السبت، 12 يونيو 2010

نوستالجيا :


أفلام سينمائية فى الحرم الجامعى ...!


فى كتابه الممتع ( حياة فى السينما ) يشير الناقد ( أمير العمرى ) الى أنه نجح فى بداية السبعينات فى تأسيس ناد للسينما فى كلية الطب - جامعة عين شمس افتتح عروضه برائعة ( فيسكونتى ) الشهيرة ( الموت فى فينسيا ) । أدهشتنى جدا هذه المعلومة ، وعلقت عليها أنك لو عرضت هذا الفيلم الآن فى قلب الأوبرا لما مر الموضوع بسلام ، وطبعا أترك لخيالك العنان لوضع سيناريو لردود الأفعال إذا كان العرض فى مدرجات جامعة القاهرة أو عين شمس । جئت الى الجامعة قادما من الصعيد فى نهاية العام 1982، ولم تكن صورة التزمت قوية رغم وجود تيارات دينية فى الكليات وفى المدينة الجامعية ، ولكن كان هناك هامش لممارسة النشاط الفنى ، وأذكر أنه فى الساعة الخامسة يوميا كانت كل أجهزة الراديو تُفتح على محطة أم كلثوم لنستمتع ونسمع أغنيات الزمن الجميل । أذكر أيضا أننا كنا نتردد على مسرح كلية التجارة العامر لمشاهدة مسرحيات مليئة بالموهوبين ، ولا أنسى أننى شاهدت مثلا بروفة جنرال لمسرحية محمد صبحى ولينين الرملى ( إنت حر ) ، وقد أخرجها للمسرح الجامعى ( صلاح عبد الله ) الذى كان يعمل وقتها ممثلا محترفا فى فرقة ( صبحى ).


وفى مناسبة أخرى شاهدت مسرحية بعنوان( المجانين )، وفيها رأيت لأول مرة ثلاثة من الموهوبين الذين أصبحوا نجوما فيما بعد وهم : عمرو عبد الجليل بطل العرض ، ومحمد هنيدى ، ومحمد سعد ، وأشهد أن هنيدى وسعد أشعلوا الصالة من الضحك بصرف النظر ععما فعلوه فى السينما بعد ذلك ، (هنيدى) بالتحديد كان يلعب دور مجنون بالكرة يرتدى شورتا وفانلة ، وكان العرض بأكمله مجموعة اسكتشات لا يربط بينها إلا رجل يقول إنه طبيب يلعب دوره( عمرو عبد الجليل )، ويستمع من كل مجنون الى حكايته ، وأتذكر أيضا أننى شاهدت فى هذه الليلة المخرج( يوسف شاهين )لأول مرة ، فقد حضر للمشاهدة بعد نجاح العرض ، ومن خلاله اختار عمرو عبد الجليل لبطولة فيلم ( اسكندرية كمان وكمان ) ، كما اختار ( محمد هنيدى ) فى أحد أدوار الفيلم الصغيرة ، وعلى مسرح كلية التجارة بجامعة القاهرة شاهدت أيضا ( خالد صالح ) فى أدوار متعددة ورائعة ، وكان ايضا كومديانا خطيرا ، ولا أعرف لماذا لم يكتشف المخرجون إمكانياته الكوميدية بشكل أقوى بكثير مما فعلوه حتى الآن ।


أما فيما يتعلق بالسينما فبالطبع لايمكن أن نتحدث عن ناد للسينما تعرض من خلاله أفلام فيللينى وبازولينى وأنطونيونى وبرجمان وكيروساوا ، ولكنى أتذكر مناسبتين شاهدت فيهما أفلاما سينمائية داخل الحرم الجامعى ، لا أعرف كواليس الحصول على الموافقات ، وربما احتاج الأمر الى مجهود شاق ، ولكن فى النهاية حدث العرضان ، وبحضور آلاف الطلاب والطالبات ، ولفيلمين من أهم وأفضل ما قدمت السينما المصرية عبر تاريخها الطويل ।


ربما كنا وقتها فى العام 1986.كانت كلية الإعلام - حيث أدرس- تحتل الطابق الرابع من مبنى كلية الإقتصاد والعلوم السياسية، قبل بناء مقر مستقل ضخم لكلية الإعلام । ولحسن الحظ ، استفدنا سينمائيا من هذه الضيافة حيث تكونت أسرة فى كلية الإقتصاد كان رائدها الدكتور جودة عبد الخالق - أحد أعضاء حزب التجمع وأستاذ الإقتصاد المرموق ، وكان أحد أنشطة الأسرة تنتظيم عروض سينمائية لأفلام مختارة ، وإقامة ندوات مع نجوم وأبطال هذه الأعمال ، وهكذا أتيح لنا - نحن مجانين السينما فى كلية الإعلام - أن نحتل الصفوف الأولى فى المدرج الكبير فى الدور الأرضى بكلية الإقتصاد لمشاهدة فيلمى ( المومياء ) و( عودة الإبن الضال ) فى نسخ سينمائية (35مللى) ، ثم المشاركة فى ندوتين مع صناع العملين أو بعضا من ممثليهم فى حوار شديد الثراء والإمتاع ।


فى عرض فيلم المومياء ، كان هناك خبران أحدهما سئ والثانى جيد ، الخبر السئ هو النسخة الرديئة التى تم عرضها للفيلم حيث تحولت الألوان الى ما يشبه الصورة( الفلو) التى لا تستطيع أن تتبين معالمها ، كانت النسخة التى تم الحصول عليها من هيئة قصور الثقافة أسوأ دعاية للفيلم العظيم ، وكان ما يؤلمنا أكثر أننا كنا قد شاهدنا توا النسخة الأصلية الرائعة فى برنامج (أوسكار ) على إثر وفاة مبدع الفيلم ( شادى عبد السلام ) ، وكانت هذه النسخة (فرجة ) ممتزجة بانبهار لم يفارقنى حتى اليوم كلما شاهدت الفيلم । ولكن الأمر لم يخل من خبر سار وهو حضور نجمة الفيلم الرائعة ( نادية لطفى ) ومصمم الديكور الكبير ( صلاح مرعى ) ، وقد خرجت من الندوة باستفادة عميقة خاصة عندما تحدث صلاح مرعى شارحا أسباب استخدام الفصحى المبسطة فى الحوار ، كما تحدث عن حركة الممثلين والتعبير بالإيماءات والأعين ، وقال الكثير عن مشاكل الفيلم وأبعاده السياسية ، ودفاعه عن الهوية المصرية فى زمن كانت مازال فيه الحديث عما يسمى الجمهورية العربية المتحدة حتى بعد الإنفصال । جعلنى حديث( صلاح مرعى) أكتشف الكثير فى الفيلم الكبير ، وبينما كان القسم الأكبر من الطلاب يحيطون بالرائعة (نادية لطفى )، كنت مع مجموعة أقل نحيط بتلميذ شادى النجيب ، بل إننى شددت على يده بحرارة وعرفان ، وما زلت أتذكر التواضع والحب الذى أحاطنا به صلاح مرعى بعد الندوة ، والطريف أن أحد أصدقائى الأعزاء أحضر لى صورة من تلك الصور التى كانت توزعها نادية لطفى ، وعليها توقيعها بخط يدها ، ومازلت أحتفظ بالصورة حتى اليوم ، وما زلت أقدر نادية لطفى ووفاءها لشادى عبد السلام وحرصها على حضور هذه الندوة الطلابية فى قلب الحرم الجامعى ।


أما عرض فيلم ( عودة الإبن الضال ) فكان أفضل كثيرا رغم أنه لم يخل من المنغصات ، كان المدرج الكبير مكتظا بالطلاب من كل الكليات تقريبا ، وفى الموعد الحدد كان يوسف شاهين مع الدكتور جودة عبد الخالق يجهزان للعرض ، ولن أنسى أبدا أن شاهين كان يشرف على تركيب البوبينات بنفسه ، وأظن أيضا أنه أحضر معه آلة العرض الخاصة به । كان مشهدا رائعا لعاشق حقيقى يقدم لنا أحد أعماله التى يحبها । وكانت المشكلة أن العرض لم يكن متصلا وإنما" بوبينة ""بوبينة "، وفى كل مرة يقف شاهين بكل بساطة للإشراف على التركيب وإدارة الماكينة التى كانت تصدر صوتا مسموعا ، لاشك أننا انبهرنا بكل شئ : بالفيلم الذى لم أكن شاهدته من قبل حيث عرضه التلفزيون سرا ربما لمرة واحدة ، وكنا مبهورين أيضا من بساطة شاهين وحبه للسينما وللجمهور ، وزاد الإنبهار عندما انتهى العرض ، ووقف شاهين مع بطلة فيلمه ( سهير المرشدى ) التى حضرت متأخرة ، وهما يردان على تصفيقنا الملتهب ।


كان( شاهين )فى حالة نشوة كاملة ، ينحنى فى سعادة فيزيد التصفيق ، ينظر الى بطلته ويقبل يدها امتنانا وعرفانا ثم ينحنى من جديد وكأنه أمام جمهور الكوميدى فرانسيز وليس أمام مجموعة من الطلاب بعضهم أقل من سن العشرين ، لم يرفض شاهين الإجابة عن أى سؤال ، وحتى عندما انتهى وقت الندوة ، تحلقنا حوله وانهالت عليه الأسئلة عن أغنية (الشارع لنا )، وعن قرص الشمس الأصفر الباهت الي يتجه اليه بطلا الفيلم اليافعان بعد المذبحة المروعة ، وعن الفتاة التى لعبتها (سهير المرشدى) وصورتها الجميلة وكأنها رمز للوطن المغتصب । كان شاهين سعيدا بجمهوره الصغير لدرجة أنه طلب أن يذهب اليه فى مكتبه (35شارع شامبليون) كل من لم يستطع أن يسأل ، أو من لم يستطع أن يقتنع بإجابات المخرج الكبير ।


قال لى صديق بعد مشاهدة عودة الإبن الضال فى ذهول :" إيه اللى شفناه ده ياجدع " । بد الأمر كما لو أننا لم نشاهد سينما من قبل ، ومازال الفيلم فى نظرى من أهم وأفضل ماأخرج يوسف شاهين ، ولن أنسى أبدا أننى شاهدت هذه التحفة لأول مرة فى الحرم الجامعى ، وأننى استمتعت بالحوار مع مبدعه عاشق السينما والناس بعد العرض .

هناك تعليق واحد:

  1. نعم، لقد لمست ملمحا هاما للسينمائى الحقيقى المتعبد فى محراب السينما، ويقوم بكل الأعمال بعشق حقيقى لهذا الفن، وهو نفس ما يرويه على بدرخان بعيون الطفل الذى تربى فى الاستديوهات. السينما ليست صناعة ولا فن فقط بل هى حياة كاملة. كل منا لديه حكايته عن أول فيلم، وأول عرض وخاصة لمن لم يبدأوا بمشاهدتها فى الشاشة الصغيرة. طقس المشاهدة الجماعية له سحر خاص لمسته بنفسك. تحياتى على نوستالجيا ولكن لم لا تكون حنين.

    ردحذف