الأحد، 23 مايو 2010

نوستالجيا :
من الدرجة الثالثة الى مركز الثقافة السينمائية !
أول مرة ذهبت فيها الى سينما درجة ثالثة مازالت محفورة فى الذاكرة مثل أول مرة ذهبت فيها الى مركز الثقافة السينمائية القابع فى وسط البلد (35 ش شريف ) ، والذى يعرف كل عشاق السينما فضله وأياديه البيضاء رغم أنه مجرد شقة فى عمارة عتيقة !
كنا خمسة أو ستة طلاب جامعيين ( زى الورد ) يعانون ملل ما بعد تناول العشاء فى المدينة الجامعية التابعة لجامعة القاهرة ذات ليلة شتوية باردة . لا أذكر من تحديداً الذى اقترح أن نقتل الملل بأن نذهب ( بربطة المعلم ) الى سينما الدرجة الثالثة الشهيرة الكائنة فى قلب ميدان الجيزة العامر.الشئ المؤكد أننى لم أكن صاحب الإقتراح رغم شهرتى كأحد دراويش السينما ولكنى كنت اشترط أن تكون الأفلام معروضة فى صالات الدرجة الأولى لأن سمعة الصالات الأخرى ( مش ولابد ) . ولكن التردد العابر سرعان ماتلاشى تماما عندما قال أحد الخبثاء إن " البروجرام " حافل ودُرّته هذا المساء فيلم ( المذنبون ) الذى طبقت حكايته مع الرقابة الآفاق ، والذى أختير فى تلك الفترة ( منتصف الثمانينات تقريبا ) ضمن قائمة نشرتها مجلة ( آخر ساعة ) عن أفضل عشرة أفلام مصرية حتى ساعة تاريخه.
توكلنا على الله ، وكان منظرنا مهيبا حقاً ونحن نتجاوز البوابة الكبرى للمدينة كعصبة من أولى القوة يبدون كما لو أنهم ذاهبون لمؤازرة زميلهم الفالح فى دفاعه المشهود عن أطروحته للماجستير أو الدكتوراة . ولأن المسافة ليست بعيدة الى ميدان الجيزة فقد قررنا أن نقطعها مشيا على الأقدام ، وأصر أحد أفراد الجروب ( بمصطلحات الفيس بوك ) أن نذهب عن طريق تمثال نهضة مصر الشامخ لكى يكرر طقسا ً وثنيا فيما أظن وهو أن يُسمعنا قصيدة ( ثورة الشك ) إلقاءً ونحن ممددين على النجيل أسفل التمثال . حرصاً على تماسك الجروب وافقنا على تحمل صوت صاحبنا الأجش الذى يثير أكبر ثورة شك فى نفس أى دورية شرطة راكبة أو مترجلة . بعدها قفزنا مسرعين لاستكمال الرحلة حتى ظهرت السينما من بعيد تعلوها أفيشات باهتة ويتحلّق أسفلها بعض بائعى اللب والسودانى . أبرز ما لفت نظرى أن الأفيشات الأربعة المتجاورة لم يكن بينها أفيش ( المذنبون ) ، ولكن صديقنا ( أبو العُريف ) أفتى بأن ذلك لايعنى شيئا فى هذه الصالات التى تعتمد على المفاجآت على طريقة (جورج بوش ) فيما بعد فى الصدمة والترويع .
اخترنا أن نحجز( لوج)تحت وطأة تضخم شعورنا الطبقى ، ولا أعتقد بأى حال من الأحوال أن كل هذا الجيش قد دفع أكثر من عشرة جنيهات ، ولأن العرض مستمر ، فقد أخذنا نتخبط وسط الظلام الدامس يقودنا "بلاسير" قصير وله كرش ضخم ويشبه بصورة ملحوظة ممثلا تيفزيونيا قديما راحلا اسمه ( مصطفى الكواوى ). المدهش فعلا أن الرجل لم يتوقف من إلقاء التعليمات :" خش يمين ".. "إرفع رجلك " .."إفرد الكرسى وصللى ع النبى " .."إمسك ايدين اخوك " مع أنه لا يحمل معه إلا مشروع بطارية مرتعشة الضوء وعلى وشك النفاد . كان حتمياً أن نصطدم بالأقدام والأرجل ، والحقيقة أن ألفاظ جمهور اللوج لم تكن أفضل حالا - فيما أظن من جمهور الصالة ، بل إننا اكتشفنا أن حائطا واطئا يفصل بين الجمهورين بحيث يبدو الفصل الطبقى نظريا وافتراضيا . أما الشاشة فكانت تتراقص عليها خيالات باهتة فشلت فى تبين ملامحها ، وأفاد أقرب متفرج أننا نشاهد الآن فيلما (شديدا) بعنوان ( امرأة ورجل ) بطولة رشدى أباظة وناهد شريف ، والحقيقة أن شريط الصوت كان يصدر ( حشرجة ) تؤكد فعلا أن المشهد (شديد) حقاً ولكن الصورة غائبة ، أو فلنقل أن الخيال لابد أن يلعب دوره على أساس أننا فى ( دار الخيالة ) !
طبعا لا تسألنى عن الأفلام لأننى تقريبا لم أشاهد ولم اسمع شيئا ، ولكن فى منتصف العرض تقريبا ( لست متأكدا لأننى فقدت الإحساس بالزمن ) حدثت واقعة لا تنسى حيث انفجر هرج ومرج واختلطت الأصوات والصرخات ، واندفعت فى برهة من الزمن تحت ضغط المندفعين لأجد نفسى عابرا للحائط الواطئ وفى قلب الصالة ، وبنفس السرعة عدنا الى أماكننا وكأنك أعدت شريطا سينمائيا الى الوراء . من بعيد جاء صوت البلاسير عاتبا "معقولة ياافنديات تجروا كدة عشان واحد اتخانق فى الصالة ؟!" ،بل إن الأخ الكواوى سأل أحد زملائنا عن كُليّته ، فلما عرف أنه يدرس الحقوق ضرب كفا بكف مستغربا أن يصدر هذا التصرف الأرعن فى الجرى والقفز من شخص يدرس الحقوق . انفجرنا ساعتها فى ضحك هيستيرى لم يتوقف حتى بعد خروجنا سالمين ، وكان أفضل ما حدث لنا فى طريق العودة أن زميلنا بتاع ( ثورة الشك ) لم يجرؤ على أن يسمعنا قصيدته تحت التمثال العظيم وإلا أسمعناه - تحت ضغط القهر وخيبة الأمل - قصيدة " أيها الراقدون تحت التراب " !
ولكن ذكرى الذهاب لأول مرة الى مركز الثقافة السينمائية أفضل حالا بكثير وإن كانت قد بدأت ايضا من المدينة الجامعية بعد العشاء وفى ليلة شتاء باردة ! كنت عائدا الى حجرتى عندما قابلت صديقى الجميل وزميل الدفعة ( إبراهيم عيسى ) - وهو نفسه رئيس تحرير جريدة (الدستور)حاليا. سألنى بصوته المميز وبعبارات تلغرافية تختصر المسافات : " فاضى نروح نشوف فيلم ؟!" رددت بسرعة وبنفس الحماس الإبراهيمى :" ولو مش فاضى ياراجل ..يللا بينا ". لم أسأل عن الفيلم أو المكان فقد كنت أعرف ولع إبراهيم -مثلى - بالسينما ، بل أتذكر أنه وقتها كان مشغولا بكتابة فيلم بطله ملاكم شاب ، ولا أعرف مصير هذا المشروع الآن . ركبنا أوتوبيسا مكتظا يصدر حشرجة لا تختلف كثيرا عن صوت سينما الدرجة الثالثة بالجيزة ، ورغم ذلك لم نشعر بالوقت لأننا فتحنا موضوع فيلم كنا منبهرين به عندما عرضه برنامج (نادى السينما ) فى تلك الفترة وهو فيلم ( فرانسيس ) الذى يحكى عن صعود وسقوط الممثلة المغمورة ( فرانسيس فارمر ) . كنا مبهورين بالطريقة التى لعبت بها الرائعة ( جيسكا لانج ) دور ( فرانسيس ) ، وبالطبع كنا مبهورين أكثر بجمالها الباذخ . وصلنا الى مركز الثقافة فى شارع شريف ، وكان أول ما لفتنى عند دخول الشقة الواسعة تلك الدواليب الضخمة(الى اليسار)والتى تراكمت فيها أعداد نشرة نادى السينما العظيمة . كان متاحا أن تأخذ منها ما تشاء ، وهو ما فعلناه دون تردد . داخل قاعة العرض الصغيرة جلسنا فى الصف الأخير لنشاهد فيلما عراقيا روائيا طويلا اسمه ( المنفذون ) يتناول بشكل ركيك تنفيذ عملية عسكرية عراقية داخل الأراضى الإيرانية ! لم نستطع الصمود إلا لدقائق هربنا بعدها من القاعة . عند الخروج شاهدت الناقد الكبير الراحل سامى السلامونى يدخل الى المركز بصحبة المخرج الكبير الراحل كمال الشيخ . عدنا بالأوتوبيس المهتز ، وأظن أننا فتحنا هذه المرة حواراً عن أحد أفلامنا المفضلة وهو رائعة (كل هذا الجاز ) . الشئ المؤكد أننى عدت بعد ذلك الى مركز الثقافة السينمائية وشاهدت أفلامه وشاركت فى ندوتى الأحد والأربعاء . وفى كل مرة أتمثل شابين لايتوقفان عن الحديث عن ( جيسيكا ) الجميلة وعن ( بوب فوس ) ساحر السينما .

هناك تعليق واحد:

  1. صفاء الليثى29 مايو 2010 في 2:27 م

    مبروك المدونة ، الخط كبير جدا، الموضوع نوستالجيا مكتوب بروح كاتب روائى ساخر، هذه مفاجأة لى ،ولكن من هى جيسيكا الجميلة؟ رجاء المتابعة بجزء 2 من الفلاش باك نوستالجيا.

    ردحذف