الاثنين، 24 مايو 2010

( كتبت كثيرا عن فيلم ( بابل ) ليس فقط بسبب براعة السرد ، ولا لذكائه فى المعالجة ، ولكن لأنه من أفضل الأفلام التى تحدثت عن العولمة من منظور إنسانى عام وليس من منظور إقتصادى ضيق أو منظور إعلامى مكرر . يقول الفيلم البديع إن العالم واحد لأن الإنسان واحد فى مشاعره وأحاسيسه وإحباطاته . حتى تبلبل الألسنة لن يكون عقابا ما دمنا نشعر بآلام بعضنا البعض . هنا تفصيل هذه القراءة للفيلم من خلال مقال نشرته على صفحات مجلة ( أكتوبر ) القاهرية فى الأول من أبريل ( نيسان ) من العام 2007 ).



(بابل ) .. عندما تصمت الكلمات وتتحدث المشاعر!



محمود عبد الشكور






ليس هناك فن كالسينما بإمكانه ان يطوف بك الدنيا على بساط الريح مع أنك تجلس على مقعدك لترى الإنسان بصورة اعمق وأكثر اختلافا .. وليس هناك فيلم يمس المشاعر ويؤكد على هذه المعانى مثل الفيلم الرائع (بابل) الذى فاز مؤخرا بجائزة الكرة الذهبية فى الدورة الرابعة والستين لجوائز رابطة الصحفيين الأجانب فى هوليوود .



وحتى لو تجاوز الأوسكار فيلم ( بابل ) لمخرجه المكسيكى الموهوب ( أليخاندرو جونزاليس إينيراتو ) فإن جائزة هذه الملحمة السينمائية الحقيقية فى تأثيرها الطاغى على كل من يشاهدها حيث تمتزج الحرفة مع الفكرة المبتكرة للتأكيد على أن الإنسان واحد مهما اختلفت الأماكن والأزمنة و الألسن ، ولترجمة معنى العالم كحجرة واحدة ( لم يعد قرية صغيرة فقط ) ما يحدث فى شرقه يؤثر على غربه ، ولو ألقيت حجراً فى شماله لسقط بالضرورة على شخص ما فى جنوبه .



الأهم من الفكرة هو تحويلها الى دراما . البداية من عنوان الفيلم ( بابل ) الذي يعود بنا الى أصل تعدد اللغات وفقا لرؤية التوراة المعروفة حيث فكر الإنسان فى بناء برج ليصل الى السماء فعاقب الله البشر بأن بلبل ألسنتهم حتى لايفهموا بعضهم البعض ، وهنا فقط توقف بناء البرج الذى أُ طلق عليه برج بابل . هذا هو النص التوراتى من سفر التكوين : ( وقالوا: هلم نبنى لأنفسنا مدينة وبرجا رأسه بالسماء. ونصنع لأنفسنا اسما لئلا نتبدد على وجه كل الأرض .فنزل الرب ينظر المدينة والبرج اللذين كانا بنو آدم يبنونه. وقال الرب : هو ذا شعب واحد ولسان واحد لجميعهم و هذا ابتداؤهم بالعمل . والآن لا يتنع عليهم كل ما ينوون أن يعملوه . هلم ننزل ونبلبل هناك لسانهم حتى لا يسمع بعضهم لسان بعض .فبددهم الرب من هناك على وجه كل الأرض . فكفوا عن بنيان المدينة ، لذلك دعى اسمها ( بابل ) لأن الرب هناك بلبل لسان كل الأرض . ومن هناك بددهم الرب على وجه كل الأرض ).



مبدعو فيلم ( بابل ) يترجمون هذا التبلبل فى الألسنة من خلال تقديم أربع قصص متشابكة تدور بين ثلاث قارات وبخمس لغات مختلفة هى : العربية والإنجليزىة والفرنسية والإسبانية واليابانية ، ويمكن أن تضيف الى ذلك لغة البربر التى يتكلمها بعض المغاربة فى الفيلم .هذا التعدد اللغوى - مع ذلك- لن يشكل حاجزا مستحيل العبور لأن المشاعر الإنسانية هى التى ستنوب عنه . بمعنى آخر يقول الفيلم العبقرى إنه حتى إذا تعددت اللغات فالمشاعر واحدة والإنسان واحد: بضعفه وبقوته .. بغرائزه وبرغباته .. بهذا الجانب الذى يجذبه الى طين الأرض ، وبتلك النفحة الإلهية التى ترفعه الى عنان السماء . حتى إذا تعطلت لغة الكلام سيتواصل الإنسان عن طريق المشاعر . شخوص من لحم ودم ستترجم هذا المعنى بكل اللغات ، وسنلهث معها فى برج بابل جديد بعرض الكرة الأرضية واتساعها ، وبعمق رغبات الإنسان ومخاوفه وحبه للحياة وللتواصل مع الآخر . سيحكى الفيلم من خلال سيناريو مذهل البناء حكاية بسيطة ومركبة معا : بسيطة لآنها تندأ بإطلاق رصاصة عشوائىة فى قرية مغربية ، ومركبة لأن تلك الرصاصة ستقودنا الى الولايات المتحدة واليابان لتعرّي نفوساً ، ولتكشف أسراراً، ولتجعلنا نرى الإنسان كما لم نره من قبل .



سيناريو مركّب

قصة بابل البسيطة يمكن صياغتها على النحو التالى :فى قرية مغربية معزولة تراهن طفلان من الرعاة على التصويب ببندقية جديدة أحضرها الأب لحراسة أغنامهم . أطلق الطفل الصغير الرصاص عشوائيا فأصاب سيدة أمريكية فى أوتوبيس سياحى . عندما نقلها زوجها الى قرية مغربية لإنقاذها اتصل بسفارته وهنا اعتبر الحادث إرهابيا .انقلبت الدنيا فى حين لم يكن الزوج مهتما إلا بإنقاذ زوجته وبالإطمئنان عيى طفليه اللذين تركهما بصحبة مربية مكسيكية . المربية قررت حضور فرح ابنتها فى المكسيك ، واضطرت الى اصطحاب الطفلين معها ، ولكن عند العودة منعت من الذخول من جديد الى أمريكا لأنها مهاجرة غير شرعية ، وبينما تنقذ الزوجة فى المغرب ، يتم القبض على الطفلين سبب الأزمة ووالدهما ، ويصبح مصير الشخص الذى باع البندقية للراعى معلقا بشهادة رجل يابانى أكد على كلام صديقه بأنه أهداه البندقية فى رحلته السياحية الى المغرب .

حكاية كهذه يمكن روايتها سينمائيا بطريقة تقليدية جدا خاصة أنها تحتوى على كل التيمات المعروفة فى الأفلام الهوليودية ( حب وهروب ومطاردة وعقد نفسية وإرهاب ..إلخ )، ولكن المخرج المكسيكى الذكى وكاتب السيناريو ( جييرمو أرباجا ) الذى كتب النسخة الأولى من النص قدما سردا شديد التركيب والتداخل ، وابتعدا عن السرد التقليدى ليس من باب خاف تعرف ، وإنما لكى يؤكدا فكرة التداخل والتعدد الإنسانى بل وفكرة الغموض التى لن تمنعنا من اكتشاف ارتباط المصائر ، أى أن السرد السينمائى هنا هو المعادل الدرامى لفكرة برج بابل : ألسنة متعددة ولكن البرج/ العالم واحد ، وهذا هو الفيلم نفسه : حوادث متشعبة لا رابط بينها سرعان ما ستقودنا فى النهاية الى أغلاق الدائرة .

كنت أتمنى لو تمت ترجمة سيناريو فيلم ( بابل )، ولكنى- فى سبيل توضيح الفكرة السابقة - سأحاول - مجرد محاولة - أن أنقل لكم الإنتقالات الذكية بين المشاهد مع الإستدراك بأن بابل أيضا من الأفلام التى يصعب روايتها.. ولكنها للمشاهدة فقط.

(1) المغرب : تاجر السلاح المغربى يبيع بندقية حديثة لراع فى منطقة جبلية مقابل مبلغ من النقود وعنزة صغيرة . ابنا الراعى يجربان البندقية لاختبار مداهاالذى يصل الى ثلاثة كيلو مترات.الإبن الأصغر يوسف يطلق النار عشوائيا . يتوقف أوتوبيس سياحى فجأة . الولدان يهربان من المكان خوفا وفزعا .

(2) الولايات المتحدة :مربية مكسيكية تتحدث مع طفلين لا نعرف من هما بالتحديد . الحوار بالإنجليزية والإسبانية .تتلقى تليفونا من شخص لا نعرفه يطالبهابأن تبقى مع طفليه ، وألا تذهب الى حفل الزفاف . ابن أخيها المكسيكى يزورها ويقنعها بالذهاب معه لحضور عرس ابنتها . تضطر لاصطحاب الطفلين معها .

(3) اليابان :فتاة مراهقة صماء بكماء تلعب كرة السلة . إنها تبدو شديدة الشراسة فى المشاجرة مع زميلاتها . والدها ينتظرها . تستقل السيارة معه . من خلال لغة الإشارة معه نعرف أنها تفتقد اهتمام والدتها المتوفاة .

(4) المغرب : عودة قليلا الى الوراء من خلال حوار عاتب بين زوج أمريكى (براد بيت ) وزوجته (كيت بلانشيت )فى أحد المقاهى . نراهما بعد قليل فى الأوتوبيس السياحى. فجأة تخترق رصاصة الطفل يوسف الزجاج فتصيب الزوجة . هرج ومرج وصرخات داخل الأوتوبيس بالإنجليزية والفرنسية . المرشد السياحى المغربى يعرض نقل المرأة المصابة الى قريته.فى مكان آخر الراعى يعود الى أسرته ليخبرها أن الإرهابيين هاجموا أوتوبيسا سياحيا وقتلوا سيدة أمريكية كما تقول وسائل الإعلام . الطفلا يشعران بالذعر الشديد.(5) اليابان :الفتاة المراهقة البكماء تدخل أحد النوادى الليلية مع صديقاتها . الشباب يتجاهلون النظر إليهن . إحدى الصديقات تقول لها : إنهم يعاملونك كالوحش . تحاول الفتاة إغواء الشباب بتعرية جسدها بطريقة مبتذلة .

(6) المكسيك :المربية والطفلان وابن شقيقها فى القريةالتى سيقام فيها العرس . دفء فى الإستقبال . الطفلان بلعبان . مشاهد متنوعة لحياة صاخبة وفقيرة.بائعات الهوى فى شوارع المدن .شريط الصوت لأغنيات راقصة ولموسيقى مكسيكية.

(7)المغرب :السائحة الأمريكية تتألم فى منزل مغربى فقير . لاتوجد عربة إسعاف . يستدعون طبيبا بيطريا لتخييط الجرح ومنع النزيف إنقاذا للموقف . عجوز مغربية تقرأالقرآن كمساعدة روحية للسائحة . زوجها يثور على رجل بوليس مغربى وصل الى المكان .يتعارك الزوج أيضا مع سائق الأوتوبيس الذى يريد أن يرحل ببقية السائحين .الأوتوبيس يرحل بالفعل تاركا السائح مع زوجته فى القرية الفقيرة .

(8)اليابان : المراهقة اليابانية فى عيادة للأسنان . تبدو شديدة البراءة ولكن فجاة تحاول إغواء الطبيب الذى يطردها من العيادة . من الواضح أنها تحاول التواصل مع الآخر بشتى الطرق والوسائل.

(9) المكسيك : فرح ابنة المربية . الجميع يشربون . المربية ترقص فى سعادة . تلتقى صديقا قديما ماتت زوجته وتستعيد معه لحظات عاطفية . تطعم الطفلين وتقبّل ابنتها استعدادا لرحلة العودة .

(10) المغرب :المرشد السياحى المغربى يصلى . يسأل زوج السائحة عما إذا كان له أبناء . يخرج له صورة الطفلين الللذين شاهدناهما مع المربية المكسيكية . فى مكان آخر ، البوليس المغربى يقتحم منزل تاجر السلاح . يعذبه ويعامله بشراسة . يقول التاجر دفاعا عن نفسه إنه حصل على البندقية من سائح يابانى كان يزور المغرب ، والتقط معه صورة تذكارية . التاجر يبوح أيضا باسم الراعى الذى اشترى البندقية . فى طريق البوليس الى منزل الراعى يلتقى بالطفلين دون أن يعرفهما . الطفلان يضللان الشرطة .يعودان الى المنزل .يعترفان للأب أنهما وراء حادث السائحة الأمريكية .

(11)اليابان :الفتاة المراهقة تعود الى منزلها .رجل بوليس يزورها ليسأل عن والدها . تقول له بالإشارة إنه غير موجود . الضابط يرد بالإشارة أنه أراد فقط الإستعلام منه عن شئ . تصطحب صديقتها للخروج مع بعض الشباب . تذهب الى أحد الملاهى . يدور بها المكان تحت تأثير الخمر والمخدر .

(12) المكسيك :فى السيارة العائدة الى الحدود الأمريكية نشاهد المربية والطفلين وابن شقيقها الشاب . ضابط الحدود يستوقف السيارة . يشتبك معه الشاب ، ويهرب بالسيارة وسط ظلام الصحراء . الطفلان يصرخان والمربية فى ذهول .

(13)المغرب : الراعى المغربى يصفع ولديه بعد اكتشافه أنهما سبب المشكلة . يستقر رأيه على الهروب معهما . إنه مازال يعتقد أن السائحة قتلت وفقا لوسائل الإعلام . رجل البوليس المغربى الشرس يقتحم المنزل فلا يجد فيه سوى الزوجة -أم الطفلين - والإبنة . يضرب الأولى ويأخذ الثانية كرهينة!

14) المكسيك : الشاب المكسيكى يتخلى عن عمته المربية والطفلين ويهرب بالسيارة . الجوع والعطش ينهك الطفلين فيبكيان . يبيتان مع الربية فى الصحراء حتى الصباح . عندما تشرق الشمس تتركهما المربية للبحث عن سيارةأو طائرة إنقاذ . يكتشفها بوليس الحدود . يقيد يديها . يقودها الضابط لكى تدله عن مكان الطفلين .

(15)اليابان : المراهقة تقرر الذهاب الى البوليس .تطلب منهم أن يزورهم فى الشقة رجل البوليس الذى سأل من قبل عن والدها . تقول لهم بالإشارة إن لديها معلومات مهمة .

(16) المغرب : سيارات الشرطة تطارد الراعى الهارب وابنيه . تطلق عليهم النارفتصيب الإبن الأكبر .يتهور الإبن الأصغر فيرد باستخدام البندقية ليصيب أحد رجال البوليس . يستمر أطلاق النار . فجأة يصرخ الإبن الأصغر مستسلما لإنقاذ أخيه المصاب . يستسلمون جميعا للشرطة .

(17)المكسيك :قوات الحدود تستجوب المربية البائسة. إنها فى نظر القانون متسللة بشكل غير شرعى الى أمريكا رغم أنها أقامت فيها لمدة 16عاما . تقول فى كلمات مؤثرة أنها لم تفعل أكثر من حضور فرح ابنتها .

(18)اليابان : الفتاة المرهقة تستقبل الضابط . تتفاهم معه بالإشارة. نعرف منها لأول مرة أنها شاهدة على انتحار أمها من البلكونة ، وأن والدها لا علاقة له بالأمر . الضابط يتملكه الذهول لأنه جاء فى موضوع آخر هو سؤال الأب عما إذا كان يعرف رجلا مغربيا حصل منه على بندقية . صورة الأب مع الرجل المغربى تحسم الإجابة. تحاول المراهقة إغواء الضابط ولكنه يرفض التجاوب معها .

(19)المغرب : الهليوكبتر وصلت أخيرا الى القرية لنقل السائحة الأمريكية مع زوجها . المرشد الغربى يرفض أن يتقاضى أى نقود من الزوج . يتصل الزوج من المستشفى بطفليه على الحدود المكسيكية . يبكى من التأثر .

(20)اليابان :الفتاة تعطى الضابط ورقة مكتوبة ومطوية . يودعها . يقابل الأب عند عودته . الأب يؤكد أنه يعرف الرجل المغربى . وأنه منحه بندقيته عرفانا وتقديرا . يتطرقان الى موضوع الزوجة المنتحرة . يقول الأب أن زوجته انتحرت بإطلاق النار على راسها وليس بإلقاء نفسها من البلكونة .الأب يعود الى منزله يقترب من ابنته . الضابط فى أحد البارات يفتح الورقة التى قدمتها له الفتاة . لانعرف ما فيها . ينتهى الفيلم والأب يحتضن ابنته وهى عارية فى البلكونة وكأنهما يتفقان على إخفاء سر جديد ربما يكون أيضا له علاقة بتلك الرصاصة التى انطلقت عشوائيا فى المغرب لكى تؤرق فتاة مراهقة وأبيها الغامض فى اليابان !

لغة الأحاسيس
من هذا البناء الفذ للسيناريو نكتشف أن الفيلم المكتظ باللغات والجنسيات تعامل مع اللغة تماما كما تعامل مع إشارات الفتاة اليابانية . إنها مجرد وسيلة للإتصال قد تنجح وقد لا تنجح ولكن الأهم أن يعود البشر الى إنسانيتهم، وأن يتعيدوا الإحساس بالآخر، وفى كل الأحوال ، الإنسان هو الإنسان . هناك أخيار وأشرار فى كل الجنسيات ، فالمرشد المغربى الخدوم يقابله الضابط المغربى الشرس ، والمربية المكسيكية الطيبة يقابلها ابن أخيها الندل الذى يتركها فى الصحراء ، والشباب اليابانى الغارق فى المخدرات يقابله رجل البوليس الذى يرفض انتهاك جسد الفتاةالمراهقة التى يرفضها الجميع .الإنسان بداخله كل الرغبات الشريرة والخيرة وإن كان الفيلم ينتهى الى الثقة فى الخير بداخل الإنسان ، بل ويراهن على أنه سيتخذ الموقف الصحيح ، وحتى الشا ب المكسيكى الهارب يمكن أن تفهم موقفه خاصة أن الفيلم يقدمه من خلال صورة لطيفة ومؤثرة ، بل إنه أفرب الى شاب طائش منه الى فتى شرير، أما النهاية الغامضة فهى تؤكد على رفض فكرة إعطاء اليقين المطلق فيما يتعلق بالإنسان ، ورفض فكرة أن تقدم الدراما نهايات مريحة .
قامت خطة المخرج المتمكن "أليخاندرو جونزاليس " على استخدام الكاميرا المحمولة فى معظم مشاهد الفيلم مما أعطى الفيلم طابع الفيلم التسجيلى أو الإخبارى ، ومنح ذلك المخرج حرية التقاط أدق المشاعر والتعبيرات وحركة الأيدى . استخدم المخرج أيضا اللقطات القريبة ( الكلوزات بأنواعها )لأنها أكثر اللقطات حميمية وأكثرها قدرة على الكشف عن المشاعر فوق الوجوه . الفيلم حافل بالمشاهد المؤثرة التى لاتنسى مثل مشهد المربية المكسيكية مقيدة اليدين وهى تقود الشرطة للبحث عن الطفلين دون الإهتمام بمصيرها ، ومشهد الفتاة اليابانية وهى تبكى بعد أن رفض الضابط الإقتراب منها ، وقد ساعد على نجاح هذه المشاهد إدارة المخرج المذهلة لخليط متنافر من الممثلين المختلفين من حيث الجنسيةواللغة والخبرة .مثلا هناك نجمان محترفان مثل " براد بيت " و"كيت بلانشيت "فى دورين مؤثرين ،واليابانية الرائعة "رينكو كيكوشى " فى دور صعب وفى دورمركب أدته باقتدار ، و" جايال جارسيا برنال "فى دور الشباب المكسيكى المغامر ، والممثلة القديرة " أبريانا برازا " فى دور المربية الطيبة ، بل إن هناك ممثلين مغربيين صغيرين لعبا دورى طفلى الراعى هما " أبو بكر آيت القاضى " و" سعيد طرشانى ، والجميع أن كل ممثل من هؤلاء يشخص بلغته فيمتع ويؤثر ، وقد يدفع بالدموع الى العيون .
وهناك نجوم آخرون وراء ملحمةبابل السينمائية مثل شريط الصوت الذى امتلأ بموسيقى متنوعة عربية وأسبانية بالإضافة الى التوظيف المدهش للحظات الصمت خاصة فى مشاهد المراهقة اليابانية الصماء والبكماء، وهناك المونتاج الذى نجح الى حد كبير فى تحقيق الإنتقالات من صحراء المغرب الى صحراء المكسيك ،ومن شوارع اليابان الىحجرات القرى الجبلية المغربية ، وإن كنت أشعر ببعض التطويل والإستعراض المونتاجى المجانى فى مشهد المراهقة اليابانية وهى تحت تأثير المخدر ، ولكن هناك -بالمقابل - انتقالات شديدة الذكاء من الطفلين المغربيين بعد إصابة الأوتوبيس الىالطفلين الأمريكيين وهما يجريان داخل منزلهما مع المربية ، والإنتقال اللافت من صراخ السائحة الأمريكية بسبب تخييط الجرح الى الصمت الكامل وإلغاء شريط الصوت تماما تعبيرا عن الحدث من وجهة نظر اليابانية الصماء ، ومن أذكى مشاهد المونتاج الرجوع بالزمن الى ما قبل إطلاق النار على الأوتوبيس رغم أننا كنا قد شاهدنا الحادث من زاوية موضوعية فى بداية الفيلم ، وهذا البناء المونتاجى يبعد ذهن المتفرج عن الأفلام الهوليودية التقليدية التى كان يمكن أن تولّف مشهدا مماثلا بالقطع المتوازى التقليدى بين خارج الأوتوبيس وداخله من وجهتى نظر مختلفتين .
قدم مدير التصوير دراسة خاصة للنور والظل فى أجواء متباينة وعلى شخصيات متنوعة ، وبرع بشكل خاص فى المشاهد الليلية مثل مشهد هروب المربية مع الطفلين فى صحراء المكسيك ، كما يلفت الإنتباه إضفاء واقعية خشنة على الصورة فى مشاهد القرية والصحراء المغربية بدرجة جعلتها أقرب الى المشاهد الإخبارية المصورة فى مناطق الحروب والكوارث .
فيلم (بابل ) ملحمة سينمائية رائعة شكلا ومضمونا . يقول الفيلم لكل مشاهد : تكلم أى لغة..واعتنق أى دين ..وانشد أى أغنية .. فقط تذكر شيئا واحدا هو أنك إنسان .. وتصرف بما تقتضيه هذه الكلمة من تصرفات .
وىا عينى على السينماالجميلة عندما تُطلق هذه الأفكار البديعة !

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق