الأربعاء، 2 يونيو 2010

( الأفلام ليست بضخامة إنتاجها ولكن بذكاء معالجتها وبقدرتها على التأثير . هناك أعمال قوتها فى هذه البساطة والسهولة الممتنعة مثل هذا الفيلم البريطانى الجميل ( بعيداً عنها ) الذى كتبت عنه هذا المقال فى ( روز اليوسف ) اليومية فى 5 مارس (آزار ) من العام 2008 )


عن الحب الذى يقهر النسيان !


محمود عبد الشكور


الفيلم البريطانى المؤثر (away from her ) أو ( بعيداً عنها ) لمخرجته الموهوبة "سارة بوللى " ، والذى خرج من مولد الأوسكار بلا جائزة ، من تلك الأفلام التى ستعيش طويلا فى الذاكرة لأنه يتجاوز حكاية امرأة عجوز تعانى من مرض الزهايمر الى دورالحب فى صناعة ذاكرة جديدة للإنسان ، وإذا كان الحب يقهر الزمن فى رائعة "توفيق الحكيم " ( أهل الكهف ) ، وإذا كان الحب يسخر من المرض والتقاليد فى رأئعة (جابرييل جارسا ماركيز ) ( الحب فى زمن الكوليرا ) ، فإن الحب فى بعيداً عنها الذى كتبته مخرجته للسينما عن قصة قصيرة ، يتحدى النسيان ويقهر الوحدة مما يجعل من الفيلم حالة خاصة تصنع من الألم أملا وحبا مضاعفا للحياة .


الرائعة (جولى كريستى ) التى عرفها العالم بأدوارها فى أفلام مثل (دكتور زيفاجو ( و(بعيداً عن الزحام المجنون ) تلعب هنا دور الزوجة ( فيرونيكا ) التى يهاجمها الزهاير خطوة خطوة ، وزوجها العجوز " جرانت " ( يلعب دوره باقتدار "جوردون بينسينت ") يحافظ على مشاعرها ويلاحظها متألما . لقد اقترن بها وهى فى سن الثامنة عشرة ، وعاشا معا لمدة 44 عاما . قالت له :"هل سيكون على مايرام أن نتزوج ؟" . قال لها:"نعم" لإنه لم يفكر لحظة أن يكون بعيدا عنها . فى شيخوختها تنسى أماكن أوانى الطعام وتضع بعضها فى الثلاجة ، وفى حفل عشاء تنسى اسم النبيذ .أثناء تزحلقها على الجليد بمفردها تسقط على الأرض ، وتتوه من زوجها الذى يبحث عنها ويسترجعها . تقول له إنها تنسى شيئا ما ولكنها لاتعرف أبدا ما هو وما هى أهميته .لا يجد الزوج مفرامن اقتراح أن تدخل المصحة يزور المكان ولكنه يتراجع . المفاجأة أنها هى التى ستصر على العلاج . شهر بأكمله لن يزورها وفقا لتعليمات الأطباء ، وعندما يعود يجد زوجته شخصا آخر . من الواضح أنها تستغربه ،كما أنهابدأت تهتم بمريض آخركانت تعرفه من قبل من خلال ترددها على السوبر ماركت . الزوج يشعر بالغيرة رغم تأكيدات الأطباء أن اهتمام الزوجة بشخص آخر لايعنى شيئا بسبب مرضها ، ولكن "جرانت" يمكن أن يقبل أن تنسى زوجته كل شئ إلا حبه وشخصه .يلجأ الى زوجة المريض( تؤدى دورها القديرة أوليمبيا دوكاكيس) ، والتى تعانى بدورها من وحدة قاتلة . تشكو الى جرانت حياتها ، وتحاول التقرب منه فى حين يحاول هو أن يدفعها لأخذ زوجها من المستشفى بعيدا عن (فيرونيكا ). تتدهور حالة فيرونيكا . يتزايد المسح التدريجى لذاكرتها وماضيها . يقضى الزوج ليلة مع الزوجة الوحيدة( أوليمبيا ). عندما يعود الزوج الى المستشفى يكتشف أن فيرونيكا بدأت فى حبه رغم أنها نست أنه زوجها . لقد بدأت فى التعاطف مع هذا الرجل الذى يحضر كتابا عن آيسلندا ويقرأه لها . يحتضنها جرانت بحرارة بعد أن ولد الحب من جديد رغم موت الزوج فى ذاكرتها القديمة .
فكرة بديعة قدمتها سارة بوللى فى سيناريو رائع يلعب على المشاعر والأحاسيس ، وأجمل ما فيه أن سارة ابتكرت حلولا سردية وبصرية جيدة للتغلب عن جفاف الحديث عن مرض الزهايمر وتفصيلاته ، وأدركت أن الفيلم ليس عن المرض ولكنه عن الحب والعواطف . كان رائعا اختيار منزل بعيد تحيط به الثلوج كمكان للأحداث ، ويبدأ الفيلم بآثار أدوات التزلج التى كان يستخدمها جرانت وفيرونيكا معا كما ينتهى بنفس الآثار مما يوحى بإغلاق الدائرة ، وتتخلل الأحداث فلاشات سريعة الى الماضى تظهر فيها فيرونيكا ممتلئة الحيوية فى سن الثامنة عشر . فى إحدى اللقطات يستعد جرانت أمام المرآة لزيارة فيرونيكا فى المستشفى فتقطع المخرجة فجأة الى الماضى حيث يقف جرانت أمام المرآة فى شبابه ثم تدخل فيرونيكا الشابة لتحيط به فى حب ، وقد ساهم الحوار خاصة جمل الكتاب الذى يقرأمنه جرانت لزوجته فى نقل مشاعر الشخصيات من الداخل الى الخارج .
من ابتكارت سارة بوللى فى السيناريو أيضا أن بناء الفيلم حتى ثلثه الأول يسير فى خطين متوازيين : الأول اكتشاف جرانت لمرض زوجته حتى دخولها المصحة ، والثانى هو ذهاب جرانت الى ماريان زوجة المريض الذى ارتبطت به فيرونيكا فى المستشفى لكى تساعده على إبعاد زوجها عن فيرونيكا المريضة ، ورغم أن الحدث الأول يسبق الثانى إلا أنهما يسيران جنبا الى جنب بما يقترب من القطع المتوازى ، ويعنى ذلك أن كل لقاءات جرانت وماريان ليست إلا نوعا من( الفلاش فوروارد )أو النظرة للأمام على أحداث ستقع . هذا التلاعب الزمنى يدخلنا فى حالة من الحيرة والإلتباس اللذين شعرت بهما فيرونيكا ، وفى النهاية سنكتشف أنه لا جدوى من متابعة الزمن لأن الأمر يتعلق أولا وأخيرا بالأحاسيس التى يعبر عنها أساتذة التشخيص الكبار فى الفيلم .
على المستوى البصرى قامت المخرجة الموهوبة باستغلال مفردات المكان ببراعة ، واستخدمت بذكاء تبادل التركيز البؤرى بين عمق الصورة ومقدمتها للتأكيد على فكرة تحول ذكريات الماضى فى عقل فيرونيكا الى ما يشبه الضباب ثم تحولها الى صفحة بيضاء تشبه بياض الثلج الذى يحيط بالمنزل . هناك مشاهد لا تنسى نجحت المخرجة فى إدارتها ببراعة مثل مشهد عودة فيرونيكا الى منزلها بدون ذاكرة ، وملاحظتها البريئة على براعة سكان النزل فى ترتيهه ، كما استغلت المخرجة ووظفت الحركة البطيئة بذكاء خاصة فى المشاهد داخل المصحة ، وقد انتقلت هذه الحركة من فيرونيكا الى جرانت الذى تباطأ الزمن بالنسبة له من كثرة دخوله الى عالم المرضى فى المستتشفى ، ونجحت أيضا فى استغلال إطارت الأبواب ودخول الممثلين الى عمق الصورة بشكل متكرر مما حول المرضى وزائريهم الى ما يشبه الصورة الفوتوغرافية الثابتة . لابد أيضا أن نشير الى الموسيقى التصويرية الرائعة التى وضعها ( جوناثان جولد سميث ) مستخدما البيانو والجيتار ، والتى تحولت فى مشهد تسرب الذاكرة من عقل فيرونيكا الى دقات متباعدة على أصابع البيانو ، كما ساهم المونتاج فى ضبط الإيقاع والزج بين أزمنة متباعدة للأمام وللخلف بنعومة وسلاسة .
أما أداء (جولى كريستى ) الذى رشحت عنه لأوسكار أحسن ممثلة فهو درس خصوصى فى التشخيص والتعبير بالوجه وبالعينين بل وبحركة الجسد فى مراحل المرض الأخيرة ، كما أن القدير (جوردون بنسينيت) كان من أهم أسباب ارتفاع أداء (جولى ) و( أوليمبيا دوكاكيس ) . كان الأمر اشبه بمباراة قوية تتبادل فيها الأطراف استعراض قدراتها الفنية ، وأصعب ما فى شخصية جرانت هذا التناقض بين مظهره القوى وداخله الهشّ ، وقد عبر جوردون باقتدار يليق بفنان كبير عن هذا التناقض .
فيلم (بعيداً عنها ) سيمفونية من المشاعر الرقيقة النبيلة أجاد عزفها نخبة من الممثلين المحترفين ليؤكدوا من جديد أن الصعوبة فى البساطة ، وأن الفن رؤية مختلفة لأشياء نراها كل يوم دون أن تلفت أنظارنا .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق