الجمعة، 21 مايو 2010

( لولا الحماس الذى أكتب به عن الأفلام التى أراها مختلفة ما كتبت شيئا عن السينما ، فلا يروقنى أبدا دور حفار القبور للأفلام الرديئة وما أكثرها ، ولكن يروقنى جدا أن أكون عرابا للأفلام الجميلة . وفى سبيل الأمل بوجود فيلم رائع أو متميز أبدو مستعدا لاحتمال عشرين فيلما رديئا - أكثر أو أقل حسب القدرة على التحمل ! وهذا المقال عن فيلم ( العطر - قصة قاتل ) نشر لى ضمن ملف خاص أعددته بعنوان نساء على الشاشة البيضاء يوم الأحد 15 يوليو ( تموز ) فى العام 2007 فى مجلة ( أكتوبر ) القاهرية، ويمثل المقال لحظة حماس لفيلم أحببته مأخوذ عن رواية عشقتها )امرأة فى زجاجة من العطر ! محمود عبد الشكور
(1)أنا اللى بالأمر المحال اغتوى

شفت القمرنطيت لفوق فى الهوا
طلته ما طلتوش أيه أنا يهمنى
وليه .. ما دام بالنشوة قلبى ارتوى
عجبى !
" صلاح جاهين "
(2)
تذكرت هذه الرباعية البديعة للراحل الكبير " صلاح جاهين " مرتين : الأولى عندما قرأت الرواية الإستثنائية ( العطر - قصة قاتل ) للروائى المتميز ( باتريك زوسكيند ) ، والتى جعلته أديبا عالميا بعد طباعتها بأكثر من عشرين لغة ، والمرة الثانية عندما شاهدتها فى فيلم جديد عرضم}خرا بذات العنوان ( العطر - قصة قاتل ) للمخرج الألمانى ( توم تيكفر ) ، وقد حقق الفيلم نجاحا مستحقا ، وحصد أرباحا لشركة " كونستانتين " البافارية للإنتاج السينمائى تقدر بحوالى خمسين مليون يورو .







الرواية والفيلم حدثان مهمان مهما اختلفت حولهما الآراء والتعليقات ، وبطلهما شاب خرج من الواقع القاسى ليحلم بالأمرالمحال - على حد وصف جاهين - وليحققه أيضا ، ثم ليدفع فى النهاية الثمن من روحه وجسده بعد أن ارتوى قلبه بالنشوة الأبدية ، وهكذا أصبح " جان باتيست جرنوى" - وهذا هو اسمه رمزا للإنسان الذى يبحث عن المطلق ، ويسعى وراء فكرة ، ويهب نفسه لتحقيقها مهما كانت العواقب ، وكان حلم " جرنوى "أن يصبح أعظم صانع للعطور فى العالم بعد أن وهبه الله أنفا استثنائيا يشم ادق الروائح فيعيد تحليلها وتركيبها وكأنه مصنع للعطور ، وبعد أن تيقن أن العطر هو روح الأشياء استحوذت عليه فكرة أن يختزل الإنسان فى قارورة عطر ، وبدأ فى سبيل تحقيق هذا الأمر المحال سلسلة من جرائم قتل فيها 25 فتاة ليحصل على رائحة أجسادهن ، وليحاول أن يحتفظ بهذه الرائحة الى الأبد .







فكرة الرواية - والفيلم تقريبا يحافظ على معظم أحداثها - مذهلة فى بساطتها وتعقيدها فى آن واحد ، فالإنسان قد يكون كلمة أو موقف كما يقول الوجوديون ، أو قد يكون بصمة كما يراه خبراء الجريمة ، وكان الموسيقار " محمد عبد الوهاب " يقول عن نفسه " أنا مجرد اذن كبيرة " ، ولكن أن يصبح الإنسان رائحة فهو امر مثير يفتح آفاقا واسعة للتأويل والتفسير ، والقول بأن العطر هو روح الأشياء يكاد يدفعنا دفعا للربط بين ( الروح ) أو "ما به حياة الأجساد " - كما يعرفها المعجم الوجيز ، وبين الرائحة " وتعنى النسيم طيبا أو نتنا وفقا لذات المعجم " ، وما اشبه العطرتحديدا " وهو الرائحة الجميلة " بالروح : كلاهما يبعثان الحياة ، وكلاهما يتبخران سريعا فيفسحان المجال للموت .





النجاح المدوى للرواية التى طبعت لأول مرة عام 1985 ، واعتبرها الكثيرون من علامات الرواية فى القرن العشرين ، يرجع فى رأييى الى أنها تتعامل مع حلم الإنسان بالمحال ، وتترجم أفكارا فلسفية عميقة من خلال حدوتة شائقة لا يمكن أن تتركها دون أن تعرف نهايتها ، ومثل كل الأعمال العظيمة هناك مستويات مختلفة لهذا العمل الإبداعى : المستوى الواقعى الذى ينقلنا الى القرن الثامن عشر بكل تفاصيله وحروبه ومشاكله ( المؤلف درس التاريخ بجامعة ميونيخ لمدة ست سنوات ) ، ثم الدراسة الدقيقة لعالم صناعة العطور ووسائل استخراجها ، وهناك أيضا المستوى النفسى حيث ترسم الرواية - والفيلم كما سنرى -حالة من الهوس لدى انسان مهمش ومنبوذ من المجتمع يدفع حياته ثمنا للبحث عن الإعتراف والحب ، وهناك ثالثا المستوى الأسطورى حيث تبدو الرواية بأكملها وكأنها صياغة حديثة لأسطورة برومثيوس الإغريقية : ذلك الفتى الجسور الذىسرق النار ( رمز النور والمعرفة ) من أجل البشر ، فغضبت عليه الآلهة ، وانتقمت منه بتسليط جوارح الطير عليه لتنهش كبده ، ثم تعيد الآلهة خلقها من جديد ، ويستمر النهش والخلق فى سلسلة جهنمية لا تنتهى من العقاب ، وسنرى فى الرواية أن "جرنوى "يسرق الجمال ويضعه فى زجاجة عطر ، ثم يأكله البشر حرفيا فى نهاية الأحداث ،ويقول " زوسكيند " فى روايته (ترجمة نبيل الحفار -دارالمدى ) : لقد أنجز - يقصد " جرنوى " - الفعل البروميثيوسى ، الشرارة الإلهية ، هذه الشرارة التى لم يحققها لنفسه إلا بعناده ومكره الدائمين وبمهارته ، هذه الشرارة التى يحصل عليها الآخرون مجانا منذ ولادتهم ، واتى حجبت عنه من دونهم جميعا ، لقد حقق أكثر من هذا !، إنه هو الذى زرع هذه الشرارة فى نفسه بنفسه ، فهو إذن أعظم من " برومثيوس " !





برو مثيوس سارق ، وجرنوى قاتل ، فالرواية والفيلم يتعاملان معه تماما مثل الشخص الذى قطف زهرة فقتلها طلبا لروحها ولرائحتها ، أو كأنه كيميائى عصرى يستخدم أعقد العمليات لكى يعيد الإنسان الى جوهره الإلهى النبيل ، لكى يحول قطعة الطين الى أثير أو ( أسنس ) وهو تعبير مزدوج لجوهر الأشياء ولأصل العطر المركز . بكل هذه المعانى نحن أمام رواية صعبة ، لها مظهر حواديتى بسيط وشائق، ومخبر فلسفى عميق ، والعنصران يمتزجان بصورة معقدة على صفحات الرواية المكتوبة ، وأىّ خلل فى المقادير ( على اعتبار أننا نتحدث عن صناعة العطور ) كفيل بتحويل رواية من الوزن الثقيل الى فيلم تشويقى ساذج عن شاب يقتل الجميلات .





(3)





من أجل ذلك قال مخرجون كبار مثل " مارتن سكورسيزى " إن العطر رواية رائعة ولكن من المستحيل تحويلها الى فيلم سينمائى، وكان منطقهم مقبولا بالنظر الى صعوبة نقل المعانى الفلسفية بالإضافة الى أن محور الرواية هوحاسة الشم التى يستحيل للصورة أن تنقلها للمشاهد ، كما أن هناك فقرات شاعرية فى الرواية تجسد العالم الداخلى لبطلها ، وكأنها تعبر عن حياته الروحية مثل هذه الفقرة الوصفية ص 148 : " كان قلبه قصرا أرجوانيا فى صحراء صخرية ، متداريا وراء كثبان ومحاطا بواحة مستنقعية ، خلف سبعة جدارات حجرية ، وما كان ممكنا الوصول إليه إلا جوا. كان يشتمل على ألف حجرة وألف قبو وألف صالون فاخر بالإضافة الى كنبة أرجوانية يضطجع عليها " جرنوى " الذى لم يعد الآن ذاك " جرنوى " العظيم ." هنا - كما فى فقرات أخرى كثيرة - رحلة داخل الروح من الصعب أن تجد السينما لها معادلا بصريا بنفس تأثير الكلمات ، ولا شك ان الكلمة المكتوبة تطلق الخيال فى حين أن الصورة تقيده .



ولكن المخرج " توم تيكفر " - الذى بهرنا من قبل بفيلم ( إجر لولا ..إجر ) تصدى للمهمة المستحيلة وكأنه اغتوى - على حد تعبير " صلاح جاهين " برواية العطر ، وقد ترجم إعجابه بالرواية فى صورة المحافظة تقريبا على معظم أحداثها إلا ما احتاجه التكثيف والإيجاز الدرامى ، كما أنه أراد أن ينقل التعبير عن الجوانب النفسية للأشخاص ( وخاصة جرنوى بالطبع )، فاستخدم صوت الراوى بأداء الممثل الكبير " جون هارت "، وحاول باستخدام قطعات المونتاج أن بترجم بصريا بالصورة واللون انتقال الرائحة من أنف الى أخرى ، وابتعد قدر الإمكان عن أصعب فصول الكتاب ، وهو الجزء الثانى من ص133 الى ص 185 رغم أهميته البالغة فى ترجمة الرحلة الروحيةل " جرنوى " وصولا الى قراره بأن يهيمن على الروائح ليسيطر على قلوب البشر( ص 178 )ثم نجاحه فى ذلك بعد إقامته مع المركيز دولا تيلاد- إسبيناز ، وهى شخصية لا أثر لها فى الفيلم ، ويبدو أن المخرج حاول المحافظة على إيقاع فيلمه ومظهره التشويقى حيث تنتهى الأحداث نهاية مفاجئة بالفعل لمن لم يقرأ الرواية ، والواقع أن من لم يقرأ الرواية قبل مشاهدة الفيلم سيشعر بمتعة أكبر مقارنة بمن قرأها ثم شاهد الفيلم ، ولكن " توم تيكفر " نجح فى رأيى فى أن يثبت إمكانية تحويل العطر الى فيلم جيد ، بل إن من لم تتح المقارنة بين الفيلم والرواية المأخوذ عنها قد يرى فى الفيلم عملا رائعا وأصيلا .



بعض النقاد قد يرون فى التزام السيناريو السينمائى بأحداث الأصل الروائى عيبا خطيرا ، والرأى عندى أن الإلتزام بالأصل الى درجة النقل ، أوعدم الإلتزلم كليا ليس خيرا ولا شرا فى ذاته ، إنما ينبغى القياس الىمدى نجاح السيناريو فى ترجمة الأصل الأدبى الى لغة سينمائية مما يجعل المشهد المكتوب فى الرواية كأنه كتب للسينما ، وبهذا المعيار فإن فيلم العطر قد نجح بامتياز فى جعلنا نشعر بذلك ( قارن بين مشهد تنفيذ الحكم فى جرنوى بين الفيلم والرواية ) ، ويغيب عن النقاد عادة أنه ليس كل مشاهد للفيلم سيذهب لشراء الرواية وقراءتها للبحث والفحص ، فإذا أتقنت السينما تجسيد العالم الروائى أو المسرحى على الشاشة تكون تكون قد أسدت معروفا عظيما للذين لا يقرءون ، وهذا ما حدث بالفعل فى الأعمال السينمائىة التى نقلت بأمانة أعمال تولستوى أو شيكسبير ,صحيح أن الإبتكار والرؤية الخاصة لهذه الأعمال أمر رائع ولكن النقل الأمين لها ليس شيئا هينا ، والمشاهد - فيما أظن -فى حاجة للنوعين معا .



(4)






سيناريوفيلم العطر جيد وناجح فى التعبير عن عالم الرواية التى أخذ عنها وإن لم يستطع بالطبع أن يترجم كل أبعادها الفلسفية ، وفى المقابل نجح الفيلم فى تشويق المتفرج ، والسيطرة على اهتمامه حتى المشهد الأخير ، وبدا صوت الراوى أحيانا و كأنه صياغة حديثة للكورس فى الدراما الإغريقية الذى كان يتولى مهمة الشرح والتفسير والإختزال والتعليق على الأحداث .





بداية الفيلم ذاتها جديرة بعمل تشويقى متميز حيث نبدأ من حيث انتهت الرواية : المتهم الشاب " جرنوى" فى الظلام داخل زنزانته. يضاء وجهه تدريجيا فيبرز أنفه فى مقدمة الكادر . يقتادونه أمام الجماهير الغاضبة . يقرأ أحدهم منطوق الحكم عليه: " يوضع على الصليب ورأسه الى السماء . يضرب 12 ضربة تهشم مفاصل يديه وقدميه ".


الكاميرا تقترب من أنفه ليملأ الشاشة ثم تدخل دهاليزها المظلمة ، وهنا ينزل عنوان الفيلم : (العطر) .. فى المشاهد التالية سيدخل صوت الراوى لينقل عبارات بأكملها من الرواية ، سيحدثنا عن " جرنوى " منذ مولده حيث سيظهر كشخص استثنائى يذكرنا على نحو ما بشخصية " أوسكار " فى رائعة الألمانى ( جونترجراس ) " الطبلة الصفيح " .ولد جرنوى فى أقذر مكان فى باريس .. أمه بائعة السمك القذرة وضعته فى قلب السوق .. كان مشهورا عنها التخلص من أطفالها أو تركهم للموت ، ولكن جرنوى صرخ ففضح محاولة أمه للتخلص منه ، وهكذا كان أيضا سببا فى محاكمتها وشنقها . فى انتقالات سريعة يذهب الوليد الى ملجأ لليتامى . الأطفال يحاولون قتله ولكنهم يفشلون . فى سن الخامسة يبدو عاجزا عن الكلام ، ولكنه يكتشف فجأة قدرات أنفه الخارقة ، هنا تبرع الكاميرا وقطعات المونتير فى نقلنا الى كل الروائح التى يشمها : التفاح العطن .. الماء البارد ..الحجر الصلد ..الفأر الميت !


يباع جرنوى الى صاحب مدبغة للجلود بشع الوجه يدعى جريمال . بعد سنوات من العمل معه يتاح ل"جرنوى " أن يصطحب سيدة الى المدينة ، وهنا يبدأ فاصل جديد من السياحة البصرية بالكاميرا الذكية التى تترجم انبهار جرنوى ، أو بمعنى أدق انبهار انفه بما تشمه من روائح . يقوده أنفه الى نت صانع عطر شهير يدعى بليسييه ابتكر عطرا أطلق عليه اسم (الحب والروح ). انف جرنوى يحتفظ برائحة العطر ويطارد فتاة رائعة الجمال .. يحاول أن يتشممها .. تصاب بالفزع .. يحاول أن يكتم صوتها . يكتشف أنها ماتت دون قصد .. يبدو حزينا ونادما .. يمزق ملا بسها محاولا الإحتفاظ برائحتها . عندما يعود الى سيده يعاقبه بالضرب ، ولكنه فى نفس الليلة يكتشف أنه جاء الى الحياة من أجل شئ واحد فقط هو أن يحتفظ بالرائحة الى الأبد .


يبدأ فصل جديد من الأحداث بظهور شخصية " بالدينى " بأداء النجم الأمريكى " داستين هوفمان ". إنه صانع عطور كسدت بضاعته بعد أن اكتسح عطر ( الحب والروح ) السوق بأكمله ، وفى مشهد بديع يحاول أن يستخدم منديله فى التعرف على مكونات هذا العطر " هل هو مصنوع من زهر الليمون والقرنفل والقرفة ؟!" . فوتو مونتاج وأداء متمكن وتعبيرلا ينسى على وجه هوفمان يساهم فى تكثيف اللحظة . نعرف أيضا انه يحاول أن يصنع عطرا لأحد النبلاء يتجاوز عطر " بليسييه ".


جرنوى يطرق باب بالدينى حملا جلود مدبوغة أرسلها إليه جريمال .. يتشمم معمل العطور بكل قواريره الزجاجية .. يندهش بالدينى عندما ينجح جرنوى فى التعرف على رائحة ( الحب والروح ) داخل ملابسه ، ثم يذهله بعرض تقديم مكونات هذا العطر واحدة تلو الأخرى ، بل ويقترح على بالدينى أن يصنع له عطرا أفضل .

هذا المشهد المنصل يكثف صفحات عديدة من الرواية ، كما ينجح المخرج فى تجسيد التأثير الساحر للعطر الذى ابتكره جرنوى يدويا على بالدينى حيث ينتقل صانع العطور الى عالم آخر رائع بالألوان ، ويتلقى قبلة يترجم القدير هوفمان نشوتها بإغماض عينيه . يشترى بالدينى " جرنوى " لكى يعمل لديه ، ويحاول أن يعطيه خبرته ويأخذ منه قدرته على تمييز الروائح وتحليلها . جرنوى يقول له إنه يمتلك أفضل أنف فى فرنسا. نتابع جهودهما لاستخراج قدر ضئيل من العطر من 10 آلاف زهرة حمراء . ينبهر جرنوى بفكرة الإحتفاظ بالرائحة كما حدث فى العطور التى انبعثت من مقابر قدماء المصريين . فى مرحلة تالية يعمل جرنوى بقوة ولكنه لايحصل على شئ . يشعر باليأس فصيبه المرض .يعاجه بالدينى وينصحه بالسفر الى( جراس ) حيث يستخدم أسلوب نقع الزهور بدلاً من تقطيرها .

يمر الفيلم سريعا على رحلة جرنوى الى جراس التى ستستغرق فى الرواية سبع سنوات، وإن كنا سنتوقف عند تجربته الروحية داخل الكهف ، والتى سيكتشف جرنوى من خلالها أنه قادر على شم كل الروائح إلا رائحة جسده ، وكأنه يفقد نفسه تدريجيا فى سبيل تقطير الإنسان والجمال واختزاله فى زجاجة عطر . المخرج ومدير التصوير يقدمان هنا مشاهد باذخة الجمال للحقول والزهور فى الطريق الى جراس حيث سيعمل جرنوى فى أحد معامل العطور ، وهناك سيتعرف على طريقة استخدام الدهن الحيوانى لامتصاص العطر من الزهور فتموت كأنها تنام . هكذا يقولون له ، وهكذا سيحاول أن ينقل نفس الفكرة من الزهور الى النساء .

لن يتوقف جرنوى عن الشم . تبهره رائحة حسناء تدعى لورا تعيش مع والدها النبيل أنطوان ريتشى . تبدأ تجاربه بقتل إحدى الفلاحات ووضعها فى إناء زجاجى ضخم يستخدم لاستخلاص الرائحة من الزهور ، تتوالى الضحايا لتصل الى 24 امرأة يضربهن على الرأس بعصا غليظة .. يحلق شعورهن .. ويغطى أجسادهن بدهون الحيوانات لاستخلاص الرائحة .. لا يغتصبهن ولا يشوه أجسادهن .
النبيل ريتشى يهر ب بابنته الى قلعة بعيدة . جرنوى يستخدم أنفه فى متابعتهم رغم تنكر لورا فى زى فارس . يقتحم حجرتها ويقتلها بذات الطريقة . تكشف الشرطة بقايا شعور وملابس ضحاياه فى المكان الذى يعمل فيه . يقبض عليه ويعذب . يسأله انطوان : " لماذا قتلت ابنتى ؟" يرد "جرنوى ":" لأنى كنت أحتاج إليها ".
نعود الى مشهد البداية :جرنوى فى السجن يمسك فى يده زجاجة عطر . الحراس يضربونه ويقتادونه الى ساحة تنفيذ الحكم . الآلاف يجتمعون فى الساحة : فلاحون وفلاحات ورجال دين ونبلاء ، وصليب ضخم يتوسط الساحة أمامه جلاد عملاق يمسك بعصا غليظة . ينزل جرنوى مرتديا حلة زرقاء أنيقة ، يبدو أنه وضع العطر فى ملابسه ، يفسحون له الطريق بانبهار . يتقدم الى الصليب فيجثو الجلاد بين يديه . يصرخ فى نشوة : " إنه برئ .. برئ ".جرنوى يحمل منديله المضمخ بالعطر ويحركه أمام الجموع التى تتمايل بنشوة لا يمكن السيطرة عليها . تحريك رائع للمجاميع وكأننا نشاهدمسرحية طقسية . فجأة يبدأ الجميع فى ممارسة جماعية للحب دون أى تفكير . مشهد يذكرنابمشهد مماثل فى فيلم أنطونيونى المعروف ( نقطة زابريسكى ). الراوى يحدثنا عن براءة جرنوى وإلصاق التهمة برئيسه فى معمل العطور ، ويحدثنا عن احتفاظ جرنوى -سارق الجمال - بزجاجة تجعله محبوبا فى كل مكان يذهب اليه ، ولكنه يختار الذهاب الى سوق السمك حيث ولد . هناك سيهاجمه المشردون القذرون ، وسيلتفون حوله ليمزقونه فى شهوانية وشبق . فى الصباح لن يتبقى منه سوي ملابسه يتخاطفها الأطفال . تهبط الكاميرا الى الأرض لتملأ الكادر زجاجة عطر فارغة .
الى درجة كبيرة ينجح فيلم العطر فى تجسيد عالم الرواية حيث مأساة شاب خرج من قلب القبح والرائحة النتنة ليصنع أعظم العطور . أليس هذا هو الإنسان حرفيا الذى خرج من ماء مهين لكى يصنع الجمال ويتذوقه ؟ كل العناصر الفنية فى الفيلم على مستوى رفيع : الإضاءة مثلا على وجه جرنوى تقسمه الى قسمين مضئ ومظلم ترجمة لتنازع الخير والشر لروحه ، والمونتاج الخلاق يحافظ على إيقاع متدفق وشائق ، كما أن مشاهد الفوتومونتاج تكثف الأحداث ببراعة وتنقلنا بسلاسة بين ازمنة وأمكنة متعددةاستخدام المخرج البارع للقطات المقربة ( الكلوز أب )كان متميزا ومؤثرا خاصة فى تركبزه على العيون والأجساد والأنوف كما جاء توظيفه لإمكانيات الكمبيوتر جيدا للإيحاء بسرعة حركة الكاميرا ( مشهد هروب لورا ووالدها الى القلعة ) بالإضافة الى براعة استخدام الألوان ودرجات الإضاءة بين الأقبية المظلمة والحقول المفتوحة .
أما أداء الممثلين فقد كان رائعا بشكل عام خاصة الممثل الإ نجليزى ( بن ويتشاون ) فى دور جرنوى الصعب الذى يعتمد على الأحاسيس الداخلية المتناقضة والتى يجب أن يترجمها الوجه ، وقد وصلت براعة هذا الممثل الذى ظهر بجسد هزيل الى درجة التمثيل بأنفه ، بمعنى أنه نجح فى أن ينقل إلينا نشوته المطلقة بالروائح التى يتشممها فى كل مكان . بالطبع لاجديد فى الحديث عن أداء داستين هوفمان الذى منح شخصية بالدينى حيوية فائقة فى حين لم تمثل الأدوار النسائية سوى جمالا باذخا ولافتا يثير النشوة الروحية ، وهذا بالضبط ما حققته جميلات الفيلم !

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق