الجمعة، 28 مايو 2010

(هذا المقال الذى نشرته فى مجلة (أكتوبر ) القاهرية فى 18 أبريل ( نيسان ) فى العام 2004 له مقدمات تستحق أن تروى . فقد ذهبت لمشاهدة فيلم ( ميل جيبسون ) المثير للجدل ( آلام المسيح ) ، وعشت تجربة مؤلمة بكل المقاييس جراء متابعة عملية التعذيب والصلب التفصيلية لشخصية أحبها وأراها من عظماء الإنسانية . المسيح عيسى بن مريم العذراء سيدة نساء العالمين . عيسى الجليل الذى أقام مملكة الضمير فى النفوس كما قال عنه بحق ( عباس محمود العقاد ) . خرجت ممسكا قلبى من الوجع خاصة أننى شاهدت سيدات تبكين أثناء المشاهدة . قبل أن أكتب عن الفيلم أعدت قراءة الإنجيل الذى اعتمد عليه الفيلم ، واستقرت فكرتى على التأكيد على قسوة الفيلم ، والإشادة بالتنفيذ الإحترافى له مما جعله قوى التأثير ، ولكن فى أثناء الكتابة انطلقت الى أفكار كثيرة لم تكن فى الحسبان عن دلالة الموقف كله ، وهكذا لم أكتب عن الفيلم بالطريقة التقليدية ، وإنما تركت حشد الأفكار يتدفق ، وجاء المقال الذى لم أغير فيه حرفا على هذا النحو :)
فيلم (آلام المسيح ).. عندما يتعذب الجسد وتنطلق الروح !
محمود عبد الشكور
(1)
حينئذ قال يسوع لتلاميذه :" إن أراد أحد أن يأتى ورائى فلينكر نفسه ويحمل صليبه ويتبعنى ،فإن من أراد أن يخلّص نفسه يهلكها ، ومن يهلك نفسه من أجلى يجدها ،لأنه ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه ؟ أو ماذا يعطى الإنسان فداء عن نفسه؟
( متّى16 :24-27 )
(2)
فيلم ( آلام المسيح ) للمخرج ( ميل جيبسون ) هو أحدث الأعمال الدرامية التى تستلهم حياة السيد المسيح ، وهو أيضا أجد أكثر الأعمال تأثيرا فى المشاعر والقلوب ربما لأنه يتضمن أطول مشاهد التعذيب فى تاريخ السينما . باستثناء مشهد البداية للمسيح وسط تلاميذه قبل دقائق من القبض عليه ، وباستثناء بعض مشاهد العودة الى الماضى السريعة والذكية فإن هناك تقريبا ساعتين من اللكمات والركلات والصفعات والضرب بالسياط بل والطعن بالحراب فى مشاهد متتالية أشبه بالكابوس .. أو كأنها تجربة التجارب وذروة البلاء .
تزيد أهمية الفيلم كذلك بالنظر الى الهجوم العنيف الذى تعرض له من قبل بعض المنظمات اليهودية الأمريكية مما أجبر ( ميل جيبسون ) على حذف العبارة التى قالها اليهود تحريضا على صلب المسيح :( فلما رأى بيلاطس أنه لا ينفع شيئا ، بل بالحرىّ يحدث شغب ، أخذ ماءً وغسل يديه قدام الجمع قائلاً:"إنى برئ من دم هذا البار ! أبصروا أنتم " ، فأجاب جميع الشعب وقالوا:"دمه علينا وعلى أولادنا ". ( متّى 27 :24 -25 )
من المستحيل تقريبا أن نتوقف عند كل الأعمال الدرامية التىاستلهمت حياة السيد المسيح وإلا احتجنا لمئات الأرانب ، يكفى فقط أن نقول أن الإسناد الى الإنجيل ونصوصه كان متفاوتا ، كما أن صورة المسيح والحواريين ( ويهوذا الخائن تحديدا ) بالإضافة الى بلاطس البنطى ومريم الجدلية ..إلخ ، كانت شديدة التباين والإختلاف ، فالمسيح فى الفيلم التلفزيونى الطويل ( حوالى ست ساعات ونصف الساعة ) وعنوانه ( يسوع الناصرى ) للمخرج الإيطالى ( فرانكو زيفريللى ) (1977) يختلف تماما عن صورة المسيح الثائر فى فيلم ( بيير باولو بازولينى) الأشهر (إنجيل متّى) ،لا يمكن لمن شاهد الفيلم الأخير أن ينسى كيف حوّل ( بازولينى ) موعظة الجبل الى بيان تحريضى جدير بأن يلقيه ( أرنستو جيفارا ) فى مناسبة جماهيرية صاخبة !
الجدير بالملاحظة أن الفيلمين يعتمدان بشكل مباشر على الإنجيل فى سرد حياة المسيح ، ولكن أفلاما أخرى أطلقت العنان للخيال فأثارت جدلا عاصفا ، ويأتى على رأس تلك الأفلام ( الإغراء الأخير للمسيح ) فيلم ( مارت سكورسيزى ) المعروف (1988) الذى اشعل مظاهرات الغضب لأنه يفترض أن السيد المسيح قد راوده هذا السؤال الدنيوى على الصليب :" ماذا لو أنه ظل شخصا عاديا ؟ وماذا لو أنه قررأن يتزوج وينجب بدلا من تحمل أهوال العذاب من أجل رسالته ؟!
ومن أغرب الأعمال الفنية التى تناولت حياة المسيح المسرحية البريطانية ( المسيح أسمى النجوم ) للمؤلف (تيم رايس )التى قدمت فى بداية السبعينات من القرن العشرين ،وشاهدتها أيضا فى معاجة سينمائية ،هناك استلهام لوقائع حياة المسيح كما وردت فى الإنجيل ولكن مع تحويل كل المشاهد الى أغنيات حديثة تعزف على إيقاعات موسيقى الروك ورقصة التويست ، بل غن كل شخصيات القصة ترتدى ملابس (مودرن ) باستثناء المسيح نفسه .
فى أفلام أخرى يتم استلهام قصة حياة ورسالة المسيح بشك غير مباشر، وذلك بالتركيز على أثر هذه القصة على نفوس أشخاص آخرين ، واشهر نماذج هذه المجموعة فيلم (الرداء ) الذى أنتج فى الخمسينات من القرن العشرين ، وهو أول فيلم بتقنية السينما سكوب فى تاريخ السينما ، وفكرته المؤثرة حقا فى رمز رداء المسيح الذى حصل عليه جندى رومانى وثنى ، وكيف تغيرت حياته إثر ذلك ، وانتقل تدريجيا الى المسيحية مضحيا بحياته احتذاء بتضحية المسيح من أجل البشرية .
من هذه النوعية ايضا فيلم ( مسيح مونتريال )للمخرج الكندى ( دنيس راكان )الذى يرصد كيف يؤدى تمثيل حياة المسيح اتجاهات مجموعة من الممثلين الضائعين والمطحونين فى مواجهة متطلبات الحياة المادية .
ولا ننس بالطبع فصة الأمير ( بن هور ) الأمير اليهودى المعاصر للمسيح الذى انتجت هوليوود حكاته مرتين : الأولى فى فيلم صامت عام 1925 يحمل اسم ( بن هور ..حكاية المسيح ).. والثانية فى الفيلم ذائع الصيت الذى أخرجه ( ويليام وايلر ) فى عام 1959 بعنوان (بن هور ) ، وحصد الفيلم - كما يعرف الكثيرون -11جائزة من جوائز الأوسكار .
من المفهوم هنا أن اليهود لم يحتجوا على هاتين النسختين اللتين تهمشان قصة المسيح لصالح أمير يهودى يتحدى الرومان ، ولم يحتجوا ايضا على فيلم ( سكورسيزى )، ولكنهم -والحق يقال -هاجموا بضراوة مسرحية ( المسيح أسمى النجوم ) لنها تظهر دور اليهود فى التحريض على صلب المسيح حتى لو كان ذلك من خلال الأغانى .
(3)
نعود الى فيلم (آلام المسيح ) بتوقيع ( ميل جيبسون ) فنقول إنه من أهم الأفلام التى تناولت بشكل حرفى وقائع الإثنى عشرة ساعة الأخيرة من حياة السيد المسيح ، فما يوجزه إنجيل متّى مثلا يستمله الفيلم من إنجيل يوحنا وهكذا ..، ويصل تحرّى الدقة الى حدإنطاق شخوص الفيلم بالآرامية والعبرية واللاتينية بدلامن الإنجليزية ، ولكن ذلك لا يعنى ان (ميل جيبسون ) لم يضف مايدعم هدفه النهائى من نقل تجربة عذابات المسيح القاسية التى تجعله - من وجهة النظر المسيحية- مخلّص البشرية الأكبر، وأبرز تلك الإضافات تفجير صراع سافر بين المسيح والشيطان الذى يظهر مجسدا طوال مشاهد التعذيب حتى يعلن استسلامه وفشله بصرخة هائلة فى النهاية ، ثم بناء علاقة جدلية بين ماضى المسيح داعية التسامح والحب ، وحاضره المؤسى الذى يتمثل فى تجربة جسدية عنيفة ، ومن خلال مشاهد ( الفلاش باك ) -التى كان يمكن التوسع فيها بما يحقق توازنا أفضل - ينتقل المونتير الفذ (جون رايت ) بسلاسة بين اللقطات ليضاعف التاثير العاطفى الى حدود مذهلة خاصة مع اللجوء الى الحركة البطيئة فى مشاهد كثيرة . على سبيل المثال : ننتقل من االنجار الذى يعد خشبة الصليب للمسيح ( فى الحاضر) الى المسيح نفسه ( فى الماضى ) وهويعمل نجارا ليعد مائدة (رمز الخير والعطاء ) ليستخدمها أحد الأغنياء ، أوننتقل من مريم الأم وهى تهرع بالحركة البطيئة لإنقاذ ابنها الذى اسقطه التعذيب ارضا الى مريم الأم ( فى الماضى ) وهى تقوم بنفس الحركة استجابة لاستغاسة ( عيسى ) الطفل .
يواصل السيناريو الكابوسى ضغطه العاطفى لكى يصل مباشرة الى قلب المشاهد فيقدم مناظر لم يذكرها الإنجيل ولكننا لم نشعر ابدا أنها دخيلة على السياق مثل قيام العذراء مريم ومريم المجدلية بمسح دماء المسيح بعد أن جلد 39 جلدة أذابت لحمه وكشفت عظامه ، ولأن وقائع التعذيب صادمة الى درجة القسوة فإن ( جيبسون )اعتمد لمسات تحاول التخفيف من الموقف . محور هذه اللمسات هو استخدام لغة العيون ونظراتها والتعبير بالإيماءة بين الممثلين خاصة بين المسيح ( جيم كافيزيل فى دور شديد الصعوبة يعتمد بشكل شبه كامل على لقطات رد الفعل ) وتلاميذه خاصة ( بطرس )الذى أنكره ثلاث مرات ، ويهوذا الذى قام بتسليمه مقابل عدة قطع من الفضة ، وتستمر لغة الإيماءت والنظرات ( كما لو كنا فى مسرحية طقسية صامتة ) بين المسيح ووالدته (مريم ) التى لعبت دورها ( مايا مورجنستون )، ومريم المجدلية بحضور واضح من ممثلة الدور نجمة الإغراء الإيطالية المعروفة ( مونيكا بيللوتشى ). وفى مشاهد كثيرة نكاد نلمس أجواء التراجيديات الإغريقية العظيمة حيث لا فرار من القدر إلا إليه ، وحيث لا اختيار إلا مواجهة التجارب بشجاعة الرجال .
وتستكمل الصورة لتحقيق أقوى تأثير عاطفى من خلال الموسيقى التى أمتزجت بأصوات الطبول والكورال الفازع ، ولا يتردد ( جيبسون ) - وهوهنا فى أفضل حالاته كمخرج - فى تقديم تكوينات لا تنسى تذكرك بلوحات ( دافنشى ) و( رافييل ) و( كارافاجيو ) . وهل كان يمكن أن يتجاوز الذين أعادوا الحياة الى زمن المسيح فى سنوات النهضة الخالدة ؟
(4)
والآن الى السؤال الأهم :لماذا ركز جيبسون على آلام المسيح وعلى هذا الإنتهاك البشع للجسد الإنسانى ؟ الإحابة ليست صعبة بالنظر الى أن الفيلم يعبر عن وجهة نظر صانعيه - كما تقول اللوحة التى وضعتها الرقابة المصرية قبل عرض الفيلم ، ويعنى ذلك ببساطة أن الفيلم يعبر عن وجهة النظر المسيحية التى ترى فى آلام المسيح المثل الأعلى لافتداء البشرية والتكفير عن خطاياها وخاصة الخطيئة الأولى ، ولكننا نظلم الفيلم كثيرا إذا تعاملنا معه كمجرد فيلم دينى مسيحى إذ أن ما شاهدته يمكن ان يثير أفكارا لا حدودلها فى ذهن أى متفرج مهما كانت ديانته .
الفيلم يعتبر تجربة شاقة تجعل مشاهدها يعيد التأمل والنظر فى كثير من الأمور . هناك مثلا مغزى الصبر على المكاره فى صورته القصوى . لنتذكر أن الفلاسفة الرواقيين كانوا يعتبرون الصبر فضيلة الفضائل ، فإذا اتفقنا ايضا على أن كل إنسان يحمل صليبا على ظهره ( ليس خشبيا بالضرورة )، وأنه يسير فى طريق الألآم لمسافة ما مكابدا ضربات الأيام (ليس شرطا ان تكون الضربات بالسياط أو بالسيوف ) ، فإننا سنتفهم - عندئذ-درس المسيح الجليل الذى تنيأ بمصيره وعرفه فلم يهرب أو يتراجع وكأنه قبل أن يسير الى معمودية الدم حيث الخلاص الأخير بعد أن عمّد بالما ءقبل ذلك .
لاحظ أيضا كيف واجه المسيح هذا الطوفان من الخذلان والتآمر ، وتذكر أن كثيرا من النماذج البشرية قد تقابلها تجارب مماثلة . لقد واجه المسيح الشر المجسد ( الشيطان ) ، والشر الأحمق الذى يجسده الجنود الرومان الذين يمارسون التعذيب بتلذذ وسادية مقززة رغم أنهم وثنيون وليسوا يهودا ، وهناك كذلك نموذج الحاكم الرومانى (بيلاطس ) الذى يعرف الحق ولكنه غير مستعد للدفاع عنه أو التضحية من أجله .هذا النموذج موجود حتى اليوم ,إنه بالضبط الشيطان الأخرس الساكت عن الحق .
لا تنس أيضا كهنة اليهود من الفريسيين والمرائين الذين يتغلون النصوص للفتك بمخالفيهم فى الرأى أو العقيدة ، وتبقى أخيرا معاناة المسيح من خذلان تلاميذه ( وبعضهم أنكره أكثر من مرة ) ومن خيانة( يهوذا ) له مقابل المال .
هذا الفيلم يقول بوضوح إنه قد لا يكون هناك مفر أحيانا من أن يتعذب الجسد لكى تنطلق الروح . إنه فيلم عن سلاح الإيمان الذى تحدث عنه المسيح كثيرا :"فلما رأى التلاميذ ذلك تعجبوا قائلين : كيف يبست التينة فى الحال ؟ فأجاب ( يسوع ) وقال لهم : الحق أقول لكم إن كان لكم إيمان ولا تشكّو، فلا تفعلون أمر التينة فقط ، بل إن قلتم ايضا لهذا الجبل : انتقل وانطرح فى البحر يكون . وكل ما تطلبونه فى الصلاة مؤمنين تنالونه). (متّى 21 :20-22 )
هو ايضا فيلم عن الفرد فى مواجهة القوة الغاشمة . ترى من ينتصر : التعصب فى حدوده القصوى أم التسامح فى حدوده القصوى ؟ الحكمة أم الجنون ؟ السوط أم الكلمة ؟كما إنه - من قبل ومن بعد - فيلم عن تلك التى تأخذ من الجسد لكى تضيف الى رصيد الروح . تجارب مؤلمة حقا ولكنها تستحق لأنه :" ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه ؟".
وإنه سؤال - لو تعلمون - عظيم .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق