الاثنين، 31 مايو 2010

نوستالجيا :
أن تشاهد " مارلون براندو " فى دور " مارك أنطونيو " !
هناك أفلام قليلة لا تمل مشاهدتها مرارا وتكرارا ليس على سبيل شغل وقت الفراغ ولكن لأنك تكتشف فى كل مشاهدة شيئا جديدا ،وتستعيد خبرة المشاهدة السارة والإكتشاف الأول ، وقد ارتبط فيلم (يوليوس قيصر) (1953 ) بحفنة من المباهج الملونة ليس أقلها أننى أكتشفت من خلاله لأول مرة النجم الفذ ( مارلون براندو ) والشاعر والكاتب المسرحى الأعظم (ويليام شيكسبير ) وشخصية (يوليوس ) نفسها المليئة بالمتناقضات ومناطق القوة والضعف .
كنت فى الصف السادس الإبتدائى طفلا شغوفا بمتابعة ما تعرضه قناتا التلفزيون المصرى الوحيدتان ( الأولى والثانية ) ، وكانت خبرتى عما يطلقون عليه الدراما لا تتجاوز أفلام نادى السينما المدهشة الذى يستحق حديثا خاصا ، وبعض الأفلام الأجنبية فى سهرات القناة الثانية ، وطوفانا من المسلسلات العربية والأجنبية من (كوجاك ) الى (منزل صغير فى البراري ) ومن (الساحرة ) بطولة (اليزابيث مونتجمرى ) الى المفتش (كولومبو ) بطولة ( بيتر فولك ) ومن ( رجل بستة ملايين دولار ) الى ( المرأة الخارقة ) الى (مهمة مستحيلة ) الى( ملائكة تشارلى ) الى (بارنابى جونز ) و( ملائكة تشارلى ). بل اننى شاهدت مسلسلات قديمة جدا كان يعيدها التليفزيون مثل ( الهارب ) بطولة ( ديفيد جونسون ) والقديس ) بطولة ( روجر مور ) و( بيتون بليس) و( عائلى بيركلى ) بطولة الرائعة ( باربرا ستانويك ) ، وتحتفظ الذاكرة أيضا بمسلسلات أخرى مثل ( هارت تو هارت ) و(دكتور كوينسى ) ، وأعمال عن نصوص أدبية مثل ( الحرب والسلام ) و( رجل غنى .. رجل فقير ) و( الجذور ) وغيرها من روائع أعمال السبعينات ، وبالطبع كان التليفزيون يتحفنا من وقت لآخربفيلم عربى نتحلق لمشاهدته حامدين شاكرين مسرورين مهللين .
فى ذلك اليوم الذى لا أنساه ،كنت جالسا على مقعد بجوار التليفزيون مستغرقا فى القراءة ، فى الغالب كنت أقرأ كتاب الناقد والمعلق الكروى الراحل ( محمود عفت ) عن (المجرى مصطفى عبده ) . كان التلفزيون مفتوحا على فيلم يرطن أبطاله بالإنجليزية ويشكل مايشبه المؤثر الصوتى فى هامش الشعور . ما تعرفش هل زهقت من القراءة أم أردت الذهاب لإحضار كوب من الماء , المهم أننى مررت أمام الشاشة فى تلك اللحظة التى يعرض فيها أهم مشاهد فيلم يوليوس قيصر الفيلم والمسرحية معا . مار ك انطونيو ( مارلون براندو ) يحمل جثمان يوليوس قيصر ( جون جيلجود ) ويمدده أمام شعب روما فى ساحة واسعة فى حين يراقبه قتلة القيصر وعلى رأسهم بروتس ( جيمس ميسون ) . وقفت متسمرا ومذهولا لا أعرف بالضبط ما الذى أشاهده ولكنى لم أستطع العودة الى مقعدى حتى نهاية الفيلم ، فلما انتهى جريت الى صحيفة اليوم لأسمع وأقرأ لأول مرة عن مسرحية شكسبير ( يوليوس قيصر ) وعن البطل الوسيم الذى اكتسح الجميع بخطبة الساحة الرائعة ( مارلون براندو ) ، وعن مخرج الفيلم ( جوزيف مالكوفيتش ) .
يقول الراحل العظيم ( محمد عبد الوهاب ) انه عندما استمع لأول مرة فى طفولته لمونولوج سيد درويش الشهير ( أنا المصرى كريم العنصرين ) أصابته هزة وجدانية أفقدته صوابه فجعل يجرى محتبس الأنفاس حتى وصل الى منزله دون أن يعرف أو يعى لماذا يجرى على النحو وكأن وحشا يطارده . ما وصفه عبد الوهاب أقترح أن نطلق عليه ( هيبة الجمال ) وسطوته . فى هذه الحالة يصبح جهاز الاستقبال لدينا أقل من أن يستوعب جرعة الجمال التى تعرض لها رغم احساسه بوجودها . حاجة كدة أشبه بطفل صغير ألقيته فى محيط هائج فأخذ يضبش ويشرق ويلقف أنفاسه لأنه لا يحتمل هذه الطاقة رعم اعترافه بوجودها وسطوتها ، لايستطيع استيعابها ولا يفهم لماذا فعلت به الأفاعيل . شئ قريب من ذلك حدث لى عندما شاهدت براندو يبدع ويمتع ويصول ويجول فى دور مارك أنطونيو رغم أنه قبل مشهد الخطبة الشهير لم يظهر إلا فى لقطات معدودة كان فى أحدها يمر - مجرد مرور- بصحبة يوليوس قيصر أمام بعض المتآمرين ، أحببت الفيلم ولم يحدث أبدا أن عرض دون أن أشاهدة ثم أتوقف طويلا أمام روعة مشهد الساحة كتابة وأداء وإخراجا . الطريقة التى ينظر بها براندو . استخدامه لجسده . اسلوب الإلقاء الذى يحتمل المعنى المزدوج . التوظيف الرائع للمكان . المشهد مسرحى بامتياز :خطبة أمام جمهور فى ساحة ومع ذلك لاتفقذ أبدا احساسك أنك تشاهد منظرا سينمائيا من خلال تلك القطعات الذكية على الوجوه ، والتوظيف المدهش للقطات رد الفعل ، وقد تتاح الفرصة لكى أنقل لكم تحليلا لأداء براندو فى هذا المشهد من نص أحنبى مترجم عُنى مؤلفه خصوصا بلقطات رد الفعل ، ودورها فى التأثير النهائى للمشاهد الناجحة دراميا وسينمائيا .
بسبب هذا الفيلم أيضا بدأت البحث عن شيكسبير وترجمات أعماله المتعددة حيث كنت أجمع المسرحية الواحدة بأكثر من ترجمة، وأحاول فى مرحلة تالية المقارنة بينها ، ومازلت أومن برأى أحد نقاد الدراما الكبار الذى قال إن مفاتيح الدراما عشرة يمتلك شكسبير وحده تسعة منها ! يكفى أن تقرأ يوليوس قيصر لتعرف كيف يتم بناء الشخصية ، وكيف يتم التعبير عن عالمها الداخلى وكيف تعبر عن منطقها لدرجة أنك تتفهم مبررات بروتس للمشاركة فى اغتيال قيصر بنفس الدرجة التى تتفهم مبررات أنطونيو ( الإبن الروحى لقيصر ) للأخذ بثأره ، وتحريض شعب روما على الثورة ضد المتآمرين .
كنت أتمنى أن أقدم لك ترجمة دكتور محمد عنانى الكاملة الرائعة للمسرحية الصادرة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب ، ولكنى لظروف المساحة سأكتفى بنشر ما تيسر من مشهد الخطبة ( المشهد الثانى من الفصل الثالث ) . الحقيقة أن المشهد يبدأ من نقطة سابقة وهى دخول أنطونيو على القتلة فى الكابيتول وأمامهم جثته .. يحاولون استمالته الى صفهم بوعد أن يكون له دور فى عالم ما بعد قيصر ، ولكنه يوهمهم بالموافقة بشرط أن يسمحوا له بأن يحمل جثة أبيه الروحى الى ساحة الكابيتول لتأبينه بما يليق بالرجل الذى حقق المجد لروما . يوافق المتآمرون ويبدأ المشهد الثانى بخطبة من بروتس يبرر بها لماذا شارك فى قتل قيصر من أجل روما وليس لأسباب شخصية ،ثم يأتى دور أنطونيو فيدخل حاملا الجثمان ، وينطلق مارلون براندو العظيم فى تشخيص ليس كالتشخيص وتجسيد ليس كالتجسيد ، بل إن أنطونيو نفسه ما كان يستطيع أن يدافع عن قيصر مثلما كتب شيكسبير وأبدع براندو ( الإقتباسات بتصرف)
أنطونيو : بالأمس فقط كانت كلمة واحدة من فم قيصر
تتحدى العالم كله
أما الآن فهاهو الآن طريح الثرى
وأحقر الحقراء أرفع من أن ينحنى احتراما له
أيها السادة لو أنى جئت لأشحذ عقولكم
وأستثير قلوبكم حتى تثوروا وتغضبوا
لأسأت الى بروتس ، وأسأت الى كاشياس
وهما -كما تعرفون -رجلان شريفان
وإذن لن أسئ الى أى منهما ، بل إنى أوثر
أن أسئ ألى الموتى ، وأسئ الى نفسى ، بل وأسئ
إليكم أنتم ،
على أن أسئ لمثل هؤلاء الشرفاء !
ولكن فى يدى ورقة مختومة بخاتم قيصر
وجدتها فى غرفة مكتبه . إنها وصيته!
أرجو العذرة فلن أقرأها أمامكم
إذ لوعرف الأهالى ما فى هذه الوصية
لارتموا على قيصر ، يقبلون جراحه بعد موته
( و قبل أن يلقى أنطونيو بوصية قيصر بمنح كل رومانى 75 درهما مع التنازل للشعب عن كل البساتين والحدائق يستثير عاطفتهم بالحديث المؤثر عن أبيه الروحى حتى يشعل الثورة على المتآمرين )
أنطونيو : إن كان لديكم دموع فاستعدوا للبكاء
تعرفون جميعا هذا الوشاح
واذكر أول مرة ارتداه قيصر
كان ذلك مساء يوم من أيام الصيف فى خيمته
فى اليوم الذى قهر فيه جيش الترقيين الأشرس
انظروا! من هذا الشق .. اخترق الوشاح خنجر
كاشياس
وانظروا الشق الذى شقه كاسكا الحقود!
وهنا طعنة بروتس.. الذى أحبه قيصر كل الحب !
وعندما انتزع خنجره اللعين
تدفق الدم فى إثره هنا .. انظروا..
لكأنما خرج من الباب مسرعا ليتأكد
إن كان بروتس حقا هو الذى طرق هذه الطرقة
النكراء !
إذ أن بروتس -كما تعلمون -كان كالملاك فى عين
قيصر!
واشهدى أيتها الآلهة
كم كان قيصر يحبه ويعزه!
كانت تلك أقسى الطعنات جميعا !
إذ عندما شاهده قيصر النبيل وهو يطعنه
أحس بالجحود يقهره..
فالحجحود أقوى من أسلحة الخونة..
وعندها انصدع قلبه الجبار
وسقط قيصر العظيم ، وعلى وجهه هذا الوشاح ،
على قاعدة تمثال بومبى
الذى أخذ ينزف الدم بلا توقف.
ما أبشع تلك السقطة يا أبناء وطنى..لقد سقطت عندها وأنتم! سقطنا جميعا عندها!
بينما تباهت الخيانة الدامية فوق رؤؤسنا
آه! إنكم تبكون الآن وتشعرون كما أرى
بلذعة الأسى! ما أكرم عبراتكم !
أيها الرحماء الأبرار! أتبكون لرؤية الجروح
التى مزقت رداء قيصر؟ انظروا إذن !
هاهو قيصر نفسه وقد مزقه الخونة
( ملحوظة أخيرة : لم تقرر علينا طوال المرحلة الثانوية أى مسرحية لشيكسبير إذ كانت وزارة التربية والتعليم مشغولة بأن نتعرف على الروائع الحقيقية فى الأدب العالمى مثل روايات (المزور ) و( المرأة التى اختفت ) و (السيدة التى توحّمت ) !!!)

هناك تعليق واحد:

  1. رائع أستاذ محمود,قد تكون ذكريات حضرتك مع نادي السينما مشابهة لذكرياتي..فقد كان هذا البرنامج نافذة نادرة فتحت عيني على عالم سينمائي ساحر،أذكر اني مرة ظللت نصف ساعة أحاول نطق اسم (سيدني بواتيه)-بعد ان سألت أبي عن ذلك الممث الأسود على الشاشة،كنت فى حوالي الصف الرابع الابتدائي.لم أقرأ للأسف مسرحية شكسبير ولم أقرأ له أي نص في الحقيقة رغم أنني رأيت عروضا وأفلاما مقتبسة عن نصوصه،لكني دائما ما شعرت أن الاقتراب من نص شكسبيري يحتاج طقوسا واستعداد خاص..نفس الشعر الذي كان ينتابني حين أقدم على رؤية فيلم لبيرجمان أو تاركوفسكي.
    بالنسبة للرويات التي تدرس في منهاج التعليم فان الروايات المذكورة تعتبر حقا من الروائع الفنية أذا أخذت حضرتك في الاعتبار عن ما يدرس الان (شئ عجيب في مظهر رواية)، وتدعى العناكب.وهي جريمة في حق كل كتاب الروايات على مر العصور.

    تحيّاتي. عمر منجونة

    ردحذف