابداً أثناء المشاهدة ، وأكتفى بتسجيل نقاط سريعة أقرب الى العناصر فى نوتة صغيرة فى أثنا ءالإستراحة رغم اعتراضى الكامل على هذا الإنقطاع الذى يخل بتدفق الفيلم وإيقاعه وأسلوب تلقيه كما أراد صانعوه .المعنى : أنا أحب الحفلات الهادئة ولكنى بالتأكيد ضد الحفلات الخاوية التى تجعلنى( وحدى - تقريبا فى السينما ) على وزن الفيلم الشهير ( وحدى فى المنزل ) !
اللافت أن تجاربى مع الصالات الخاوية لم تكن فى أفلام رديئة ، إنما تقول إيه حكمة ربنا . سأحدثك أولاً عن الفيلم الوحيد حتى الآن الذى شاهدته بالمعنى الحرفى بمفردى .. يعنى - وحياتك - كنت فى عرض خاص بالمعنى المباشر : أنا والصالة والفيلم وعامل آلة العرض يظهر وىختفى داخل الكابينة البعيدة ، وحتى أكون دقيقا ً فقد كانت هناك قطة بيضاء تتجول بين المقاعد الخاوية بكبرياء مدهش جعلها ترفض أى دعوة منى لتشاطر المشاهدة . الفيلم المعروض اسمه ( سيلينا ) -انتاج سورى عن مسرحية فيروز الشهيرة (هالة والملك )، ومن بطولة (دريد لحام ) و(ميريام فارس ) و(باسل خياط ) وإخراج(حاتم على ). أما المكان فهو إحدى صالات العرض فى المول الشهير فى شارع الهرم ، والزمان : حفلة الثالثة والنصف عصراً. ما ضاعف شعورى بالدهشة أن عامل العرض لم ينزعج من وجود مشاهد (يتيم ) وتعامل مع الموقف على أنه يدير الفيلم لآلاف المتفرجين . وعندما جاء وقت الإستراحة أوقف الفيلم مع أننى لم أغادر المكان .. ولكنها الأصول . أعجبنى جداً هذا السلوك الإنجليزى فى التعامل .. ولو كنت فى إحدى سينمات وسط البلد ( معظمها وليس كلها ) لما قدموا العرض لشخص واحد حتى لو كان ( فيللينى ) شخصياً فى الصالة . كنت سعيداً بالهدوء والتركيز ، ولكنى كنت حزينا بسبب هذا الكساد الذى لا يستحقه الفيلم رغم ملاحظاتى الكثيرة على العمل التى سجلتها فى مقال طويل نشرته جريدة (جريدة روز اليوسف ) اليومية ، ولم يفوتنى فى مقدمة المقال تسجيل هذا الحدث التاريخى فى حياتى : أن أكون وحدى بمفردى فى الصالة حرفيا لأول وآخر مرة حتى ساعة تاريخه!
فى مرات أخرى ، كنت وسط أفراد لايزيد عددهم عن ثلاثة وسط صالة واسعة ( يرمح فيها الخيل ). عندما نزلت تحفة الراحل (رضوان الكاشف ) (عرق البلح) قررت أن ألحق اشوف الفيلم قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة . ذهبت قبل حفلة الواحدة والنصف الى سينما (ريفولى ) . لا أذكر هل كان ذلك قبل تقسيمها الى عدة صالات أم بعد قرار التقسيم . ما أذكره جيدا ّ أن عامل شباك التذاكر نظر الى باشمئناط ممتزج بالدهشة ومعجون بالقرف ، وقال لى رداً على طلبى حجز تذكرة لمشاهدة عرق البلح :" حفلة واحدة اتلغت .. ما حدش عايز يحجز للفيلم ) . بدلاً من أن تفتّ هذه العبارة فى عضدى زادتنى حرصاً وفضولا لمشاهدة الفيلم ، بل خالجنى شعور قوى أن هذ المقاطعة لا تكون إلا لتحفة حقيقية !على أقرب مقهى جلست بعد أن اشتريت جريدة اليوم ، ونجحت بحمد الله وتوفيقه فى قتل الوقت حتى موعد حفلة الثالثة والنصف ، .كم كانت سعادتى عندما وافق عامل الشباك على أن يحجز لى تذكرة دون أى ملاحظات رغم أن قناع القرف كان مازال فى مكانه . فلما دخلت الصالة الواسعة اكتشفت أننا ثلاثة متفرجين بالعدد . ونظرا لأن الساحة فارغة فقد انتشرنا على مقاعد متباعدة لدرجة أنك إذا دخلت المكان ستظن أن الصالة خاوية . الحقيقة أن قرارى بالعودة فى حفلة الثالثة والنصف كان من قراراتى الحكيمة القليلة إذ أن الفيلم والبلح والعرق تم رفعهم تماما من (ريفولى ) فى اليوم التالى مباشرة ، وأظن أنهم فى هذا القرار وضعوا فى الإعتبار حالة عامل العرض ذو الوجه العابس والمكفهر .
كنا ثلاثة أيضا عند مشاهدة فيلم ( صياد اليمام ) فى حفلة الواحدة والنصف فى سينما (كريم واحد ) . عرض الفيلم سراً تقريباً وبدون دعاية ، ونجحت فى معرفة مكان عرضه بمساعدة أجهزة استخباراتية قوية . عندما طلبت بصوت خفيض تذكرة من عاملة الشباك قالت بنفس درجة الإشمئناط السابق وصفها :" استنى شوية لما يحجز اتنين كمان .. وبعدين الفيلم اسمه صياد اليمامة مش صياد اليمام !". كنت لحظتها فى حالة إرهاق تمنعنى من الجدل معها بشأن عدد طيور الفيلم أو حتى نوعها . وقفت على جنب أمام السينما فى (انتظار جودو ) وهو فى حالتنا هذه اثنان من الجمهور العشوائى الذى قد يدخل الفيلم من باب الفضول أو قتل الوقت . كنت محظوظا عندما حدث ذلك ، ولكن ما إن استوينا عى مقاعدنا حتى بدأ على الشاشة عرض فيلم آخر . عدنا من جديد الى الخارج بعد أن فشلنا فى إسماع صوتنا لعامل آلة العرض الذى يبدو أنه أدار أقرب بوبينة أمامه ، ثم ترك الكابينة ليصطاد اليمام . بحمد الله نجحت الجهود فى استئناف العرض المطلوب . عند المغادرة كنت فى حالة أفضل مما دفعنى أن أقول لعاملة الشباك :" على فكرة الفيلم اسمه صياد اليمام مش صياد اليمامة !. نظرت الىّ فى ذهول ولم تعلق .
وفى فيلم (ملك وكتابة ) ايضا كنا ثلاثة فى سينما (كايرو بالاس ) فى حفلة الثالثة والنصف عصراً . طبعاً مارست الطقوس نفسها بانتظار العثور على اثنين من المتفرجين حتى تصبح الحفلة شرعية ! لحسن الحظ كان أحدهما عاشقاً للسينما وجاء للمشاهدة مع سبق الإصرار والترصد مثلى ، وقد أمضينا وقتاً ممتعا فى المشاهدة والمناقشة بعد العرض . الحقيقة أن ( ملك وكتابة ) لم يصمد فى دور العرض ، ولكن المخرجة (هالة خليل) قدمت فى فيلمها ( قص ولزق ) تحية عذبة لزميلتها (كاملة أبو ذكرى ) مخرجة (ملك وكتابة )، ففى أحدالمشاهد يذهب أبطال الفيلم الى سينما ( كايرو بالاس ) ، ويخرجون من السينما التى يعلوها أفيش (ملك وكتابة ) ويحيط بهم حشد من الجمهور الذى كان يشاهد العرض . أرادت (هالة ) أن تقدم صورة افتراضية لما كان يجب أن يحدث مع (ملك وكتابة ) . مجرد حلم لم يتحقق فى فيلم يحدث بأكمله عن الأحلام المجهضة .
لا أحب أبدا أن اشاهد الأفلام فى قاعات خاوية . بارب ما تكتبها عليا تانى. وأن كنت سأظل دوما من جمهور الحفلات الهادئة !

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق